يتعيّن على أوكرانيا التخلص من العادات والهياكل التنظيمية القديمة ومباشرة الإصلاحات المؤسسية

كيف ستكون أوكرانيا بعد الحرب؟ التخطيط يأتي قبل حلول السلام

جندي أوكراني يتفقد أنقاض مبنى سكني مدمر في كييف في 15 مارس 2022. رغم الهدوء النسبي للأسواق، ما زالت الحرب الأوركرانية تمثل تهديداً كبيراً للاقتصاد العالمي - AFP
جندي أوكراني يتفقد أنقاض مبنى سكني مدمر في كييف في 15 مارس 2022. رغم الهدوء النسبي للأسواق، ما زالت الحرب الأوركرانية تمثل تهديداً كبيراً للاقتصاد العالمي - AFP
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

قد يبدو الحديث عن إعادة إعمار أوكرانيا مبكراً فيما تحتدم حربها، فكيف لها بناء أي شيء تحت تهديد دائم بالضرب؟ لكن يُستحسن أن تركّز الحكومات والمحافل متعددة الأطراف، إلى جانب أوكرانيا ذاتها، على إعادة إعمار البلاد.

برغم أن القاعدة الأساسية لمساعدة أوكرانيا يجب أن تركز على المساعدات العسكرية والدعم الإنساني، إلا أن التخطيط لبعض جوانب إعادة إعمار البلاد ليس سابقاً لأوانه. ينبغي أن ينصب التركيز على التخطيط، برغم وجود بعض أعمال إعادة الإعمار الطارئة وغيرها من أشكال الدعم المطلوبة الآن، لكن الإنفاقات الضخمة ستأتي لاحقاً على نطاق واسع، وستتطلب من أوكرانيا إجراء إصلاحات محددة. يُعدّ إنشاء الهياكل والمسارات التنظيمية لهذه الإنفاقات أمراً ضرورياً. كما يجب أن تقود أوروبا جهود إعادة الإعمار لأسباب ليس أقلها أن تفككك أو عدم استقرار أوكرانيا سيجلبان عواقب سياسية واقتصادية وأمنية وخيمة على القارة بأكملها.

تبيّن أفعال مثل الهجمات الصاروخية على صومعة الحبوب الضخمة في ميكولايف وسرقة مخزون الحبوب أن تدهور الاقتصاد الأوكراني يُعدّ جزءاً من المخطط الروسي. كما رفض فلاديمير بوتين فتح ممرات إنسانية وأوقف صادرات الحبوب وأغار على المصانع ومحطات الطاقة والبنية التحتية الاجتماعية بالإضافة للطرق والموانئ والسكك الحديدية.

يُتوقّع انكماش الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا 45% هذا العام، وقد أبلغت 99% من الشركات في البلاد عن خسائر. تضررت السكك الحديدية ومخازن الحبوب وشبكات الاتصالات والعقارات والمدارس والمستشفيات، التي إما دمرتها القوات الروسية أو استولت عليها. كما توقف النقل البحري. فرّ الملايين من البلاد، فيما نزح ملايين آخرون داخلياً.

فاتورة الحرب

تقدّر إحصائيات كلية "كييف" للاقتصاد أن خسائر البنية التحتية الرئيسية بلغت 105 مليار دولار. سيكون ذلك جزءاً صغيراً من إجمالي فاتورة الحرب.

أنفقت الولايات المتحدة ما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا على "خطة مارشال" على مدى أربع سنوات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أي ما يعادل 179 مليار دولار معدلاً بمقاييس زمننا هذا. يُجمع حالياً خمسة أو ستة أضعاف ذلك المبلغ لإعادة إعمار أوكرانيا. تضغط بعض الجهات لاستغلال الأصول الروسية المجمدة لخدمة هذا الغرض برغم أن الأساس القانوني لتحقيق ذلك مشكوك فيه.

توجد مجموعة كبيرة من الأبحاث الاقتصادية حول إعادة الإعمار بعد الحرب، مع دراسات حالات العراق إلى أفغانستان وسريلانكا وهايتي وغيرها، غير أن محصلتها جميعاً أن هذه الجهود غالباً ما تفشل.

