
بما قد يمثل رأس جبل الجليد، شهدت سوق الأسهم الأميركية، يوم الإثنين، هبوطاً حادّاً فاقم قلق المستثمرين والمحللين الاقتصاديين، وسط تزايد الهواجس من احتمال اقتراب الاقتصاد الأميركي من حافة الركود، وهو سيناريو لم يكن في الحسبان قبل بضعة أشهر مع انتخاب دونالد ترمب رئيساً.
هذه التطورات تعكس حالة من عدم اليقين المتصاعد في الأسواق المالية، وسط تفاعلات معقدة من التوترات الجيوسياسية وارتفاع معدلات التضخم وأزمات سلاسل التوريد العالمية، مما يجعل الجميع يتساءلون إن كان هذا هو بداية مؤشرات على أزمات أعمق في الأفق ستؤثر لا محالة على الاقتصاد العالمي ككل.
تفاقمت موجة بيع الأسهم التي دامت قرابة 3 أسابيع في "وول ستريت"، مع تزايد القلق بين صفوف المستثمرين بأن عدم اليقين حيال تعريفات ترمب سيدفع اقتصاد أميركا لبراثن الركود الاقتصادي، وهو الاحتمال الذي لم يستبعده الرئيس الأميركي في مقابلة تلفزيونية بقوله: "الاقتصاد أمام فترة انتقالية".
ركود أكبر اقتصاد في العالم
هذه التعليقات تفتح الباب مجدداً أمام التكهنات بأن أكبر اقتصاد حول العالم يواجه خطر الانزلاق نحو الركود، ما أثار موجة بيعية قوية في "وول ستريت" خلال جلسة الإثنين وسط تلاشي نحو تريليون دولار من القيمة السوقية قي قطاع التكنولوجيا وحده، وخسائر بمليارات الدولارات في ثروات أغنياء العالم وعلى رأسهم إيلون ماسك الذي هوت ثروته بنحو 29 مليار دولار.
وفي حين أن الرئيس الأميركي لم يقدم إجابةً مباشرةً على السؤال بشأن ركود محتمل، لكنه قال: "أكره التنبؤ بأشياء من هذا القبيل"، كما ذكر في خطابه أمام الكونغرس يوم 4 مارس أنه "لا مكاسب بدون ألم.. سيكون هناك بعض الاضطرابات"، فهل يقترب الاقتصاد الأميركي من الركود حقاً؟
من الناحية الفنية، يُعرف الركود الاقتصادي بأنه انكماشٌ في الناتج المحلي الإجمالي لربعين سنويين على التوالي، بينما يتفق المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الأميركي على أنه تراجع كبير في النشاط الاقتصادي ويأخذ في الاعتبار مؤشرات شهرية مثل النمو الاقتصادي والتوظيف والدخل الشخصي والإنتاج الصناعي.
وبالفعل، تزايدت احتمالية ركود الاقتصاد الأميركي في غضون الـ12 شهراً المقبلة لترتفع إلى 25% في الوقت الراهن مقابل أقل من 20% في بداية العام الجاري، وفق مؤشر "بلومبرغ"، ويرى محللون أن الاحتمالات تتزايد بشكل مقلق جنباً إلى جنب مع خفض توقعات النمو.
ضعف الدولار مؤشر
تتراكم الإشارات التحذيرية حيال عدم اليقين بشأن سياسات ترمب، إذ إن مؤشر الخوف في "وول ستريت" (CBOE Volatility Index) المعروف باسم مؤشر "VIX"، ارتفع فوق 28 نقطة وهو أعلى مستوى منذ أغسطس 2024، فيما يشير إلى زيادة القلق في الأسواق وسط خسائر حادة تسيطر على "وول ستريت".
ويُعد ضعف الدولار بمثابة إشارة أخرى على المخاوف بخصوص الاقتصاد، بعدما انخفض مؤشر العملة الأميركية بأكثر من 3% في الأسبوع الماضي مسجلاً أسوأ أداء أسبوعي منذ نوفمبر 2022، وسط تفاقم قلق المستثمرين بشأن الرسوم الجمركية وتأثيرها على أداء الاقتصاد الأميركي.
تنبع هذه المخاوف من السياسات المتقلبة للرئيس الأميركي بشأن التعريفات الجمركية على الشركاء التجاريين لأميركا، سواء بإقرارها أو التراجع عن بعضها في وقت لاحق، فضلاً عن الردود الانتقامية من جانب الدول المتضررة، خاصة بعدما سلط تقرير الوظائف الأميركي لشهر فبراير الضوء على الضعف المحتمل في سوق العمل الأميركية.
كذلك يغذي اضطرابات السوق فضلاً عن إثارة المخاوف من ارتفاع معدل البطالة هذا العام، عمليات تسريح عشرات الآلاف من العاملين الحكوميين، إذ أعلن أصحاب العمل في الولايات المتحدة عن خطط لتسريح 172017 وظيفة في فبراير بزيادة 103% على أساس سنوي، وفقاً لبيانات شركة "تشالنجر غراي آند كريسماس" (Challenger, Gray & Christmas) للتوظيف.
