لماذا يغضب الأمريكيون إلى هذا الحد من ازدهار اقتصادهم؟

الاقتصاد الأمريكي ينمو بوتيرة غير مسبوقة لكن هناك مخاوف وعدم ثقة بين الأمريكيين - المصدر: بلومبرغ
الاقتصاد الأمريكي ينمو بوتيرة غير مسبوقة لكن هناك مخاوف وعدم ثقة بين الأمريكيين - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

ينمو اقتصاد الولايات المتحدة بوتيرة لم يشهدها منذ عقود، ويتوقع اقتصاديون استطلعت "بلومبرغ" آراءهم أن يبلغ معدل النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي 5.7% في العام الحالي و4% في عام 2022.

بعد مرور ثمانية عشر شهراً من الانتعاش الاقتصادي في أعقاب انتشار جائحة كورونا، ارتفع التوظيف في القطاع غير الزراعي بوتيرة جيدة للغاية بلغت 531 ألف وظيفة في أكتوبر الماضي، وسجل متوسط الزيادة في التوظيف غير الزراعي 655 ألف و500 وظيفة على مدى الأشهر الستة الماضية. وانخفض معدل البطالة إلى 4.6%، وترتفع الأجور بمعدلات سريعة.

سجل مؤشر "ستاندارد آند بورز 500" ارتفاعاً بنسبة 37% على مدى الاثني عشر شهراً المنتهية في 3 نوفمبر الجاري، في أفضل أداء له خلال العام الذي أعقب انتخاب رئيس جديد للبلاد.

تراجع الثقة في الاقتصاد

غير أن مشاعر الأمريكيين بشأن أوضاع الاقتصاد تبدو سلبية تماماً، إذ سجل مؤشر "غالوب للثقة الاقتصادية" قراءة منخفضة في شهر أكتوبر على نفس مستوى انخفاضها خلال فترة إغلاق البلاد نتيجة انتشار جائحة كورونا في أبريل 2020، بالإضافة إلى قراءة مؤشر ثقة المستهلكين التابع "لجامعة ميتشيغان" مستوى أشد انخفاضاً.

كشف استبيان أجراه مركز "نورك لأبحاث الشؤون العامة" التابع لوكالة الأنباء "أسوشيتيد برس" أن 65% ممن شاركوا في الاقتراع يعتقدون أن الاقتصاد الأمريكي في وضع "سيء".

وضعت استطلاعات الرأي في فيرجينيا في الأسبوع الماضي الاقتصاد على قمة المشاكل التي تدعو إلى القلق.

لم تكن جميع الردود سلبية في الاستطلاعات: 74% من المشاركين في استطلاع "غالوب" في أكتوبر الماضي قالوا إن هذا الوقت ملائم تماماً لإيجاد وظيفة جيدة، و65% ممن شاركوا في استطلاع "نورك أسوشيتيد برس" قالوا إن أوضاعهم المالية الشخصية في حالة جيدة.

ارتفع مؤشر ثقة المستهلكين الذي تصدره مؤسسة "كونفرانس بورد" في شهر أكتوبر، ورغم أن قراءة المؤشر جاءت أقل من القراءة السابقة على انتشار جائحة كورونا، فقد سجلت رقماً أعلى من جميع القراءات بين عامي 2001 و2017.

مع ذلك، مازالت الحالة العامة تبدو مناسبة لأوقات تباطؤ الاقتصاد أكثر من أوقات ازدهاره. فما الذي نشهده حالياً إذن؟

الأرقام لا تكشف كل شيئ

هل أداء الاقتصاد على نفس درجة الجودة التي تشير إليها معظم البيانات، أم أن الأمريكيين العاديين الذي يميلون للتشاؤم يعرفون أموراً لا تراها المؤشرات الاقتصادية ولا من يتوقعون الأداء الاقتصادي؟

تقول إحدى النظريات، إن مؤشرات الثقة ومشاعر الجمهور تلتقط إشارات لا تظهر في البيانات والأرقام الحقيقية إلا بعد شهور أو حتى سنوات تالية.

في ورقة عمل نشرت عن "المكتب القومي للبحوث الاقتصادية" الشهر الماضي، قال الاقتصاديان، ديفيد بلانشفلاور، وأليكس بريسون، إن: "تدهور توقعات المستهلكين على مدى الأشهر الستة الماضية يشير إلى أن اقتصاد الولايات المتحدة يدخل حالياً في ركود (خريف 2021)، رغم أن أرقام التوظيف وزيادة الأجور تؤشر على خلاف ذلك".

منذ أن كتبا ورقة العمل، استمرت أرقام التوظيف ونمو الأجور في الإشارة إلى خلاف ذلك، ولهذا أعتقد أن مزاعم الركود سيثبت خطأها.

أستطيع أيضاً أن أفكر في ثلاثة أسباب على الأقل تجعل مشاعر الثقة الحالية في الاقتصاد، رغم كونها ليست خاطئة –فكيف يمكن للمشاعر أن تكون خاطئة؟ - فإنها غير مؤهلة بدرجة كافية حتى ترشدنا إلى ما يحدث للاقتصاد مثلما كانت في الماضي. اثنان من هذه الأسباب ينبغي أن يتلاشيا قريباً، لكن السبب الثالث قد لا يختفي.

