إلى أين وصلنا في رحلة البحث عن منشأ فيروس كورونا؟

رغم مرور سنوات على جائحة "كوفيد-19" لم يتمكن العلماء بعد من تحديد أين وكيف ومتى بدأ الفيروس

time reading iconدقائق القراءة - 21
عمال الصحة في الصين يحملون المعدات الطبية اللازمة لمكافحة تفشي كورونا - المصدر: بلومبرغ
عمال الصحة في الصين يحملون المعدات الطبية اللازمة لمكافحة تفشي كورونا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

لم يحدّد العلماء بعدُ المنشأ الذي انطلق منه كوفيد-19 قبل سنوات متسبباً في أسوأ جائحة يشهدها العالم منذ أكثر من قرن. عُثر على بعض من أقرب الفيروسات ذات الصلة بالفيروس المسبب له، وهو "سارس-كوف-2"، في الخفافيش، على بعد 1600 كيلومتر تقريباً من مدينة ووهان في وسط الصين، حيث ظهر المرض في أواخر عام 2019.

في بادئ الأمر رُبط بين حالات الإصابة وسوق للأطعمة الطازجة وربما الحيوانات البرية التي تُباع هناك. سلّط تحقيق في أوائل 2021 الضوء على احتمال أن يكون بعض الثدييات ناقلاً للفيروس، إذ تنقله من الخفافيش إلى الإنسان. ويوجد مزيد من النظريات ذات الأبعاد السياسية، إحداها أن الفيروس تسرّب بطريق الخطأ من مختبر أبحاث قريب، وهي فرضية أكّدها مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) في فبراير.

تشير نظرية أخرى إلى أن "سارس-كوف-2" دخل الصين من بلد آخر عن طريق استيراد أغذية مجمدة. ووسط كل النظريات والاحتمالات، تتّفق الحكومات والعلماء على أن فك شفرة نشأة الفيروس، أمر أساسي للحَدّ من مخاطر الأوبئة وأي جائحة في المستقبل.

1) لماذا لا نعرف منشأ الفيروس تحديداً؟

قد يكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تحديد أين ومتى وكيف يبدأ العامل الحيوي المسبّب لمرض ما في الانتشار بين البشر. ورغم أن "سارس-كوف-2" يشبه جينياً فيروسات كورونا التي جُمعت من الخفافيش، فقد يكون اتبع مساراً معقداً إلى ووهان، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة. يتتبع العلماء أقدم الحالات المعروفة، لكنهم يفقدون المسار، ويتوه منهم الأثر إلى حدّ بعيد لدى وصولهم إلى أوائل ديسمبر 2019. فمكان انتشار مرض جديد ليس بالضرورة هو ذاته الذي انتقل فيه من مملكة الحيوان أو أصاب الإنسان للمرة الأولى. فعلى سبيل المثال، يُعتقد أن فيروس "HIV" المسبب لمرض نقص المناعة المكتسب (إيدز) نشأ بحيوانات الشمبانزي في جنوب شرق الكاميرون.

"الصحة العالمية" تعلن اقتراب نهاية الوباء والصين تشدّد سياسة "صفر كوفيد"

لم يبدأ الإيدز الانتشار بسهولة بين الناس حتى عشرينيات القرن الماضي، عندما وصل إلى مدينة كينشاسا على بعد مئات الأميال. أفاد العلماء بهذا الاكتشاف في 2014، بعد نحو ثلاثة عقود من التعرُّف عليه.

2) من يبحث وراء الموضوع؟

طُلب من منظمة الصحة العالمية في مايو 2020 المساعدة على تحديد المصدر الحيواني للفيروس، وكيفية انتقاله إلى البشر. وشكلت المنظمة فريقاً من 17 عالماً دوليّاً، أحدهم مقيم في الولايات المتحدة، ليشرعوا في مهمة مشتركة على مدى أربعة أسابيع مع 17 باحثاً من الصين. نُشرَت النتائج التي تَوصَّلوا إليها في تقرير مشترك في مارس 2021. وبعد سبعة أشهر شكلت المنظمة مجموعة استشارية علمية أكثر ديمومة للتعامل مع القضايا المتعلقة بمنشأ كوفيد والتحقيقات المستقبلية في هذا الإطار. أصدرت اللجنة تقريراً أولياً في يونيو 2022 يحدّد سير العمل، ولاحظت بيانات رئيسية لم تكُن متاحة للوصول من أجل فهم كامل لكيفية بدء الجائحة.

دعا المدير العامّ لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الصين مراراً وتكراراً إلى زيادة التعاون في البحث عن منشأ الفيروس، وبعث برسائل إلى قادتها، ومنهم رئيس الوزراء لي كه تشيانغ ووزير الصحة ما شياو وي، طلباً لمزيد من المعلومات. يقول المسؤولون الصينيون إنهم يشاركون في عمل يستند إلى أساس علمي، ويتبادلون المعلومات مع منظمة الصحة العالمية. ويحقّق عديد من وكالات المخابرات الأميركية في الأمر.

3) ما فرضيات ظهوره؟

تمحور الجدل حيال أول ظهور لـ"كوفيد" حول فكرتين متنافستين: تَسرُّب عرَضيّ من مختبر، وانتقال من الحيوانات. ويُتفَق عالمياً على أن الفيروس لم يكن جزءاً من برنامج أسلحة بيولوجية ونُشر عمداً.

وضع العلماء المشاركون في البعثة التي تقودها منظمة الصحة العالمية لعام 2021 أربعة سيناريوهات وفقاً لدرجة الاحتمالية:

  • من محتمَل إلى محتمَل للغاية: انتشار الفيروس عبر أنواع مضيفة "وسيطة".
  • من ممكن إلى محتمَل: انتقل الفيروس إلى البشر مباشرة من مستودع حيواني.
  • ممكن: تسلل الفيروس عبر السلسلة الغذائية عن طريق طعام ملوث أو التغليف.
  • غير محتمَل للغاية: ظهور الفيروس نتيجة حادثة متعلقة بمختبر.

الصين تدرس المرحلة الثانية من خطة "منظمة الصحة العالمية" لمعرفة منشأ فيروس "كورونا"

لعدم العثور على حيوان وسيط كهذا حتى الآن، قال العلماء إن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث، بما في ذلك الدور المحتمَل الذي ربما لعبته التجارة في الحيوانات والمنتجات الحيوانية والأطعمة المجمدة أو المبرَّدة. من جانبها، قدّمت وكالات المخابرات الأميركية تحليلات مختلفة بخصوص ما إذا كان الفيروس ظهر طبيعياً، أو انتشر جراء حادثة مؤسفة في مختبر صيني. قال كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، في 28 فبراير، إن المكتب سبق وخلص إلى أن الفيروس نشأ على الأرجح نتيجة "حادثة محتمَلة بمختبر" في ووهان.

