بلومبرغ
في ظل صعوبة السفر وتنقل المفتشين التي فرضتها جائحة كورونا، لجأت بعض الدول إلى استخدام الكاميرات المثبتة على الرأس وعقد المؤتمرات عبر الإنترنت، لإجراء عمليات التدقيق الخاصة بالسلامة.
تسببت جائحة كورونا العام الماضي في إيقاف عمل المفتشين الذين يجولون على منشآت تصنيع العقاقير الطبية في جميع أنحاء العالم. ومع تراكم أكثر من ألف عملية تدقيق غير منجزة لدى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، واجهت هذه الهيئة التنظيمية ضغوطاً متزايدة لتبنّي حل لطالما ظلت تتحاشاه لفترة، ألا وهو التفتيش الافتراضي على مصانع الأدوية الأجنبية.
المفتشون العاملون في هذا المجال في بعض الدول، بما فيها اليابان، والمملكة المتحدة، ودول أوروبية أخرى، استعاضوا عن عمليات التفتيش والتدقيق المباشرة، بأساليب أخرى، مثل استخدام الكاميرات المثبّتة على الرأس، أو اعتماد نقاط الاتصال المتنقلة بتقنية "واي فاي"، فضلاً عن عقد المؤتمرات عبر الإنترنت، وتبادل الوثائق السرية ومشاركتها عبر تطبيقات رقمية موثوقة. ورغم أن الجائحة لم تتسبب في توقف إنتاج الأدوية على مستوى العالم، إلا أنَّ بعض المفتشين أقرّوا بأنَّ أعمال التفتيش والتدقيق على الأرض تسمح لهم بإجراء فحوصات أكثر دقة، بما في ذلك إمكانية القيام بزيارات ميدانية مفاجئة، والحصول على إجابات فورية عن أسئلتهم، وكذلك مراجعة ظروف التعقيم داخل المنشآت والمصانع.
إرشادات عامة
ما زالت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية تنظر في وضع إرشادات عامة من شأنها أن تمهد السبيل للاستعانة بعمليات التقييم عن بُعد للمصانع، وعلى نطاق واسع مثل السلامة وما إذا كانت المكونات المُستخدمة في تصنيع الأدوية بنفس التركيز المزعوم فعلاً، وفق ما تؤكده مصادر مطلعة على المسألة طلبت عدم الكشف عن هويتها، لخصوصية المداولات. وقد أجرى مسؤولو الإدارة مباحثات مع نظرائهم الدوليين الذين سبق لهم إجراء عمليات تفتيش افتراضية في دول كالهند، كما يؤكد أحد هذه المصادر.
الجدير بالذكر أنَّ 40% تقريباً من منشآت إنتاج المستحضرات الدوائية التي يتم شحنها إلى الولايات المتحدة، موجودة في الصين والهند. وكانت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية ترفض فكرة الاعتماد على أي شكل من أشكال الرقابة عن بُعد للمصانع الأجنبية، كتلك التي اعتمدتها المملكة المتحدة، وأيضاً المديرية الأوروبية لجودة الأدوية والرعاية الصحية، وذلك بسبب مشكلات حدثت في الماضي مع بعض منشآت التصنيع الدولية.
في السنوات الأخيرة، تم سحب الملايين من حبوب ضغط الدم التي تم إنتاج مكوّناتها في آسيا من الأسواق بسبب تلوثّها بمواد مسرطنة. وفي عام 2013 أيضاً، اعترفت مختبرات "رانباكسي الهندية المحدودة" بأنها قامت بتصنيع وتوزيع أدوية مغشوشة، ودفعت غرامة بقيمة 500 مليون دولار أمريكي لوزارة العدل الأمريكية، بعد اكتشاف تلاعب واسع النطاق بالبيانات في اثنين من مصانعها.
تراجع الثقة
تفضل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية عمليات التدقيق الميدانية على المصانع، باعتبارها طريقة لرصد الأخطاء أو الثغرات المحتملة في الجودة -كالعثور على أزياء عمال متسخة وأزمة صرف صحي داخل مصنع آخر في الهند عام 2013. وأصبح لهذه العمليات تأثير كبير على المصنّعين، إذ تقول "سيريشا يادلابالي"، وهي مدير أول في الهند تعمل لمصلحة "فارامكوبيا" (Pharmacopeia)، المنظمة الأميركية التي يمتد عمرها لأكثر من 200 عام وتقوم بوضع معايير للصناعة الدوائية على مستوى العالم: "إن التدقيق الميداني تسبب بكل التأكيد في إبطاء حركة الأدوية". وبرأيها، فإنَّ توقف عمليات التفتيش مؤقتاً "من المحتمل أن يؤدي إلى تراجع عامل الثقة" بالمصانع الأجنبية التي كانت قد حصلت على موافقات قبل ذلك بأعوام، لكنَّها الآن لم تعد تخضع لعمليات تفتيش دورية من أجل التأكد من أنَّها مازالت مستوفية للمعايير.