ماذا تخبرنا أسواق السندات؟
خلال الأسابيع الأخيرة، تراجع العائد على سندات الخزانة الأميركية التي يحل موعد استحقاقها بعد 10 سنوات دون العائد على نظيرتها قصيرة الأجل (لمدة 3 أشهر)، وهو ما يُعرف في لغة السوق باسم "منحنى العائد المقلوب"، ويترجم عادةً إلى أن المرحلة المقبلة سوف تشهد حالة ركود اقتصادي.
وفي حقيقة الأمر، ينظر بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك إلى منح السندات الحكومية قصيرة الأجل عوائد أعلى من الديون طويلة الأجل باعتباره مؤشراً موثوق لتوقعات الركود، لدرجة أنه يقدم تحديثات شهرية حول العلاقة جنباً إلى جنب مع احتمالات الركود المرجحة خلال الأشهر الـ12 المقبلة.
ووفقا لأحدث تحديث بنموذج الفيدرالي في ولاية نيويورك لقياس احتمالية الركود الاقتصادي خلال عام تبعاً لتطورات أسواق السندات الأميركية والصادر في 6 مارس، تزايدت احتمالية دخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود خلال الربع الثالث من 2025.
علامات تباطؤ الاقتصاد الأميركي
العلامات التي تشير إلى تباطؤ الاقتصاد تتراكم بشكل مطرد، بما في ذلك مؤشر الفيدرالي في أتلانتا لرصد الناتج المحلي الإجمالي "GDPNow" والذي يشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي قد ينكمش خلال الربع الأول من العام الجاري.
فيما عدلت بنوك الاستثمار توقعاتها بالخفض لوتيرة نمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة خلال 2025، فيما يبرر المخاوف حيال أداء الاقتصاد ويترجم البيانات الأميركية الأخيرة والتي جاءت مخيبة للآمال في الأغلب.
من جانبه، خفض "سيتي غروب" توقعاته لنمو الاقتصاد إلى 1.1% هذا العام مقابل توقعات بتوسع الاقتصاد 1.5% قبل شهر فقط، كما يتوقع بنك "باركليز" نمو الاقتصاد بنحو 1.9% مقابل 2.3% قبل شهر، وقلص "جيه بي مورغان تشيس" تقديراته من 2.4% إلى 2.1%.
كما خفض "غولدمان ساكس" تقديراته لنمو الاقتصاد الأميركي هذا العام إلى 1.7% مقابل 2.4% المتوقعة في بداية 2025، مستشهداً بتداعيات الرسوم الجمركية التي أثبتت أنها أكثر حدة من المتوقع.
كان مؤشر مديري المشتريات الصادر عن بيانات معهد التوريد الأميركي "ISM"، أظهر اقتراب نشاط المصانع في أميركا من الركود خلال شهر فبراير، إذ تراجع بنحو 0.6 نقطة إلى 50.3 نقطة، ليكون قرب عتبة 50 نقطة وهي الحد الفاصل بين التوسع والانكماش في النشاط.
ماذا يقول المحللون؟
الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة لم يكن سوى احتمال بعيد قبل بضعة أشهر، لكن المشهد بدأ يتغير مؤخراً، وأصبح الانكماش الاقتصادي أكثر واقعية، وفق ما يراه رئيس كلية كوينز في كامبريدج وكاتب الرأي في بلومبرغ محمد العريان خلال مقالة رأي نشرتها "بلومبرغ".
لكن سياسات ترمب، التعريفات الجمركية أولاً، ثم تخفيضات الضرائب لاحقاً، تعني أن خطر الركود أعلى بالتأكيد، كما يقول تريسي تشين مدير محفظة في براندواين لإدارة الاستثمار العالمي (Brandywine Global Investment Management).
ورغم استبعاد أن يكون الركود هو السيناريو الأساسي، لكن في الأسابيع الأخيرة لاحظنا أن الأسواق تشعر بالقلق حيال الاقتصاد الأميركي الذي يفقد زخمه بشكل سريع، بالإضافة إلى تباطؤ توقعات النمو وتراجع توقعات أرباح الشركات، وذلك بحسب مايكل براون، محلل أسواق الأصول المتعددة في "بيبرستون" (Pepperstone) في مقابلة مع "الشرق".
مخاوف الركود
خلاصة الأمر، أن المخاوف بخصوص دخول الولايات المتحدة في حالة ركود اقتصادي تعود إلى السطح مجدداً، والموجة البيعية بجانب ضعف الدولار يؤججان المخاوف من أن الحرب التجارية العالمية تلقي بظلالها السلبية على النمو الاقتصادي، وربما تُجبر البنوك المركزية الكبرى على إقرار عمليات خفض للفائدة أكثر حدة.
ويبقى السؤال ما إذا كان سيتدخل ترمب لإنقاذ الأسواق وتهدئة مخاوف الركود، الناجمة عن تداعيات الرسوم الجمركية وتقليص الإنفاق الحكومي، أم ستتفاقم الأمور إعمالاً بحجته التي تقول: "نحن نعيد الثروة إلى أميركا، وهذا أمر كبير".