تضخ أكبر شركات الشحن في العالم أرباحاً استثنائية جنتها خلال حقبة وباء كوورنا في طلبات شراء سفن جديدة بحجم لم يسبق له مثيل، ما يفاقم من تعرض القطاع، المعروف بدورات الصعود والهبوط، للتراجع.
بدأت شركات نقل الحاويات على غرار شركات "إم إس سي ميدتيرنيان شيبينغ" (MSC Mediterranean Shipping) و"إيه بي مولير ميرسك" (A.P. Moller-Maersk) و"سي إم إيه سي جي إم" (CMA CGM) و"هاباغ–لويد" (Hapag-Lloyd) جميعها ممولة من مليارديرات أوروبيين- تنفق الأرباح القياسية التي حققت غالبيتها في أثناء أزمة الوباء. دفع هذا حجم الطلب العالمي لمستوى تاريخي يقارب 90 مليار دولار أميركي وفق أحد التقديرات.
قطاع متقلب
لكن الوضع تبدل في قطاع مشهور بالتقلبات الدورية إذ تقترب أسعار الشحن من مستويات لا تغطي التكاليف وتعاود المخاوف إزاء سعة الشحن الزائدة عن الحاجة الظهور.
أوضح إريك لاسين، الرئيس التنفيذي لـ"دانش شيب فاينانس" (Danish Ship Finance)، وهي شركة لتمويل السفن: "ارتفع الطلب للغاية على سفن نقل الحاويات الضخمة". أشار إلى بدء حلول موعد عمليات التسليم بالوقت الراهن بالتزامن من عمل سلاسل التوريد بطريقة سلسة أكثر مع عودة الطلب على نقل البضائع لمستويات ما قبل حقبة الوباء.
البنك الدولي: الاقتصاد العالمي في وضع غير مستقر
أضاف خلال مقابلة معه: سنجد مالكي سفن -مقدمو خدمات الشحن- أسرفوا على أنفسهم في الاستثمارات، ورغم أن السنتين الماضيتين كانتا مربحتين لشركات الشحن، إلا أن الأرباح المتراكمة لا تكفي نهائياً لتمويل الاستثمار في التكنولوجيا والسفن الجديدة خلال العقد المقبل".
توقعات أشد غموضاً
باتت التوقعات أشد غموضاً بالنسبة لأقطاب القطاع، الذين بدأت شركاتهم تصدر معاً مجموعة كبيرة من التوقعات السلبية للشهور المقبلة. حذرت "سي إم إيه سي جي إم" الفرنسية، التي يسيطر عليها الملياردير رودولف سعادة وعائلته، الجمعة الماضية من تدهور ظروف السوق مشيرة إلى أن سعة شحن السفن الجديدة "ستؤثر على الأرجح على أسعار الشحن".
مطلع الشهر الجاري، قلصت شركة "زيم إنتغريتد شيبينغ سيرفيسيز" (Zim Integrated Shipping Services) توقعاتها المالية لـ2023 جرّاء تحقيق نمو في حجم الشحن أقل من المتوقع وضعف الأسعار. توقعت شركة الشحن الدنماركية العملاقة "ميرسك" أن تتقلص أحجام الشحن على متن سفن نقل الحاويات عالمياً بما يصل إلى 2.5% العام الجاري وحذرت أيضاً من مخاطر بازغة في جانب العرض النصف الثاني من السنة. ذكرت شركة " هاباغ–لويد" الألمانية أن العرض سيتخطى الطلب على الأرجح خلال العامين الحالي والمقبل.
وكالة الطاقة الدولية تتوقع طلباً أقل على النفط هذا العام وسط تباطؤ الاقتصاد العالمي
توقعت شركة "ماتسون" - منافس صغير ورائد في مجال البضائع المتدفقة من الصين إلى أميركا الشمالية- في 20 يوليوالجاري "موسم ذروة أقل من المعتاد" خلال الشهور المقبلة إذ "تواصل شركات التجزئة إدارة مستويات المخزون بحذر في مواجهة هبوط طلب المستهلكين". أعلنت شركة "ماتسون" ويقع مقرها في هونولولو خلال نوفمبر الماضي عن عزمها شراء 3 سفن جديدة بقيمة مليار دولار تقريباً.
عموماً، تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى نمو أحجام التجارة 2% فقط السنة الجارية، في تراجع كبير مقارنة بتقديرات 5.2% خلال 2022.
سعة مفرطة
وسط هذه الظروف التي تلوح بالأفق تتوقع شركة "دروري ماريتايم ريسرتش" بلوغ طلبات للسفن نقل الحاويات الجديدة 890 سفينة حتى الأول من يوليو الحالي، ما يعادل 28% من سعة الشحن الحالية عالمياً في كافة أنحاء المعمورة بحسب القياس بوحدات حاويات مكافئة يصل ارتفاعها إلى 20 قدماً.
من المنتظر أن تعزز عمليات التسليم العام الجاري بمفرده سعة الشحن بـ1.75 مليون حاوية 20 قدماً مكافئة، ما يعادل 6.6% تقريباً من إجمالي الأسطول قبل احتساب الوحدات التي تخرج من الخدمة، وفق أحدث تقديرات شركة " دروري " للحاويات. تشير التوقعات إلى أن صافي سعة الشحن الجديدة سيرتفع بمقدار 1.82 مليون حاوية 20 قدماً مكافئة السنة المقبلة و1.4 مليون خلال خلال 2025 لتبلغ 30.5 مليون، بزيادة 55% تقريباً مقارنة بعقد سابق.
