رغم موجة الغضب التي أثارتها الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسرعة، إلا أن هناك تحدياً أكبر يواجه العالم. يشهد الاقتصاد الأميركي نمواً قوياً يتجاوز توقعات كانت سائدة قبل بضع سنوات، متفوقاً على الشركاء والمنافسين على حد سواء.
يوجد وراء الانتقادات الموجهة إلى التأثيرات السلبية لهذه الرسوم الجمركية ومخاطر السياسات الحمائية قلق أعمق من أن الافتراضات الضمنية بأن الصين وربما الهند ستتفوقان على الولايات المتحدة قد تكون غير دقيقة.
سبق هذا التفوق الاقتصادي عودة ترمب إلى مقاليد السلطة، من غير المرجح أن يتراجع في المستقبل القريب، حتى مع تأثير الرسوم الجمركية الجديدة. وأمرت إدارته الأسبوع الجاري بفرض رسوم على واردات الصلب والألمنيوم، وهددت باتخاذ تدابير انتقامية ضد الدول التي تفرض رسوم على الواردات الأميركية. هزت هذه الخطوة الأسواق من تايلندا إلى جنوب أفريقيا. تدخلت الهند لدعم الروبية بعد أن سجلت أدنى مستوى لها على الإطلاق، بينما يبدو أن بنك الشعب الصيني قد تقبل تراجع اليوان بدلاً من محاولة منعه. ما تزال قوة الدولار الأميركي، التي استمرت في الصعود خلال السنوات القليلة الماضية، تظهر القليل من الإشارات على التراجع رغم الاضطرابات التي أثارها ترمب. وتُعتبر الرسوم الجمركية عاملاً تضخمياً على نطاق واسع، ما قد يسفر عن إبطاء وتيرة تخفيضات أسعار الفائدة، إذا تم تنفيذها أصلاً خلال الشهور المقبلة.
الجاذبية المالية للولايات المتحدة الأميركية
الواقع أن عنصر الجاذبية المالية للولايات المتحدة ما يزال قوياً إلى حد كبير، رغم أن التوقعات السابقة بأن الأسواق الناشئة أو حتى منطقة اليورو للعملة الموحدة التي تأسست حديثاً ستتفوق عليه. وقدكتبت زميلتي في قسم "رأي بلومبرغ"، شولي رين، عن استمرارية تفوق الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن ماذا لو كان الأداء القوي الحالي يشير إلى أن أميركا ليست فقط تتجنب التراجع، بل تعود مجدداً كقوة اقتصادية صاعدة؟ فالمخاوف التي سبقت خطاب تنصيب ترمب واحتمال حدوث فوضى طغت على أي نقاش حول التوجهات الاقتصادية الأساسية.
اقرأ المزيد: إنفوغراف: حرب ترمب التجارية تتصدر مخاوف الشركات في 2025
أثناء تناول الغداء في سنغافورة في 20 يناير المنصرم، أخبر أحد المحللين المخضرمين صحفيي بلومبرغ أن العملاء كانوا يخشون أن تعلن الإدارة الجديدة عن مجموعة من المبادرات المثيرة للجدل بعد دقائق فقط من أداء ترمب اليمين الدستورية أمام رئيس المحكمة العليا، جون روبرتس.
الاضطرابات حدثت بالفعل، لكن الأمر كان أعمق من ذلك. وقبل أيام قليلة، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي. الزيادة الطفيفة في التوقعات إلى 3.3% لهذا العام تعود بشكل أساسي إلى الأداء القوي للاقتصاد الأميركي، بينما خيبت التوقعات في بقية أنحاء العالم الآمال بطريقة كبيرة.
وقال كبير خبراء الاقتصاد في الصندوق، بيير أوليفييه غورينشاس، للصحفيين: "التطور الأهم هو التباين بين الولايات المتحدة وبقية العالم". بينما تعافت أميركا إلى مستوى إمكاناتها الاقتصادية قبل جائحة كورونا، ما تزال أوروبا والصين دون هذا المستوى. رغم التحذيرات التقليدية بشأن "حالة عدم اليقين"، إلا أن الرسالة كانت واضحة لمن أراد أن يستمع وتفيد بأن الريادة الأميركية عرضة لخطر الفقدان.
موقف الصين والأسواق الناشئة
تعاملت الصين مع رسوم ترمب الجمركية بطريقة متزنة بصورة كبيرة. مع اعتماد النمو الاقتصادي الصيني بشكل كبير على الصادرات، ومعاناة الاقتصاد المحلي من تداعيات انهيار سوق العقارات، فإن آخر ما تحتاجه بكين هو أن تُعزل عن أكبر سوق استهلاكية في العالم.
وربما الخبر الإيجابي الوحيد بالنسبة للصين في الفترة الأخيرة هو تزايد وتيرة ارتفاع أسعار المستهلكين في يناير الماضي من مستوى قريب بشكل خطير من الصفر إلى 0.5%، رغم استمرار الضغوط الانكماشية. لم تعد الصين تبدو كالقوة الاقتصادية الجبارة لا يمكن وقفها كما كان الحال عندما تولى ترمب رئاسة الولايات المتحدة للمرة الأولى خلال 2016.
اقرأ المزيد: ترمب يحرم الصين من مليارات الدولارات بعد سد "ثغرة تجارية"
من المفيد التعامل ببعض الشكوك تجاه القوة الاقتصادية للأسواق الناشئة. خلال العقد الأول من القرن الـ21، لم تخضع هذه الأسواق لتدقيق جاد، إذ كانت الدراسات الجديدة تُنشر شهرياً تقريباً لتحديد اللحظة التي ستتفوق فيها الصين على الولايات المتحدة. كان الحماس للأسواق الناشئة، في بعض النواحي، بمثابة انعكاس للاعتقاد بأن صعود الصين أمر لا جدال فيه، كما أن تراجع أميركا كان حتمياً. لكن كبار المستثمرين كانوا يدركون خلل هذه السردية منذ فترة، ومع حلول نهاية 2024، لم يعد بالإمكان تجاهله. وسجل المؤشر الشهير لعملات الأسواق الناشئة، الذي تصدره "جيه بي مورغان"، تراجعاً للعام السابع على التوالي، بينما تخلفت عوائد الأسهم في هذه الأسواق عن أداء مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" على مدى معظم العقد الماضي.
استثناءات الرسوم الجمركية
القادة الذين يسعون للحصول على إعفاءات من الرسوم الجمركية أو يحاولون كسب ود البيت الأبيض سيكون من المفيد لهم إدراك أن جزءاً كبيراً من مشكلتهم يكمن في عجزهم عن مجاراة الديناميكية التي يتمتع بها الاقتصاد الأميركي. على سبيل المثال، شهدت أستراليا فترة ازدهار استثنائية قبل وباء كورونا، وحظيت بإشادة واسعة في المؤتمرات الدولية. وكان ذلك بفضل الإصلاحات الاقتصادية الجذرية التي أجرتها في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، إلى جانب الطلب القوي من الصين خلال سنوات ازدهارها على الموارد الطبيعية.
أما الحكومة الحالية، التي تفصلها أشهر قليلة عن انتخابات صعبة، فتبذل ما في وسعها لتحسين موقفها أملاً في الحصول على استثناءات. لكن محاولاتها لاسترضاء ترمب تنطلق من موقع ضعف.
عندما يعلن ترمب بصوت عالٍ أن أميركا استعادت مكانتها الريادية، فإنه قد يُتهم بالغرور، لكنه ليس مخطئاً بالضرورة.