وفقاً لمكتب مديرة الاستخبارات الوطنية، توافق كل الهيئات أن كل من النظريتين منطقيتين – أن الفيروس ظهر طبيعياً أو أنه انتشر جراء حادثة مؤسفة في مختبر صيني – لكن الآراء منقسمة بشأن النظرية الأكثر ترجيحاً.

4) ماذا نعرف حتى الآن؟

كانت الخفافيش مصدر اثنين من الفيروسات التاجية التي تسببت في تفشّي الأمراض الفتاكة بين البشر خلال العقدين الماضيين، هما: متلازمة التهاب الجهاز التنفسي الحادّ (سارس)، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس).

يعتبر عديد من العلماء أن الثدييات الطائرة هي المستودع الطبيعي المحتمل لـ"سارس-كوف-2" أيضاً (والمستودع الطبيعي هو حيوان يحوي بشكل دائم العامل المسبب للمرض الذي تنتقل منه العدوى إلى مجموعة سكانية مستهدفة محددة).

بعد ظهور "سارس-كوف-2"، حدّدت شي تشنغ لي، التي تُجري دراسات على فيروسات كورونا التي تنقلها الخفافيش في معهد ووهان لعلم الفيروسات، ثلاثة فيروسات وثيقة الصلة بـ"كوفيد-19" جُمعت خلال الخمسة عشر عاماً الماضية. أقربها لكورونا، الذي تبلغ نسبة تطابقه معه نحو 96%، فُصل من خفاش حدوة الحصان، واسمه العلمي "رينولوفوس أفينيس"، وظهر في مقاطعة يونان جنوبيّ الصين في 2013.

ربط باحثون هذا الفيروس المعيَّن، المعروف باسم "آر إيه تي جي 13"، بمنجم في مقاطعة موجيانغ هناك، حيث أصيبَ 6 رجال بمرض شبيه بالالتهاب الرئوي في 2012 قبل أن يلقى ثلاثة منهم حتفهم.

رغم أن "آر إيه تي جي 13" و"سارس-كوف-2" قد يشتركان في سلف مشترك، فإنهما ليسا متشابهين بما يكفي للإشارة إلى أن الفيروس المسبب للجائحة مشتقّ من ذلك الموجود في يونان. كما لم يُعثر في العيّنات المأخوذة من الخفافيش في إقليم هوبي، الذي يضمّ ووهان، على "سارس-كوف-2".

في 2007، تَبيَّن أن قط زباد النخيل الذي ظهر في مزارع هوبي مصاب بشكل طبيعي بفيروسات تاجية شبيهة بسارس، وبالمثل خفافيش حدوة الحصان في 2005. كما عُثر على فيروسات تاجية ذات صلة في أنواع أخرى من الخفافيش والبنغول، وهو حيوان ثديي حرشفي يأكل النمل في أماكن أخرى في آسيا، ما يسلط الضوء على الانتشار الواسع الذي قد يكون أسهم في تطور الفيروس.

قال باحثون في دراسة أُجريَت في 2021 صدرت قبل مراجعة النظراء والنشر، إن انتقال مثل هذه الفيروسات من الخفافيش إلى البشر قد يتسبب في 400 ألف إصابة سنوياً في المتوسط في جنوبيّ الصين وجنوبيّ شرق آسيا.

5) ما المعروف عن أولى حالات "كوفيد- 19"؟

بدأت الأعراض لدى أول مريض معروف في 11 ديسمبر 2019، وفقاً لدراسة نُشرت في 18 نوفمبر 2021 في دورية "ساينس". يشير ذلك إلى أن العدوى ربما بدأت قبل أسبوعين. (وجدت الدراسة أن ساكناً آخر في ووهان يُعتقد أنه كان الحالة الأولى لم تظهر عليه في الواقع أعراض "كوفيد" حتى 16 ديسمبر، أي بعد ثمانية أيام مما كان يُعتقد في البداية). لم تجد بعثة منظمة الصحة العالمية أي دليل على انتشار الفيروس على نطاق واسع في ووهان قبل ديسمبر. واقترحت مجموعة من الباحثين، بما فيهم باحثين في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو، أن الفيروس انتقل من الحيوانات في حادثتين منفصلتين، ونتج عنه سلالات مختلفة بدأت تنتشر في أواخر نوفمبر 2019.

أشارت مجموعة علماء، بينهم باحثو جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، إلى أن الفيروس انتشر من الحيوانات في مناسبتين منفصلتين، مما أدى إلى ظهور سلالات مميزة لـ"سارس-كوف-2" التي انتشرت في أواخر نوفمبر 2019 في البداية من سوق ووهان حيث تُباع الحيوانات الحية وتُشترى.

6) ما الدور الذي لعبته سوق المأكولات الطازجة؟

طُرح عدد قليل من السيناريوهات لسوق هوانان المترامية الأطراف في وسط ووهان، وهي أنه ربما كانت مصدر عدوى، أو زادت انتقال الفيروس من إنسان إلى إنسان، أو كليهما. كانت أول حالة إصابة معروفة بـ"كوفيد-19" لبائعة مأكولات بحرية هناك قبل أن تنتشر العدوى كالنار في الهشيم: فثلث الحالات الـ168 التي حُددت بأثر رجعي في ديسمبر 2019، كانت مرتبطة مباشرةً بالسوق. كما أيّدت التحليلات المكانية التي صدرت قبل النشر في فبراير أن السوق بؤرة ظهور الفيروس، وأظهرت نتائج غير منشورة توصّل إليها باحثون حكوميون صينيون في فبراير، أن عشرات العينات البيئية التي جُمعت من السوق في أوائل 2020 أثبتت وجود "سارس-كوف-2"، وأن ثلاثة فيروسات حية فُصلت ليتبيّن أنها متطابقة تقريباً مع العينات المأخوذة من الأشخاص المصابين. غير أن الباحثين لم يتمكّنوا من العثور على "سارس-كوف-2" في عيّنات حيوانية من السوق، لكنهم قالوا إن بياناتهم تقدّم "دليلاً دامغاً" على انتشار الفيروس في السوق خلال المرحلة المبكرة من تفشي "كوفيد-19".

كيف يغيّر "كورونا" سلاسل الإمداد الغذائي؟

تحوي سوق هوانان 678 كشكاً، وبها أكثر من 1180 عاملاً يتعاملون في منتجات المأكولات البحرية، بالإضافة إلى الفواكه والخضراوات الطازجة واللحوم والحيوانات الحيّة ومواد البقالة. ووجد اختبار أُجريَ بعد إغلاق السوق (أُغلقَ في الواحدة صباحاً في الأول من يناير 2020) تلوُّثاً واسع النطاق للأرضيات والجدران وألواح التقطيع وأدوات التنظيف بما يتوافق مع انتقال الفيروس من المصابين إلى الأسطح.