لا يشترط أن يكون الحال كذلك في أوكرانيا، فقد تكون الدولة المحاربة هي أفقر اقتصادات أوروبا، لكنها على الأقل ليست مثقلة بأعباء الدول التي تنخرط بإعادة الإعمار بسبب صراعات داخلية. تُعتبر الديمقراطية والمجتمع المدني أعظم نقاط قوة أوكرانيا، وقد أبرزت الحرب أهميتهما.

نالت حكومة فولوديمير زيلينسكي أيضاً إشادات كبيرة منذ بداية الحرب لكفاءتها رؤيتها، وسيدرك أي شخص تابع المسار المضطرب لأوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفييتي مدى تفردها في هذا الإطار. لقد تحركت الحكومة منذ اليوم الأول للهجوم الروسي لضمان الاستقرار المالي وتبسيط الضرائب لتسهل إتاحة الخدمات للنازحين.

عدم وضوح

بيّن ماتيو باترون، رئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في مكالمة هاتفية عبر تطبيق "زوم" أنه لا يوجد دليل يوضح كيفية إدارة تمويلات إعادة الإعمار. على سبيل المثال، ما هو مقدار الأموال التي ينبغي تخصيصها لإعادة الإعمار ولأي أولويات؟ كم من تلك الأموال يجب أن يكون منحة، وكم يجب أن يكون قروضاً؟ من سيشرف على صرفها وفي أي توقيت وبأي شروط؟ هل ينبغي إعادة توجيه الأصول الروسية المجمدة لأغراض إعادة الإعمار؟

هناك مراحل مختلفة لأي مشروع إعادة إعمار بهذا الحجم، لكن باترون يشير لحاجة فورية لإصلاح البنية التحتية الحيوية لتمكين الصادرات من التدفق مرة أخرى، لا سيما تلك الضرورية للأمن الغذائي. سيسهم إصلاح بعض السكك الحديدية والطرق والممرات المائية الداخلية بإعادة الحياة الطبيعية إلى أجزاء من البلاد إلى حد ما.

يبدو جلياً أن المستثمرين سيحتاجون لشعور بالأمان من هجمات المدفعية الروسية لضخ استثمارات جادة للبلاد مرة أخرى. لكن يتعيّن على حكومة أوكرانيا أيضاً تمهيد الطريق لمجموعة من الإصلاحات المؤسسية. تبدو الخطة مشابهة لما طالب به المانحون الأجانب والاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية قبل الحرب، بما في ذلك الإصلاحات القضائية وتلك المتعلقة بحوكمة الشركات والخصخصة في قطاع البنوك، وغيره من مجالات الاقتصاد التي ما تزال خاضعة لهيمنة الدولة.

قال باترون إن المسؤولين الأوكرانيين الذين يعمل معهم يدركون التحدي، ويعرفون أن الدعم الشعبي الكبير يجعل الوقت مناسباً الآن للتصدي للإصلاحات الصعبة.

إصلاحات ضرورية

لكن التغيير لن يكون سهلاً، ليس فقط لأن أوكرانيا تحارب، بل لأنه يتعين عليها أيضاً التخلص من العادات والهياكل التنظيمية القديمة، فقد حلّت الدولة الأوروبية في المرتبة 122 من بين 180 دولة تضمنها تقرير مؤشر الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية في 2021، حيث قال 23% من المنتفعين من الخدمات العامة أنهم دفعوا رُشى خلال العام الماضي.

إنصافاً، لقد كانت الحكومة تبذل قصارى جهدها. على سبيل المثال، يعمل خط ساخن على مدار الساعة ليُمكِّن المواطنين من مكافحة الفساد، ويوجد سجل إلكتروني يسمح للجمهور بفحص أصول الموظفين العموميين وموظفي الخدمة المدنية. كما جعلتها ابتكارات، مثل نظام المشتريات الإلكتروني مفتوح المصدر "بروزورو" التي تعني بشفافية باللغة االأوكرانية، تتفوق على المملكة المتحدة في هذا الصدد.