تأخر يضرّ بالإنتاج
صحيح أنَّ المُصنّعين قلما يرحبّون بعمليات التفتيش داخل منشآتهم، والتي تتسم غالباً بأجواء من التوتر، خصوصاً إذا كانت جهة التدقيق واحدة من الهيئات الغربية التي تعمل كحارس لبعض أسواق الأدوية الأكثر ربحية، إلا أنَّهم يشكون من أنَّ التعطيل الذي تسببت به جائحة كورونا، قد أدى إلى تراكم أكثر من ألف عملية مراجعة من هذا القبيل، وهو ما يضرّ بأعمالهم.
يفيد تقرير صادر في شهر يناير عن شركة "ألاينس بيرنستين" بأنَّ ما يقارب 12 مصنعاً خاضعاً لإدارة ثلاث من أكبر شركات المستحضرات الدوائية الهندية، كانت بانتظار تسوية خطابات إنذار وطلبات عمل رسمية ألصقتها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على مصانعها قبل تفشي جائحة كورونا. كما تسبب تأخير جولة تفتيش أخرى لمصنع في تعطيل الحصول على موافقة الولايات المتحدة على نسخة مشابهة حيوياً لعلاج مرض السرطان "أفاستين" (Avastin) الذي تُنتجه شركة "بيوكون المحدودة" (Biocon)، ومقرها مدينة بنغالور الهندية.
تفتيش عن بُعد
من بين جهات التنظيم والرقابة التي تدرس إمكانية التفتيش عن بُعد، المديرية الأوروبية لجودة الأدوية والرعاية الصحية. ففي الفترة من نوفمبر 2020 إلى شهر فبراير الماضي، أجرت تلك الجهة ثلاث عمليات تفتيش افتراضية تجريبية على مصانع هندية، وقامت بجولة في منشآتها باستخدام كاميرات الهواتف المحمولة والحواسيب اللوحية. وتعليقاً على ذلك، قالت المفتشة "كريستينا باكاريلي" إنَّ الأمر قد يصبح عاملاً إضافياً وأساسياً في عملية الإشراف، مع الإشارة إلى أنَّ "كريستينا" هي عضو في فريق يجري عادةً زيارات إلى 40 منشأة لإنتاج المستحضرات الدوائية سنوياً، لكنَّه ممنوع من السفر منذ أبريل من عام 2020، عندما قلّصت المديرية من سفر فرقها إلى الخارج.
أمَّا الوكالة التنظيمية للأدوية ومنتجات الرعاية الصحية (MHRA) التابعة للمملكة المتحدة، فقد أجرت ما يزيد على 70 عملية تفتيش منذ شهر أبريل العام الماضي، عدد غير محدد منها تم إجراؤه عن بُعد. ومن بين مصنّعي الأدوية الذين شملتهم عمليات التفتيش التي قامت بها الوكالة هذا العام، شركة "سيروم إنستتيوت أوف إنديا" (Serum Institute of India)، وهي أكبر شركة مُصنّعة للقاحات في العالم، والمسؤولة عن توريد ملايين الجرعات من لقاح شركة "أسترازينيكا" المُضاد لفيروس كورونا إلى بريطانيا ومعظم الدول النامية حول العالم.
منهجية عمل جديدة
تقول "بولا ووكر "، وهي مديرة إحدى وحدات عمليات التفتيش لدى الوكالة التنظيمية للأدوية ومنتجات الرعاية الصحية في المملكة المتحدة: "نحن ننوي مواصلة أعمالنا بمنهجية عمل هجينة تجمع ما بين الأنشطة التي تتم عن بُعد والأنشطة التي تتم ميدانياً في الموقع، في مرحلة ما بعد انتهاء الجائحة". وتؤكد "ووكر" أنَّ عمليات التفتيش عن بُعد، أتاحت للوكالة مواصلة مهمتها "لضمان صحة المرضى والصحة العامة وأمن سلسلة التوريد في ظل الجائحة".