كانت سلاسل التوريد إلى السوق واسعة النطاق، مع وصول البضائع من بلدان أخرى ومن جميع أنحاء الصين. وكان عشرة من مشغلي الأكشاك يبيعون لحوم الحيوانات البريّة المُربَّاة في الأسر.

أبلغ القائمون على إدارة السوق الفريق الذي تقوده منظمة الصحة العالمية في أوائل 2021، أن جميع الحيوانات الحية والمجمدة التي أبلغ البائعون عن بيعها في سوق هوانان كانت من مزارع مرخصة، وأنه لم يُعثَر على تجارة غير مشروعة في الحياة البرية. وقال الباحثون أيضاً إنهم لم يتمكنوا من التحقّق من التقارير التي تفيد ببيع ثدييات حية في السوق في 2019.

من أصل 336 عينة جُمِعَت للفيروس، لم يكن أي منها إيجابياً، لكن ربما لم تُؤخذ عيِّنات كافية.

7) ما مدى مصداقية ذلك؟

أشارت دراسة نُشرت في يونيو إلى أن المعلومات المتعلقة بالحيوانات التي كانت تُباع، خاطئة. وأوضحت الدراسة المنشورة في دورية "ساينتيفك ريبورتس" العلمية أن الثدييات القابلة للإصابة بفيروس كورونا، كانت تُباع وتُشترى في سوق هوانان وغيرها في أنحاء ووهان من مايو 2017 إلى نوفمبر 2019. وشملت الأنواع الـ38 حيوانات مثل المنك، وقط زباد النخيل المقنع، وكلاب الراكون، وابن عرس، والغرير، وفئران الخيزران.

قالت شياو شياو، من مركز أبحاث حيوانات المختبر في جامعة هوبى للطب الصيني في ووهان، وزملاء لها في الصين والمملكة المتحدة وكندا، إن 17 بائعاً باعوا كلّاً من الأنواع التي صيدت في البرية والزراعات وهي حية، وفي أقفاص ومكدسة وحالتها سيئة.

وأضافوا أنه لم يُظهِر أي من البائعين شهادة منشأة أو حجر صحي، "لذلك كانت تجارة الحياة البرية برمتها غير قانونية بشكل أساسي". بالإضافة إلى ذلك، وفي حين أن جيف الحيوانات التي أظهرت اختباراتٌ أُجريَت عليها بأثر رجعي خلوَّها من الفيروس، كانت من غير أنواع الحيوانات الحية المبيعة، وعلى وجه التحديد لم تشمل كلاب الراكون والحيوانات الأخرى المعروفة بأنها معرضة للإصابة، وفقاً لمراجعة الأدلة العلمية المتعلقة بمنشأ الجائحة والتي نُشرَت العام الماضي. في 2020 نفت الصين وجود أسواق رطبة للحياة البرية في البلاد، لكن البحث الذي نشره باحثون حكوميون صينيون بعد ذلك بعامين حدد 10 أكشاك في سوق هوانان كانت تبيع مجموعة من الحيوانات البرية الحية، "الحيوانات البرية المستأنِسة"، بما في ذلك الغزلان والغرير والأرانب وفئران الخيزران والشيهم والقنافذ والسلمندر والتماسيح.

خفافيش كهوف لاوس أقرب أقارب فيروس كوفيد-19

8) هل يمكن أن ينتقل الفيروس عن طريق الطعام الملوَّث؟

يدور خلاف حول هذا. وجد باحثون في الصين أن الفيروس يمكن أن يستمر في ظروف لها صلة بالأطعمة المجمدة والتعبئة والتغليف، وكذلك منتجات سلاسل التبريد، التي تُحفظ في الثلاجات. كما ربطوا بعض الإصابات لدى الأشخاص بالسلع المستوردة، على الرغم من أن درجة الاتصال السطحي أو الحمل الفيروسي المطلوب غير معروفة. تبنّت حكومة الصين هذه النظرية، بل إن بعض المتاجر الكبيرة لديه مبرّدات منفصلة للسلع المستوردة. قالت إدارة الأغذية والعقاقير الأميركية والمراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها في 2021، إنه لا دليل موثوقاً به على أن الأغذية أو تغليفها مصدر محتمل لانتقال العدوى. حدث تفشي فيروس "كوفيد" في 2020 في مصانع للحوم المصنَّعة وبعض مصانع تحضير الوجبات الجاهزة، ما يجعل احتمال تلويث العمال المصابين للمكونات التي يكونون على اتصال بها منطقياً. ووصف رئيس بعثة منظمة الصحة العالمية هذه النظرية بأنها "تستحق البحث"، لكنه أشار إلى أنه في 2019 "لم يكن لـ(كوفيد-19) تَفَشٍّ واسع النطاق في مصانع الأغذية حول العالم".

9) ماذا عن نظرية المختبر؟

بعد اجتماعات مع العلماء في ووهان، بما في ذلك المناقشات بشأن ممارساتهم المتعلقة بالاحتواء الحيوي والسلامة، وجدت البعثة التي شكّلَتها منظمة الصحة العالمية أن من "غير المحتمل للغاية" أن يكون فيروس "سارس-كوف-2" نشأ في أحد المختبرات العديدة في المدينة التي تُجري أبحاثاً على الفيروسات التاجية، وهي عائلة كبيرة تضمّ تلك التي تسبّب نزلات البرد. ورغم أنه من المعروف وقوع حوادث، ما أدى إلى حالات تَفشٍّ نادرة، قال العلماء إنه لم ترد تقارير عن وجود الفيروس قبل اكتشافه في ووهان. استنتج الباحثون الذين حلّلوا التسلسل الفيروسي أنه لا يمتلك التوقيعات (السمات) الجينية لفيروس مصمَّم في المختبر. كما أجرت المعامل في ووهان اختبارات لموظفيها وطلابها بحثاً عن أدلّة على الإصابة، ولم تعثر على أي حالات. قالت دانييل أندرسون، عالمة الفيروسات الأسترالية التي كانت تعمل حتى نوفمبر 2019 في "مختبر السلامة الحيوية-4" (BSL-4) التابع لمعهد ووهان لعلم الفيروسات، وهو الأول من نوعه في بر الصين الرئيسي المجهز للتعامل مع أخطر مسببات الأمراض على كوكب الأرض، إنها لم ترَ شيئاً يثير الشك في أن الفيروس انتشر من هناك.