1) التضخم مصدر للآلام ولكنه لا يؤشر على مستقبل

ارتفعت أسعار المستهلك بمعدلاتٍ أسرع على مدى الأشهر الستة الماضية من أي وقتٍ سابق منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.

تباطأ معدل الزيادة في هذه الأسعار فعلاً بصورة ملحوظة في البيانات الشهرية، ومن وجهة نظري أن المقارنة التاريخية الملائمة هنا هي الزيادات قصيرة العمر في معدل التضخم التي أعقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية وليست ظاهرة الركود التضخمي الممتدة في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي.

بغض النظر عما سيحدث بعد ذلك بالنسبة للتضخم – وهو ما يركز عليه معظمنا ممن يعملون في قطاع المال أو في الدوائر المحيطة به – يظل الأمر الواقع بالنسبة للمستهلكين أن كثيراً من السلع ارتفعت أسعارها عما كانت عليه، وبعض السلع ارتفعت أسعارها بشكلٍ كبير.

في سبعينيات القرن الماضي، صمم الاقتصادي أرثر أوكون "مؤشر البؤس" عن طريق جمع معدل التضخم ومعدل البطالة معاً.

وعند القياس بهذه الطريقة، يكون معدل البؤس حالياً منخفضاً بمعايير سبعينيات القرن الماضي، لكنه يظل مرتفعاً عن مستواه في معظم الأعوام الخمسة والعشرين الماضية.

هذه المعاناة حقيقية وتستحق أن نتعامل معها بجدية. غير أن كلاً من معدل التضخم ومعدل البطالة متراجع في مؤشرات الأداء الاقتصادي، بما يعني أن مؤشر البؤس يبدو في تراجع لا في زيادة. ومالم يكن ينتظرنا ركوداً أو موجة تضخمية ممتدة على نمط سبيعينات القرن الماضي، فسوف ينخفض كثيراً على مدى العام المقبل.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

2) وضع فوضوي

يبدو أن معظم المؤشرات الاقتصادية تسير في الاتجاه الصحيح، لكن الأرقام مختلطة ومتناقضة فعلاً!

حقق اقتصاد الولايات المتحدة معدل نمو 6.7% على أساس سنوي خلال الربع الثاني من العام، ثم 2% خلال الربع الثالث – ويقدر نموذج "الناتج المحلي الإجمالي الآن" (GDPNow) الذي يعده بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا معدل النمو في الربع الأخير من العام عند 8.5%.

تتجه إنتاجية العمل إلى الارتفاع (تقاس بمستوى الناتج عن كل ساعة عمل – وهي قاطرة رئيسية طويلة المدى لتحسن مستويات المعيشة)، وذلك منذ فترة قبل انتشار الجائحة، كما توجد أسباب عديدة للاعتقاد بأنها ستستمر في هذا الاتجاه، غير أن أرقام الربع الثالث التي نُشرت الأسبوع الماضي كشفت عن تراجعها بنسبة 0.5% سنوياً وبنسبة 5% عن ربع السنة المماثل في العام الماضي.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

سلاسل التوريد

تفسر أزمات سلاسل التوريد وموجة انتشار سلالة "دلتا" المتحورة من فيروس كوفيد-19 كثير من اضطراب حركة النشاط بين الانطلاق والتوقف. ويساعدان أيضاً في تفسير تردي الحالة المعنوية.

في أغسطس الماضي، قال ريتشارد كورتين، مدير المسح الذي أُجري في ميتشيغان، إن الانخفاض الحاد في ثقة المستهلك على مدى فصل الصيف "يعكس رد فعل انفعالي نتج بالأساس عن الآمال التي تحطمت عن قرب انتهاء الجائحة".

قد يتحطم مزيد من الآمال في المستقبل، وليس فقط نتيجة كوفيد-19. فلا يوجد ضمان بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية الأخرى في مختلف أنحاء العالم ستنجح في الانسحاب من السياسة النقدية التوسعية إلى حدود قصوى.

إن فترتي التضخم اللتين أعقبتا الحربين العالميتين تبعت كلاً منهما فترات طويلة من الازدهار الاقتصادي، غير أن الاقتصاد بعد الحرب الأولى مر بفترة من الكساد عنيفة وإن كانت قصيرة تسبب فيها رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة في توقيت غير ملائم.

تترتب مخاطر أخرى أيضاً على سحب سياسة التحفيز المالي، إذ يتوقع "مؤشر مركز هاتشينز لأثر السياسة المالية" التابع "لمعهد بروكينغز" أن يؤدي تقشف الإنفاق الحكومي إلى خصم 2.5 نقطة مئوية من معدل نمو إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة في العام القادم.

ربما تنتهي حالة التفاؤل والحماس في أسواق الأسهم الرائجة والعملات المشفرة وكذلك "مؤشر ستاندارد آند بورز 500" إلى ندم وعويل، مسببة خسائر اقتصادية جانبية.