غير أنَّ منهجيات عمل من هذا القبيل، تواجه صعوبات كثيرة، سواء ما يتعلق منها بسرعة الاتصال بشبكة الإنترنت، والتي تكون في العادة بطيئة في المناطق النائية، أو اعتماد تجهيزات متباينة من حيث المعايير، والأهم من كل ذلك هو غياب عنصر المفاجأة الذي يعتبر العامل الأساسي في مراقبة هذه الصناعة إذا ما نظرنا إلى التاريخ الطويل من عمليات الاحتيال في هذه الصناعة. تقول المفتشة "كريستينا باكاريلي":
ليس من السهل أن تجد ما يعوّض غياب بعض العناصر في عمليات التفتيش الميدانية، كتفسير لغة الجسد مثلاً والتعامل المباشر والفوري مع جميع المشغّلين، وكذلك التغييرات السريعة وغير المتوقعة في جدول أعمال التفتيش
ووفقاً لبولا ووكر، فإنَّ منهجيات العمل الافتراضية ليست مناسبة تماماً لأماكن معينة، مثل المنشآت المُعقّمة. بينما ترى "سيريشا يادلابالي" من "فارامكوبيا" أنَّ ضمان البيانات يكون أصعب وإمكانية الوصول إليها تكون محدودة، فضلاً عن أنَّ المفتشين يكونون غير قادرين على تفتيش حاويات القمامة مثلاً، بحثاً عن الوثائق والمستندات الممزقة، أو في الحالات القصوى، تحري حقيقة منشآت وهمية. وحول هذا تقول "يادلابالي": "هذا النوع المتعمق من عمليات التفتيش صعب". وهي تتوقع بأنَّ يقتصر استخدام التكنولوجيا عن بُعد في مرحلة ما بعد انتهاء الجائحة، على تفقد المُصنّعين الذين تم التأكّد من أنَّهم يتمتعون بمعدل منخفض من المخاطر.
التأقلم مع الظروف
رغم أنَّ إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لم تعتمد عمليات التدقيق الافتراضية للمصانع بعد، إلا أنَّها تأقلمت مع ظروف الجائحة عبر استخدام "أدوات افتراضية"، مثل عمليات التقييم التفاعلية عن بُعد، وطلبات التسجيل، والاستفادة من المعلومات المُستمدة من شركائها التنظيميين الذين هم موضع ثقة"، وفقاً لما يؤكده متحدث باسم الإدارة.
يشير هذا المتحدث إلى أنَّ الإدارة أجرت عدداً قليلاً من الزيارات الميدانية "ذات المهمة الحرجة"، من بينها بعض الزيارات إلى الهند، منذ شهر يناير الماضي. لكنَّ المكاتب الخارجية للإدارة تعاني نقصاً في عدد الموظفين، وبالتالي لا يتم النظر في عمليات التفتيش إلا للشركات المنوط بها إنتاج العلاجات والأدوية ذات الصلة بكوفيد-19، لا سيما تلك التي لا تتوافر منها كميات كافية. وبحسب "التحالف الهندي للدواء"، فإنَّ نطاق إشراف إدارة الغذاء والدواء الأمريكية "شاق"، إذ إنَّ هناك 550 مصنعاً مُعتمداً من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية بحاجة إلى المراقبة في الهند، وهو أكبر عدد من المصانع على الإطلاق خارج الولايات المتحدة.
تحذير من تباطؤ التدقيق
ما لم تسّرع إدارة الغذاء والدواء الأمريكية وتيرة عمليات التفتيش لديها –خصوصاً أنَّها تُجري عادةً ما يقرب من 1,500 جولة مراقبة سنوياً داخل الولايات المتحدة وخارجها– فإنَّها ستظل تواجه معوقات لسنوات طويلة في المستقبل. كما أنَّ القيود المفروضة بسبب الجائحة من الممكن أن تزيد عدد المصانع التي تظل لمدة خمس سنوات من دون تدقيق، وهذا ما كان "مكتب مساءلة الحكومة" الأمريكي قد حذّر منه في تقرير أصدره في شهر مارس الماضي.
كلما طالت مدة هذه التعطيلات، ستستمر شركات تصنيع الأدوية القلقة في الهند في الضغط على إدارة الغذاء والدواء الأمريكية للبدء باعتماد عمليات التقييم الافتراضية. أحد المسؤولين التنفيذيين في شركة "لوبين" (Lupin) -التي تتخذ من مومباي مقراً لها، وهي تنتظر بدورها إجراء عمليات تفتيش لعدد من مصانعها– وجّه سؤالاً إلى مسؤول في إدارة الغذاء والدواء الأمريكية خلال فعاليات لقاء صناعي جرى تنظيمه عبر الإنترنت في فبراير الماضي، مفاده: "لماذا لا تحذو الإدارة الأميركية حذو الجهات التنظيمية والرقابية في الدول الأخرى؟". وجاءت الإجابة من "كريستوفر ميديندورف"، وهو مفتش مقيم في الهند، بأنَّ إدارة الغذاء والدواء الأمريكية "تدرس جميع الخيارات المتاحة، دون استبعاد أي شيء".