الصين تتهم الولايات المتحدة بتضخيم نظرية تسرُّب فيروس كورونا من مختبر

10) هل واجه ذلك التقييم انتقادات؟

نعم. قال رئيس منظمة الصحة العالمية في 2021 إنه لا يعتقد أن التقييم الذي أجراه الفريق الذي تقوده المنظمة كان شاملاً بدرجة كافية، وإن الأمر يحتاج إلى مزيد من البيانات والدراسات للوصول إلى استنتاجات أقوى. أصدرت دول عدة، منها الولايات المتحدة، بياناً مشتركاً في اليوم ذاته يدعو الصين إلى أن تكون أكثر شفافية وتسمح بزيادة وتيرة الوصول إلى المختبرات. اتهم الرئيس الأميركي جو بايدن الصين بعرقلة تحقيق أميركي في منشأ الفيروس، وهو اتهام ترفضه بكين. كرّرت مجموعة من العلماء والأطباء البارزين، دعوات إلى مزيد من الوضوح بشأن منشأ الفيروس. لاحظت المجموعة الاستشارية العلمية لمنظمة الصحة العالمية أنه لا بيانات جديدة متاحة لتقييم أن المختبر كان سبيلاً لانتقال "سارس-كوف-2" إلى البشر، وأوصت بمزيد من التحقيقات في هذا المسار وكل المسارات الممكنة الأخرى. أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن عمل وكالات المخابرات الأميركية تمخّض عن نتائج متضاربة، إذ انضمت وزارة الطاقة إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي في استنتاج أن تَسرُّباً من مختبر، هو التفسير الأكثر ترجيحاً لظهور "كوفيد-19". وخلص عدد قليل من الوكالات الأخرى إلى أن الانتقال الطبيعي هو الأكثر ترجيحاً، في حين لم تحسم وكالة المخابرات المركزية (CIA) أمرها بعدُ بهذا الصدد.

11) لماذا لم يخضع المختبر لمزيد من الفحص؟

الأمر حساس للغاية، فبعدما طالت سهام النقد الصين، واتُّهمت بأنها تستّرت في البداية على نطاق الأزمة، وافقت إدارة بكين على التعاون مع تحقيق منظمة الصحة العالمية بعد مفاوضات على مدى شهور. زار الفريق الدولي المختبر رغم أن تفويضه الرسمي لم يأتِ على ذكر إجراء أي بحث على مختبرات ووهان على وجه التحديد، أو أي دور قد تكون لعبته.

قال تيدروس أدهانوم غيبريسوس، حينذاك، إن الفريق – الذي شاركت الصين في تنظيمه – رفض نظرية تسرب الفيروس من مختبر بسرعة شديدة. بعد صدور تحليل هذا العام، الذي أشار إلى احتمال أن تكون كلاب الراكون وسيطاً حيوانياً، قال غيبريسوس إن البيانات التي جمعها الباحثون الصينيون كان من الممكن ومن المفترض مشاركتها قبل ثلاث سنوات.

أشار تقرير يونيو 2022 للمجموعة الاستشارية العلمية إلى أن يونغوي يانغ، نائب مدير معهد بكين لعلم الجينوم في الأكاديمية الصينية للعلوم، وعضوين آخرين في اللجنة، لم يوافقوا على التوصية بإجراء مزيد من الدراسات بشأن فرضية أن حادثاً في مختبر ربما أدى إلى تسرب الفيروس. وإذا كان حادث المختبر هو المصدر، فستكون له تداعيات هائلة على الصعيد العالمي، بما في ذلك القواعد التنظيمية لعلم الفيروسات وممارساته، وفقاً لرينا ماكنتاير، أستاذة الأمن الحيوي العالمي بجامعة نيو ساوث ويلز في سيدني.

بعد تساؤلات عن منشأ "كورونا".. مختبرات الفيروسات تستحقّ مزيداً من الإشراف

12) ما أكثر الاحتمالات المرجحة إذاً؟

قالت ماريتجي فنتر، رئيسة المجموعة الاستشارية العلمية التي تقودها منظمة الصحة العالمية وعالمة الفيروسات في جامعة بريتوريا في جنوب إفريقيا، للصحفيين في 2022، إن أقوى دليل لا يزال هو "انتقال العدوى عن طريق الحيوان". وهذا يتفق مع آراء 20 من كبار العلماء، ومن بينهم جيريمي فارار، مدير "ويلكم ترست" (Wellcome Trust)، وخوان لوبروث، كبير الأطباء البيطريين السابق في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وهي الآراء التي عبّروا عنها في رسالة لدورية "ذا لانسيت" في 2021. و"سارس-كوف-2" هو تاسع فيروس تاجي موثق يصيب البشر، والسابع الذي تسنّى تَعرُّفه في العشرين عاماً الماضية. وجميع فيروسات كورونا البشرية السابقة لها أصول حيوانية المصدر. وقالت مجموعة من العلماء الذين يدرسون تطور الفيروسات، إن ظهور فيروس "سارس-كوف-2" يحمل عديداً من سمات الوقائع السابقة لانتقال الفيروس إلى الإنسان عن طريق الحيوان، ولا سيما فيروس "سارس"، الذي انتقل إلى البشر في منطقتين من مقاطعة غوانغدونغ الصينية في 2002 و2003. وفي كلتا الحالتين كان لأسواق بيع الحيوانات الحية ضلع في انتقال الفيروس إلى البشر. باعت أسواق غوانغدونغ حيوانات قط الزباد وكلاب الراكون المصابة -من الثدييات المعروفة بأنها معرضة للإصابة بفيروس "سارس-كوف-2"- والتي كانت تُباع أيضاً في أسواق ووهان في 2019. وكانت هناك شبكة كبيرة من المزارع التي تزوّد أسواق ووهان بالحيوانات البرية، بمن في ذلك من موردين موجودين في المناطق التي يُعرَف أن الخفافيش فيها "مستودع طبيعي" لفيروسات كورونا. ومن المحتمل أن يكون بعض الحيوانات أُصيبَ قبل طرحه في الأسواق. وقالت بعثة منظمة الصحة العالمية إن مزيداً من البحث يجب أن يشمل تَتبُّع هذه المنتجات إلى مصدرها واختبار الحيوانات الأخرى هناك، وكذلك محيطها والأشخاص الذين يعيشون في مكان قريب.

13) هل يمكن أن تكون الجائحة ظهرت في مكان آخَر؟

أظهرت دراسات عديدة أن العينات الحيوية والبيئية التي جُمعت في 2019 من إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم، تحتوي على آثار لـ"سارس-كوف-2" أو الأجسام المضادة للفيروس. لاحظت المجموعة الاستشارية العلمية لمنظمة الصحة العالمية، أن أساليب كل من تلك الدراسات تتطلب مزيداً من التأكد والتحقُّق، وبالتالي فإن أهمية هذه النتائج وفحواها لا تزال غير واضحة. وأشار المسؤولون الصينيون أيضاً إلى أن الفيروس ربما ظهر من فورت ديتريك، مختبر أبحاث الجيش الأميركي في ولاية ميريلاند، داعين إلى إجراء تحقيق هناك.