السفن الخاملة ترسو قرب مراكز التصدير الرئيسية انتظاراً لتدفق التجارة
قال جون ماكاون، الخبير المحنك بالقطاع ومؤسس شركة "بلو ألفا كابيتال" (Blue Alpha Capital): "نترقب بلوغ أكبر مستوى من الطلبات في تاريخ نقل الحاويات، وقد تخلصت الشركات من الديون والأصول غير الجيدة في ميزانياتها العمومية وتعيد الاستثمار مجدداً".
طلبات جديدة
يقدر الخبير أن طلبات السفن الجديدة ستكلف مالكي السفن 89.5 مليار دولار تقريباً استناداً لتكاليف بناء سفن ذات سعة شحن متوسطة الحجم.
تسيطر مجموعة مليارديرات من أوروبا على بعض أكبر شركات نقل الحاويات على مستوى العالم بما فيها عائلة سعادة. يوجد جيانلويجي أبونتي من سويسرا، ومؤسس "إم إس سي" وكلاوس مايكل كوهني، مالك حصة 30% في "هاباغ-لويد"، وعائلة رئيس شركة "ميرسك" روبرت ميرسك أوغلا، حفيد الجد المؤسس.
التجارة العالمية تواجه عقداً من الركود بسبب تصاعد التضخم
يعد كوهني أغنى شخص في ألمانيا بصافي ثروة 46 مليار دولار، بحسب مؤشر بلومبرغ للمليارديرات، بينما يملك سعادة وعائلته 23 مليار دولار مقابل 21 مليار دولار لأبونتي.
تأتي من بين العوامل المحفزة لطلب سفن جديدة وتحديث محركات السفن الموجودة هو كبح التغيرات المناخية. تريد المنظمة البحرية الدولية (The International Maritime Organization) أن يصبح القطاع خالياً من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري مع حلول 2050، مع أهداف مرحلية خلال عامي 2030 و2040. تبلغ نسبة أنواع الوقود الخالية من الانبعاثات حالياً صفر بالقطاع.
طلبت شركة "ميرسك" الشهر الماضي 6 سفن حاويات تعمل بالميثانول، ليبلغ الإجمالي 25 سفينة. مع نهاية السنة الماضية، بلغت الطلبات لدى "هاباغ-لويد" بناء 15 سفينة جديدة يجري تسليمها خلال الفترة 2023-2025.
شركة "سي إم إيه سي جي إم"
راكمت "سي إم إيه سي جي إم" ثاني أكبر حجم طلبات حول العالم بسعة 1.24 مليون حاوية 20 قدماً مكافئة، ما يمنح الشركة الفرنسية وضعية تمكنها من الاقتراب أو حتى تخطي "ميرسك" خلال 2026، بحسب شركة تحليل بيانات القطاع "ألفا لاينر" (Alphaliner) .
بينت "ألفا لاينر" الشهر الحالي في تقرير لها: "على مدى الأعوام الأخيرة، بلغت طلبات شركة الشحن ومقرها مرسيليا لبناء سفن جديدة مستويات قوية للغاية،، لتصل إلى 122 سفينة وسعة شحن 1.24 مليون حاوية 20 قدماً مكافئة. عزت الشركة جزئياً توسع أسطول "إم إس سي" المصنف الأول عالمياً لمشترياتها من السفن المستعملة.
عملاقة الشحن الفرنسية "سي إم إيه سي جي إم" متخوفة من ضعف الطلب
أكد رامون فرنانديز، المدير المالي لـ"سي إم إيه سي جي إم"، أن شركته طلبت 100 سفينة قيد التنفيذ حالياً، أغلبها تعمل بالغاز الطبيعي المسال أو الميثانول. امتنع عن ذكر تفاصيل أكثر تحديداً، لكنه اعترف باحتمال وجود زيادة في سعة الشحن زائدة عن الحاجة.
أضاف أن "ميزان العرض والطلب خلال الفترة المقبلة سيواجه على الأرجح ضغوطاً نظراً لأن نمو سعة الشحن سيفوق نمو حجم التجارة"، مشيراً إلى أن عمليات تخريد وسحب السفن القديمة الأكثر تلويثاً من الخدمة قد تخفف الأضرار، علاوة على التحرك لإبطاء سرعات المحرك لتخفيض الانبعاثات.
تمويل السفن
تعود خطط بناء السفن إلى فترة جاءت قبيل تراجعات سابقة بالقطاع. فمثلاً أوشكت "سي إم إيه وسي جي إم" على التخلف عن السداد خلال 2009 عندما انهارت التجارة جراء الأزمة المالية العالمية. لكن الشركات تحظى هذه المرة بملاءة مالية جيدة للغاية ما ينعكس في ضعف الطلب على الائتمان إلى حد الآن.
أوضحت شركة "بيتروفين ريسيرش" (Petrofin Research) في تقريرها السنوي عن تمويل السفن العالمية أن الإقراض المصرفي، الذي تقليدياً يعتبر أحد مصادر تمويل القطاع الأساسية، لم يرتفع بما يواكب حجم طلبات السنة الماضية وقد يبقى ثابتاً خلال 2023. بالإضافة لذلك، برز سوق ائتماني ذو سعرين إذ يطرح المقرضون اشتراطات أفضل للسفن منخفضة الانبعاثات.
اختتم لاسين: "تتزايد أوج الشبه بين مالكي السفن والمصارف ويفكرون بعقلية احتساب المخاطر التي تراها لدى الأخيرة، كم أنهم باتوا أكثر تطوراً للغاية من الصورة العامة التي ربما كونتها عنهم من خلال أزمة سابقة حيث كانوا يتبعون نهج "اشتر رخيصاً وبع غالياً ".