باختصار، منطقي أن نشعر بالقلق من وقوع أحداث سيئة، علاوة على أن كثيراً من الأمور الجيدة نفسها لا تبدو عظيمة.

نقص المعروض في أسواق العمل وعدم مرونتها يتسبب في زيادة الأجور وقد يؤدي أيضاً إلى صعوبة أن يستمر مطعمك المفضل مفتوحاً. وارتفاع الطلب يعني أن ظاهرة نقص المعروض سيستمر ظهورها في مختلف أنشطة الاقتصاد.

3) تغير النظام البيئي المعلوماتي

هناك أدلة على زيادة الانحياز الحزبي في قراءة ثقة المستهلك، إذ يُقيِّم الأمريكيون الاقتصاد تقييماً أفضل إذا أصبح الشخص الذي انتخبوه رئيساً للبلاد. ويزيد ذلك من صعوبة الوصول إلى اتفاق على جودة الأحوال الاقتصادية –تكررت هذه الظاهرة في أواخر تسعينيات القرن الماضي وأوئل الألفية الجديدة.

قد يكون هناك أيضاً تباين حزبي في كيفية تشكيل التصورات الاقتصادية. مثال ذلك أن وسائل الإعلام الراسخة يسيطر عليها حالياً مستقلون ومنحازون للحزب الديمقراطي، وهم ينحازون ضد السياسيين من الحزب الجمهوري، وهم أكثر انحيازاً في دعم الابتكار والصراع.

وسائل الإعلام المحافظة التي يُفضِّلها الجمهوريون أكثر صراحة في انحيازها الحزبي. لذلك فما تقدمه حالياً هو الطرق العنيدة على مشكلة التضخم والمشاكل الاقتصادية الأخرى من مراكز محافظة، كانت في معظمها مؤيدة للسياسة الاقتصادية أثناء رئاسة دونالد ترامب، مع اهتمام أقل تركيزاً على هذه الأزمات في وسائل الإعلام السائدة.

ثم هناك القطاع العريض من وسائل إعلام الأقلية الناشئة التي لا تنحاز حزبياً، ولكنها اعتادت على مهاجمة الأوضاع القائمة، مثل مشجعي العملات المشفرة الذين يحذِّرون من التضخم الجامح.

هذه ليست دعوة إلى العودة إلى الطريقة المركزية في تقديم الأخبار الاقتصادية واستهلاكها التي كانت قائمة منذ 25 عاماً.

انحيازات حزبية

هناك معلومات وتحليلات اقتصادية كثيرة وعالية الجودة متاحة لمن يريدها، وتحول وسائل الإعلام عموماً من صناعة التوافق إلى صناعة الشقاق له جوانبه الإيجابية وجوانبه السلبية أيضاً.

ربما يكون أحد النتائج الهامة، مع ذلك، أن آراء الناس حول الاقتصاد تكشف كثيراً عن الناس أنفسهم وتكشف القليل عن حالة الاقتصاد.

في مقال نشر في مجلة "علم الاقتصاد والإحصاء" في أبريل الماضي، وثَّق كل من عاطف مايان، وأمير صوفي، ونسيم خوشخو تحولات كبيرة في التوقعات الاقتصادية وفق الانتماءات الحزبية بعد الانتخابات في عامي 2008 و2016، غير أنهم أيضاً أوضحوا "أن معلومات الإدارة حول الإنفاق تُبين أن هذه التحولات في التوقعات لا تؤثر على الإنفاق الفعلي للقطاع العائلي".

في ارتباط مع ذلك نوعاً ما، يميل الأمريكيون إلى الاعتقاد بأن الرؤساء يستطيعون السيطرة على الاقتصاد أكثر مما هم في الحقيقة.

لا جديد في ذلك، غير أن لدي انطباع بأن بعض التشاؤم الاقتصادي الحالي له علاقة بتخفيض بعض الناس تقييمهم للرئيس جو بايدن وكفاءته مع بداية عودة انتشار فيروس كوفيد-19 في الصيف الماضي وانسحاب الولايات المتحدة الفوضوي من أفغانستان.

لم تمنع الفوضى المعتادة في البيت الأبيض في عهد ترامب تحقيق الاقتصاد أداءً جيداً آنذاك حتى انتشرت الجائحة.

لكنني أشك في أن مهارة بايدن الإدارية أو انعدامها هي التي ستحدد وتيرة النمو الاقتصادي على مدى العامين المقبلين.

بطبيعة الحال، إذا حقق الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 5.7% في العام الحالي وبنسبة 4% في العام القادم، مع استمرار الزيادة في التوظيف وفرص العمل، فإن بعض الأمريكيين على الأقل سيغيرون آراءهم عن بايدن مرة أخرى.

بوجه عام، نستطيع أن نتوقع أن تتقاطع الأرقام الاقتصادية الفعلية مع مشاعر الثقة بدرجة ما أذا أصبحت المؤشرات الاقتصادية أكثر اتساقاً.

غير أن التوافق التام بين الأرقام الفعلية ومشاعر الثقة ربما أصبح شأناً من شؤون الماضي.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

الآراء الأكثر قراءة