14) ما وجهة نظر الصين؟

يقول المسؤولون الصينيون إنهم يشاركون في عملٍ مبني على العلم، كما شاركوا معلومات مع منظمة الصحة العالمية. وفي الوقت نفسه، تحاول الحكومة الصينية تحويل التركيز بعيداً عن كل من نظرية التسرب من مختبر وسيناريو بيع الحيوانات الغريبة المصابة بالفيروس في سوق ووهان الرطبة. عوضاً عن ذلك، دفعت الصين بنظريات بديلة مستندة إلى دعم علمي محدود، مثل أن الفيروس دخل الصين عبر الأطعمة المجمدة أو التغليف، أو أن الفيروس المسبب للمرض ظهر من فورت ديتريك، مختبر أبحاث الجيش الأميركي.

15) ما المرحلة التالية؟

كان من المقرر أن تجتمع المجموعة الاستشارية العلمية لمنظمة الصحة العالمية في يونيو الماضي، لكنها أرجأت المرحلة الثانية من تحقيقها، حسبما ذكرت دورية "نيتشر" العلمية في فبراير 2023. وقال مسؤولو منظمة الصحة العالمية إنهم ما زالوا يسعون للحصول على معلومات عن منشأ "كوفيد-19"، رغم أن الأمر يزداد صعوبة بمرور الوقت.

تصنيفات

قصص قد تهمك

أطفال يعانون "كورونا" المتمدد

لا نعرف من قد يُصيبه "كوفيد" المتمدد أو لماذا.. ما يجعله ضمن فئة مُحبِطة من أمراض غامضة

time reading iconدقائق القراءة - 18
لينكولن بروكمير وهنتر رينارد - المصدر: بلومبرغ
لينكولن بروكمير وهنتر رينارد - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

طوى لينكولن بروكمير قامته النحيلة التي تقارب المترين طولاً على سرير الفحص وهو يشرح لطبيبيه شعوراً بالخواء وكأنما استنزفت طاقته تماماً، مستشهداً بأنه بات يحتاج إلى قيلولة ليتمكن من إكمال يومه في بعض الأحيان، وقال إنّ ألم ساقيه الدائم يفوق سوءاً شعوره وكأن عظامه مُتعَبة، كما يحسّ أنهما ثقيلتان كما لو أنهما تزنان طناً. أخبر الأطباء أنه فقدَ نحو 15 كيلوغراماً ليهبط وزنه إلى 67 كيلوغراماً، وأنه يُصاب بدوار حين يركض، وتظهر عروق تشبه شبكة عنكبوتية بنفسجية على ذراعيه وساقيه بعد الوقوف. يحب لينكولن كرة السلة، لكن لا يمكنه ممارستها فيما يتألم هكذا.

34 متطوعاً اختاروا الإصابة بفيروس "كوفيد" بشكل متعمد.. إليك ما تعلّمه الباحثون من ذلك

قال لينكولن حين أبلغه الأطباء في مارس أن لديه جميع أعراض "كوفيد" المتمدد: "أحاول أن أبقى متفائلاً."، وأوصوه بالتمهل كي تتحسن حاله، وهذا يعني ألّا يلعب كرة سلة لبعض الوقت، فكرِهَ لينكولن سماع ذلك. لكن بدأ الأطباء بإعداد خطة لمساعدته على التعافي، وهو ما لم يقدمه أي من الأطباء الآخرين الذين عاينوه. لقد فات أوان موسمه الرياضي الأول المفترض في مدرسته الثانوية، لكنهم يأملون أن يعود إلى أرض الملعب في الوقت المناسب في سنته الثانية. قالت له إيمي إدواردز خبيرة أمراض الأطفال المعدية، وهي تدير عيادة "كوفيد" المتمدد في مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال في كليفلاند التابع لشركة "يونيفيرسيتي هوسبيتالز": "أنت في أيد أمينة".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

سئمنا كورونا

تحاول الولايات المتحدة والعالم أجمع تخطي فيروس "كوفيد-19"، فقد سئم الجميع حتى التفكير به. تخلّت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها عن محاولة فرض تدابير جماعية للسيطرة على الفيروس، وحتى الحريصون بدأوا يتخلّون عن كماماتهم، وعاودت الإصابات ارتفاعها في الولايات المتحدة.

يعني تزايد الإصابات مزيداً من حالات "كوفيد" المتمدد، بما فيها تلك التي تصيب الأطفال. تقديرات عدد الأطفال الذين يواجهون أعراضاً طويلة الأمد بعيدة كل البعد عن الدقة، لكنها على الأرجح تتراوح بين 5% إلى 10% ممن أصيبوا بالفيروس، حسب دانيال غريفين، خبير الأمراض المعدية في جامعة كولومبيا الذي يعالج مرضى "كوفيد" وينشر تحديثاً أسبوعياً لبودكاست حول المرض. حتى بحد التقديرات الأدنى، فإن هذا يعني إصابة أكثر من نصف مليون طفل به من أصل 13 مليون حتى الآن. تشير الدراسات التي تناولت البالغين المصابين إلى أن نحو 10% إلى 30% قد يكونون يعانون "كوفيد" المتمدد.

هل نطرح الكمامات بعد الاستغناء عنها في السفر جواً؟

كان لينكولن البالغ من العمر 15 عاماً نجماً مهاجماً في فريق كرة السلة بمدرسته الإعدادية في مدينة كوياهوغا فولز في ولاية أوهايو حتى العام الماضي. كان بارعاً لدرجة أن مدربي المدارس الثانوية في المنطقة لاحظوا موهبته. انتقل والدا لينكولن إلى كوبلي، وهي بلدة صغيرة تقع غرب مدينة أكرون، في مايو ليتمكن لينكولن من اللعب في فريق يعتقدان أنه سيعطيه فرصة أفضل للنجاح. قال والده نيت وهو جالس في غرفة الفحص: "سأتباهى بإبني قليلاً: هو لاعب كرة سلة فحل".

شعر لينكولن بأعراض نزلة برد فيما كان يوزع حلوى الهالوين العام الماضي، فاستلقى وغلبه نوم يعتريه الاضطراب. قال والده إنّ حرارته ارتفعت إلى 40 درجة مئوية وأصبح تنفسه ثقيلاً. حاول لينكولن خوض اختبارات كرة السلة في الأسبوع الذي تلا ذلك لكنه لم يستطع الاستمرار. أجبر لينكولن نفسه على العودة إلى المدرسة بعدما غاب بضعة أيام، لكن عندما لاحظ وجود دم في بوله أخذه والداه إلى غرفة الطوارئ. أجرى الأطباء فحوصات طَوال اليومين اللذين أمضاهما في المستشفى، بما في ذلك فحص الأجسام المضادة لـ"كوفيد"، فأظهرت النتائج أن لينكولن أصيب بالمرض في وقتٍ ما.

طول انتظار

بدأ لينكولن جولة مواعيد مع متخصصين بطب أورام وأمراض الرئة والروماتيزم، لكن لم يتمكن أي منهم من تحديد سبب إرهاقه الشديد، ثم تغيب عن المدرسة مرة أخرى في نوفمبر ولم يتمكن من ترك الفراش حتى منتصف يناير. أعطاه أحد الأطباء عقاراً قوياً وربما خطيراً لتثبيط المناعة هو "ميثوتريكسات" (methotrexate)، الذي ساعده على استعادة ما يكفي من الطاقة لاستئناف دراسته، وحث والديه على زيارة خبراء الأطفال المصابين بـ"كوفيد" المتمدد في مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال. استغرق تحديد موعد أكثر من شهر.

اختبار التنفس يسهّل تشخيص كورونا في التجمعات

لا نعرف كثيراً حول من قد يُصيبه مرض "كوفيد" المتمدد أو لماذا، ما يجعله ضمن فئة مُحبِطة من أمراض غامضة تظهر بعد الإصابة بعدوى مثل مرض لايم أو مرض الحمى الغددية. تعمل معاهد الصحة الوطنية الأمريكية على الإجابة عن هذه الأسئلة حول "كوفيد" المتمدد، لكن النتائج لن تكون متاحة قبل عامين آخرين على الأقل، كما قد لا يتوصلون إلا إلى حد أدنى من فهم المرض. لا يزال عديد من أطباء الأطفال لا يأخذون الشكاوى غير مُحددة المعالم أحياناً لمرضاهم الصغار على محمل الجد، وقد يتجهون للشك بأنهم يحاولون تجنب الذهاب إلى المدرسة.

قال ديفيد ميلر، إخصائي طب الأطفال التكاملي، الذي يعاين مرضى "كوفيد" المتمدد مع إدواردز في مستشفى "رينبو للرضّع والأطفال": "قيل لهم إنّ الأمر مجرد نتاج لمخيلتهم وإنهم ربما كانوا مكتئبين... لكن لدينا الآن كثير منهم، فليسوا جميعاً يحاولون تجنب الذهاب إلى المدرسة".

لم تُصَب بعدوى "كوفيد" حتى الآن؟ قد تحمل سرّ القضاء على الفيروس

لا يستطيع الأطفال غالباً التعبير عن الأعراض التي يمرّون بها، حتى حين يكون الأطباء دقيقي الانتباه. التعب هو الشكوى الأكثر انتشاراً ويليه الشعور بآلام. تشيع أيضاً صعوبة في التركيز وتغير الإحساس بالمذاق أو الرائحة. قال الأطباء الذين يعالجون الأطفال والمراهقين إنّ مرضاهم يرتادون عياداتهم جرّاء شكاوى تؤثر في عديد من أجهزة الجسم المختلفة، وأحياناً بعد أسابيع من الإصابة بفيروس "كوفيد"، بغض النظر عن شدة الأعراض الأولية. فوجئ عديد من الأطفال، الذين فُحصوا في مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال، كحال لينكولن، حين اكتشفوا أن عضلات المعدة تؤلمهم عند الضغط عليها قليلاً، حتى إنهم لم يكونوا قد لاحظوا ألماً في البطن قبل معاينتهم. قالت إدواردز: "إن الشيء الغريب هو مدى نمطية ذلك".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

إرشادات مغلوطة

رغم أن الأطفال عموماً يتعاملون مع "كوفيد" أفضل من البالغين، فإنّ عديداً من الآباء، الذين هدأت روعهم إرشادات مغلوطة من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، فضلاً عن كمّ هائل من المعلومات المغلوطة عبر الإنترنت يبثها من أعلنوا أنفسهم خبراء، افترضوا خطأً أن الفيروس لا يشكل خطراً على الأطفال أكثر مما تمثله نزلة برد.

كما أمضى عديد من أطباء الأطفال طيلة فترة الوباء وهم غير مقتنعين بأهمية تحري الإصابة بالفيروس لدى الأطفال المرضى، وقالت مراكز السيطرة على الأمراض إنّ 28% فقط من الأطفال الذين يتراوح سنهم بين 5 و11 عاماً تلقوا جرعتين من لقاح "كوفيد" حتى نهاية أبريل.

هذا ما يخبئه الوباء للعالم مستقبلاً

تساعد هذه العوامل بتفسير سبب وصول استبقاء الأطفال في المشافي إلى ذروة وبائية خلال فترة متحول "أوميكرون". أظهرت الأبحاث المبكرة على البالغين أن اللقاحات قد تساعد على تقليل خطر الإصابة بـ"كوفيد" المتمدد إن أصيب أحدهم بالفيروس. تندر حالات الوَفَيَات، لكن هذه ليس عزاءً لآباء 1010 أطفال تسبب فيروس "كوفيد" بوفاتهم في الولايات المتحدة. رغم أن هذا الرقم يفوق بكثير البالغين الذين قضى عليهم، فإنّ "كوفيد" كان رابع سبب لوَفَيَات الأطفال في يناير، وفقاً لبيانات مؤسسة "كايزر فاميلي فاونديشن" (Kaiser Family Foundation) ومركز بيترسون للرعاية الصحية (Peterson Center on Healthcare).

لا يعاني كل طفل مصاب بـ"كوفيد" المتمدد نفس أعراض لينكولن، بل إن بعضهم يعاني ما يفوقها سوءاً بكثير. يتذكر غريفين معاينة فتاة بلغت من العمر 16 عاماً لم تستطع الجلوس لأكثر من بضع دقائق دون أن تتقيأ، لذا اصطحبتها والدتها إلى عيادة الأطفال الخاصة بـ"كوفيد" المتمدد في كولورادو. قال غريفين إنه في المرة الأخيرة التي تحدث فيها مع الفتاة كان قد بات بإمكانها أن تجلس 45 دقيقة دون أن تتقيأ.

مرضى محظوظون

يُعَدّ الأطفال الذين يعانون "كوفيد" المتمدد ويتاح لهم أن يعاينهم إدواردز أو ميلر أو أطباء آخرون في ما يقرب من 75 إلى 100 من مستشفى أطفال أقامت عيادات خاصة بـ"كوفيد" المتمدد في البلاد محظوظين؛ يميل هؤلاء الأطباء للعب دور مدربي دعم يساعدون الأطفال على تنظيم أيامهم وجدولة فترات راحة متكررة كي يتمكنوا من رعاية أنفسهم بشكل أفضل. فقد ينصحونهم بتغيير الأنظمة الغذائية للتخلص من السكّر الأبيض وتناول الفواكه والخضراوات المضادة للالتهابات، أو قد يطلبون لهم موعداً مع لإخصائي قلب أو جهاز هضمي أو علاج طبيعي.

العلماء مختلفون حول معنى كورونا "المستوطن"

يحاجج بعض الأطباء أنه مهما كان ما يعانيه هؤلاء الأطفال فإنه ذلك ليس بـ"كوفيد" المتمدد. تُعَدّ كريستين والش، وهي طبيبة أطفال في نيوجيرسي مقتنعة بأن الأطباء لديهم دوافع مالية لمعالجة هذه الحالات، من بين المشككين صراحة بوجود "كوفيد" المتمدد. قالت والش: "كان هناك كثير من الأموال المخصصة لـ(كوفيد) الأطفال، فدفعت المشافي لفتح هذه العيادات... اتبعوا مسار المال". لكن، مثل كثير من الجدل المُثار حول الوباء، فإنّ حجة والش تحمل من المشاعر أكثر مما تحمل من الدقة الواقعية، فقد منحت معاهد الصحة الوطنية مبالغ كبيرة من المال للبحث في "كوفيد" المتمدد، لكن هذا المال لا يصل إلى عيادات العلاج.

والش من الأعضاء المؤسسين لمجموعة تطلق على نفسها اسم "الطوارئ العادية''، وتتألف من نحو عشرة أطباء بدأوا في وقت سابق من هذا العام حملة صاخبة لإسقاط قيود الوباء، لا سيما الكمامات في المدارس. كما يقدمون للآباء رزمة توصيات بهدف تقليل المخاطر التي يتعرض لها الأطفال. يصر هؤلاء الأطباء، على سبيل المثال، على أن "كوفيد" يشبه الإنفلونزا لدى الأطفال غير المُلقَّحين، وأن "كوفيد" المتمدد لا يشكّل خطراً كبيراً.

تمويل للبحث

قالت ألكسندرا يونتس، طبيبة الأمراض المعدية التي تدير عيادة الأطفال الخاصة بفيروس "كوفيد" المتمدد في مستشفى الأطفال الوطني في العاصمة واشنطن: "لقد أغضبني هذا، فقد جرى تجاهل كثير من الأشياء لأن الأطفال لا صوت لهم".

تلقّى مستشفى الأطفال الوطني نحو 40 مليون دولار من معاهد الصحة الوطنية العام الماضي لدراسة الآثار طويلة المدى لفيروس "كوفيد"، لكن التمويل مخصص للبحث فقط، لا لعيادة الأطفال المصابين بـ"كوفيد" المتمدد، حسب ما قالت يونتس، التي تقضي ساعات خارج أوقات عملها تقارع المختصين سعياً لأن يستقبلوا مرضاها. قالت يونتس إنها كانت متشككة حيال مضاعفات ما بعد الإصابة قبل الوباء، لكن تدفق المرضى الذين يعانون من بقاء الأعراض إلى المستشفى فتح بصيرتها.

كنا نصفق لفرق التمريض.. والآن نتركهم يُستنزفون

يصل الآباء ذوو العزيمة في النهاية إلى عيادات مستشفى الأطفال الوطني أو غيره من مشافي "كوفيد" الأخرى الخاصة بالأطفال في الولايات المتحدة، التي تضم أطباء مثل يونتس ممن يعملون ساعات إضافية لفحص مرضى "كوفيد" المتمدد بما يفوق حملهم المعتاد. يزداد ذلك صعوبةً مع تدفق مزيد من الأطفال. ارتفع عدد العائلات التي تطلب المساعدة في عيادة "كوفيد" المتمدد في مستشفى الأطفال الوطني بعد ظهور "أوميكرون"، وقالت يونتس إنّ قائمة الانتظار طالت لتبلغ أربعة أشهر.

تتشابه الحكاية في جميع أنحاء البلاد. قالت سيندو موهانداس، إخصائية الأمراض المعدية للأطفال، وهي تدير عيادة "كوفيد" المتمدد في مستشفى الأطفال في لوس أنجلوس: "اعتدنا أن تكون متلازمات ما بعد العدوى قليلة، واحدة هنا وأخرى هناك، ولم تكن شائعة جداً. لكننا الآن نشهد كثرة فيه". بيّنت موهاداس أن عيادتها تتلقى مكالمات من جميع أنحاء البلاد.

تطور "كوفيد" لن يتوقف عند "أوميكرون"

يُغفِل النظام الصحي عديداً من الأطفال، خصوصاً من المنتمين إلى عائلات سوداء أو لاتينية. إذ تستقبل عيادات مستشفى الأطفال الوطني "العائلات الثرية البيضاء وذات الدراية الطبية" في المقام الأول، حسب قول يونتس، رغم أن الأشخاص ذوي الأصول اللاتينية في واشنطن هم أكثر عرضة للإصابة بـ"كوفيد" مقارنة بالبيض.

قال تقرير صدر في نهاية مارس بعنوان حالة أمريكا السوداء و"كوفيد-19" إن هناك "أدلة بالفعل على تباينات في التشخيص وإتاحة العلاج" في ما يتعلق بـ"كوفيد" المتمدد. تقول المجموعة التي أصدرت التقرير، وهي تحالف السود ضد "كوفيد"، إنّ هناك حاجة إلى مزيد من الجهود لإدراج السود في التجارب وبرامج العلاج.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

بضعة أطفال

تعمل عيادة مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال بنفس الطريقة التي تعمل بها عيادة مستشفى الأطفال الوطني. تعرفت إدواردز على "كوفيد" المتمدد من خلال عملها على حال مختلفة مرتبطة بـ"كوفيد" تسمى بمتلازمة التهاب الأجهزة المتعددة لدى الأطفال (MIS-C). حين أراد مركز طبي قريب فتح عيادة "كوفيد" للبالغين، سعى لإدواردز متسائلاً عما إذا كانت تستطيع التعامل مع الأطفال الذين يترددون على العيادات. قالوا لها حسبما تتذكر إنه لن يكون هناك كثير منهم. أردفت قولها: "ردّي كان بالتأكيد، طفل أو طفلان، هنا أو هناك، أستطيع أن أفعل ذلك".

لكي نستعيد حياتنا الطبيعية.. علينا أن نتعايش مع كورونا

ما بدأ قطرةً غدا سيلاً. التقت إدواردز في أحد الأيام بميلر في الردهة وطلبت مساعدته، لكن لا يزال لديهم عدد من المرضى يفوق ما يمكنهم التعامل معه، خصوصاً لأنهم كانوا يضطرون خلال العام الماضي إلى فحص 60 حالة إضافية فوق من يعاينوهم خلال ساعات عملهم المعتادة. يعاني الأطفال الذين يعالجونهم عادة من أمراض معقدة بدرجة كافية، بحيث تستغرق المواعيد غالباً ما يزيد على ساعة، مقارنة بالمعاينات النمطية التي تتراوح مدتها بين 15 و30 دقيقة، كما تتعين عودتهم إلى عدة متابعات. ينتظر المرضى الجدد نحو ستة أسابيع للحصول على موعد.

معاينات طويلة

تعاين إدواردز وميلر مرضى يعانون من "كوفيد" المتمدد كل جمعة في مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال. قالت إدواردز: "أنا متأكدة أننا نجعل نظام المستشفى يخسر المال، لأن واحدنا لا يفحص سوى خمسة مرضى في يوم". كانت تتحدث بين معاينات لمرضى في غرفة يستخدمها عادة أطباء نفسيون لمراقبة الأطفال عبر مرآة تسمح لهم برؤية الجانب الآخر دون أن يُرَوا. تُعَدّ الغرفة هادئة مقارنة بالمناظر الطبيعية المشرقة وبهجة الغابات التي تغطي الجدران والأسقف في جميع أنحاء بهو وممرات مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال. تفحص إدواردز وميلر مرضاهما أينما وجدا مكاناً متاحاً في جناح المستشفى للرعاية المتخصصة. كما تقوم إدواردز بجميع أعمالها الإدارية بنفسها. يعلم أطفالها أنها لن تعود إلى المنزل في وقت العشاء في معظم أيام الجمعة.

إنفوغراف: نسبة التعافي بين مصابي كورونا منذ بداية الوباء

فحصت إدواردز وميلر أصغر مرضاهما في مطلع مارس وهو هنتر رينارد، الذي بلغ 4 أعوام، وكان قد عانى من "كوفيد" المتمدد لعامين من عمره. اختبأ هنتر خلف كرسي أزرق في غرفة الفحص، فيما شرحت أمه كريستين كيف بدأ يعاني من حُمى شديدة كل بضعة أسابيع بعدما أصيب جميع أفراد الأسرة بـ"كوفيد" في بدايات الوباء. لم يكن هنتر يأكل جيدًا ويقول لوالدته إنّ رائحة الطعام "مقززة"، كما لم يكن ينام جيداً. أخذت كريستين ابنها إلى عدد من المشافي على مدى أشهر، بما فيها "كليفلاند كلينيك" (Cleveland Clinic)، قبل افتتاح عيادة خاصة بـ"كوفيد" المتمدد في مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال. قالت كريستين لإدواردز وميلر: "لم يعرف أحد مِمَّ يعاني. كان الأمر مُحبِطاً للغاية لأنني لم أعرف ما ينبغي أن أفعل في تلك المرحلة، فلم يكن أحد يصدقني".

"أوميكرون" ليس المتحوِّر الأخير.. متى ينتهي الوباء من العالم؟

أخبرت كريستين الأطباء أن وزن هنتر بدأ يزيد بعدما بدأت تقدم له منتج "بدياشور" (PediaSure) الغذائي، كما لم تعُد تعثر عليه يلعب في الطابق السفلي في الرابعة صباحاً، بمجرد أن بدأت وزوجها بإعطائه مكمل "ميلاتونين" لمساعدته على النوم.

أصيب جميع أفراد العائلة بــ"كوفيد" مرة أخرى في ديسمبر، ووصلت في فبراير حُمى هنتر المتقطعة إلى 41 درجة مئوية، وبدأ يهلوس ويتخيل رؤية شخصيات من ألعاب الفيديو المفضلة لديه تتجول على السقف. قالت كريستين إنّ هذا أنهكها.

قالت إدواردز لكريستين: "أودّ أن أؤكد لك إنك لست مجنونة"، فأجابتها كريستين: "أشعر كأنني قد جُننت... لم يصدقني أحد على مدى عام ونصف"، فقالت إدواردز: "أنا أصدقك".

يعتقد بعض أهل القطاع الطبي أن مرض "كوفيد" المتمدد عبارة عن استجابة مناعية ذاتية أو أن الفيروس يسبب تلفاً في الأعصاب، لكن لا أحد يعلم ذلك يقيناً. تميل إدواردز وميلر في مستشفى "رينبو" للرضّع والأطفال إلى التوصية بالراحة وتغيير النظام الغذائي لمرضاهما. قال لينكولن بروكمير إن الدعم والتوجيه الذي تلقاه من أطبائه بدأ يؤتي ثماره، فهو يأكل بشكل أفضل وعاد إلى الوزن الذي كان عليه قبل الإصابة بـ"كوفيد". استعاد لينكولن قدراً من طاقته كذلك، وقال إنّ التخلص من السكّر المُكرر من نظامه الغذائي كان بمثابة "تغيير لقواعد اللعبة". يمكنه الآن المشي لمسافات أطول، وفي الأيام الجيدة لا يقاوم رغبته فيسدد بعض رميات الكرة، لكن عليه أن يجلس بين الرمية والأخرى. قال: "كان هذا هو الشيء الأشد إحباطاً، لأنني فاتني موسم كرة السلة بأكمله. لقد عملت بجد وذهب كل ذلك هباءً".

جوازات سفر اللقاح تساعد الدول على تعزيز الحماية

لم تكن كرة السلة الخسارة الوحيدة التي عاناها الطالب الجديد في مدرسته ومدينته. قال لينكولن إنه كان قد بدأ للتو بالانفتاح على الطلاب في مدرسته حين مرض، ثم تُرِك ليتفرج على كل المتعة التي كان يحظى بها أصدقاؤه الجدد عبر "سناب تشات". قال مستذكراً: "شعرتُ حقاً بالوحدة".

لا يزال لينكولن يشعر بأنه متخلّف في دراسته، لكنه يقول إنّ صحته العقلية تحسّنت بعد تشخيص حالته: "لأنني أشعر أننا نعرف الآن أن الدرب طويل، فشعوري تحسن لأنني بتّ أعرف سبب معاناتي... وأنه بمقدوري أن أفعل شيئاً حياله".

تصنيفات

قصص قد تهمك

نستخدم في موقعنا ملف تعريف

نستخدم في موقعنا ملف تعريف الارتباط (كوكيز)، لعدة أسباب، منها تقديم ما يهمك من مواضيع، وكذلك تأمين سلامة الموقع والأمان فيه، منحكم تجربة قريبة على ما اعدتم عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك تحليل طريقة استخدام موقعنا من قبل المستخدمين والقراء.