ما يزال أمام أوكرانيا طريق طويلة لتقطعها. ربما تحفز المفاوضات بشأن حصولها على عضوية الاتحاد الأوروبي جهود الإصلاح، لكن يُرجّح أن تكون تلك المفاوضات بطيئة ومعقدة، لذا سيتعين عليها المضي قُدُماً في الإصلاحات دون حافز كهذا.

ستكون الجائزة الكبرى، إن تمكنت أوكرانيا من تحقيقها، هي الكلمة الثالثة في شعار "إعادة إعمار أفضل". تريد أوكرانيا أن يكون برنامج إعادة إعمارها دافعاً لنمو أكثر اخضراراً واستدامة، ما يُعدُ هدفاً واقعياً نظراً لحجم القوى العاملة المتعلمة في البلاد من جهة، وقوتها في مجال تقنية المعلومات من جهةٍ أخرى. كما يُعدّ تنويع مصادر الطاقة بعيداً عن الوقود الأحفوري ضرورة أمنية، رغم أن ذلك سيستغرق وقتاً. كما يجب تحديث إمدادات الطاقة النووية في أوكرانيا، التي تمثل بالفعل 50% من احتياجات الطاقة في البلاد، وبناء مزيد من مصادر الطاقة المتجددة.

بيئة تعافٍ

كانت "خطة مارشال" سخية، لكن مكمن عبقريتها كان خلق البيئة المناسبة للتعافي والاستثمار. جاءت الخطة محددة الأهداف فقد فصلت المساعدات الإنسانية عن دعم إعادة الإعمار وتضمّنت شروطاً صارمة. بالمثل، يجب أن يكون تصميم أي خطة لإعادة الإعمار مثقلاً بالشروط، وأن يشجّع مزيداً من الإصلاحات السياسية والمؤسسية.

قد تكون طريقة إدارة الأموال أمراً ثانوياً مقارنة بما تفعله أوكرانيا بها، غير أن آلية إدارتها مهمة أيضاً. اقترح مؤلفو مسودة خطة إعادة إعمار أوكرانيا، التي نشرها مركز بحوث السياسة الاقتصادية، أن تشرف وكالة مستقلة مرخصة من الاتحاد الأوروبي على التمويل، على غرار ما فعلته "إدارة التعاون الاقتصادي" التي أشرفت على المساعدات الأجنبية وفق "خطة مارشال". يبدو أن "هيئة إعادة إعمار أوكرانيا" التي اقترحتها المفوضية الأوروبية وستديرها أوكرانيا والمفوضية الأوروبية بشكل مشترك، التي ستقوم على تنسيق المساعدات من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية والمنظمات متعددة الأطراف مثل مجموعة الدول الصناعية السبع، تتوافق مع هذا المقترح رغم أنه لن يخلو من تدخلات سياسية بلا شك.

لكن تتناقض تصريحات أوروبا الرنانة بشأن إعادة الإعمار مع حقيقة أن إعادة الإعمار الناجحة لا يمكن أن تتم بغياب الأمن. حاجج بين ستايل، الذي ألف كتاباً حول "خطة مارشال"، بأنه رغم كل التركيز على الأموال، إلا أن الضمانات الأمنية الأميركية كانت المكمل الحاسم لبرنامج مساعدات ما بعد الحرب. لا يُرجح أن تتمتع أوكرانيا بهذه الرفاهية على الأقل ليس قبل فترة طويلة جداً، فسيتعين عليها إنفاق جزء كبير من ميزانيتها الخاصة على الأمن.

ستكون عملية إعادة إعمار أوكرانيا بطيئة ومكلفة ومحفوفة بالمخاطر، لكن البديل لا يمكن تصوره، كما أن التكاليف ترتفع كلما طال أمد الحرب. رغم أهمية الاستعداد لإعادة الإعمار، إلا أن أكبر دفعة مبدئية يمكن للعالم الديمقراطي تقديمها لاستقرار أوكرانيا المستقبلي هي الاستثمار في الدفاع عن البلاد الآن.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك