الملياردير الأميركي في مقابلة مع "الشرق": السعودية والإمارات ودول الخليج عموماً تعيش نهضة وتمثل نموذجاً فريداً من الانسجام والإنتاجية

الملياردير داليو لـ"الشرق": نحن في عصر تحقيق الانتصارات بأي ثمن

المصدر:

الشرق

في مقابلة خاصة مع "الشرق"، يشارك الملياردير راي داليو، مؤسس "بريدج ووتر أسوسييتس" (Bridgewater Associates) وأحد أبرز المستثمرين العالميين في الاقتصاد الكلي، رؤيته حول القوى الخمس التي تُعيد تشكيل النظام العالمي. يستعرض داليو تحليله المبني على دراسة عميقة لتاريخ امتد لخمسة قرون، مقدّماً منظوراً فريداً حول الديون العالمية، الصراعات السياسية، الأحداث الطبيعية، الابتكارات التكنولوجية، والتحولات الجيوسياسية. 

تأتي هذه المقابلة في وقت حاسم يشهد فيه الاقتصاد العالمي تقلبات عميقة. يناقش داليو التحديات التي تواجه الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وأوروبا، ويحلل دور الاقتصادات الناشئة والخليجية في رسم ملامح المستقبل. كما يقدم نصائح قيّمة للمستثمرين الشباب، مسلطاً الضوء على استراتيجياته الخاصة التي طورها عبر عقود من الخبرة. 

فيما يلي نص المقابلة الكاملة التي أجرتها الإعلامية نور عماشة مع داليو، حيث يأخذنا في جولة عميقة داخل أفكاره حول استراتيجيات الاستثمار، الذكاء الاصطناعي، والأدوار المتغيرة للقوى العالمية. 


نور عماشة: باعتبارك مستثمراً عالمياً في الاقتصاد الكلي منذ نصف قرن، قمت بدراسة ما حدث في الماضي لفهم عصرنا الحالي وما قد يحدث في المستقبل. خلال دراستك للتاريخ وجدت أن هناك خمس قوى تشكل عالمنا اليوم. ما هي وما أهميتها؟ 

راي داليو: حسناً، القوى الخمس هي في الأساس خمس دورات تحدث. 

القوة الأولى هي دورة الدَّين والنقود. عندما تمنح الناس مزيداً من الائتمان، تصبح لديهم قوة شرائية أكبر، ثم يتحول هذا الائتمان إلى ديون، ويصبح هناك الكثير من الديون، ومن ثم يجب سداد هذه الديون، مما يُنشئ دورة، أليس كذلك؟ لذا فإن دورة الديون الحالية هي دورة كبيرة جداً. دورة الدين والنقود. ما هي قيمة النقود وما حجم الديون؟ هذا أولاً. هذا يقود الأسواق ويقود الاقتصادات. 

القوة الثانية هي القوة الداخلية للنزاع أو السلام.. التناغم أو الصراع. والآن ثمة اختلافات لا يمكن التغلب عليها. لدينا شعبوية اليسار وشعبوية اليمين تتصارعان. ولم نعد نمتلك حلاً وسطاً كما في السابق. لذلك نرى هذه القوة الكبيرة، قوة النزاع السياسي الداخلي.  

القوة الثالثة هي الصراعات الجيوسياسية الكبيرة. صعود قوة عظمى جديدة تتحدى قوة عظمى قائمة وتغير النظام العالمي، وطريقة عمل المنظومة التي لم تعد تعمل بنفس الطريقة مع الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، هناك صراعات دولية أكبر.  

القوة الرابعة كانت دائماً الأحداث الطبيعية: الجفاف، والفيضانات، والأوبئة قتلت أكثر من الحروب ولها تأثيرات كبيرة على النظام الجيوسياسي. بالتأكيد لدينا الآن عامل التغير المناخي.  

والقوة الخامسة هي التكنولوجيا. دائماً ما كانت اختراعات الإنسان للتقنيات الجديدة ذات تأثير تحولي. لذا عندما ننظر إلى هذه القوى الخمس، نرى تغييرات هائلة في التكنولوجيا التي ستحدث مع الذكاء الاصطناعي. هذه القوى الخمس تعمل معاً، ولها تأثيرات متبادلة، وهذا ما يخلق الديناميكية التي نحن فيها. 

الديون والنقد 

نور عماشة: عندما نتحدث عن مشكلة الديون والنقود، ما مدى قلقك حقاً بشأن مشهد الديون الحالي في الولايات المتحدة؟ 

راي داليو: أنا قلق جداً، لأن الدين الحكومي يمثل عبئاً هائلاً في الوقت الحالي. نحن معتادون على بيع الكثير من الديون. والعالم قد استحوذ على الكثير من الديون، وحجمه أكبر من المستوى المقبول في أية محفظة متنوعة. لذا عليك أن تنظر إلى الدين والنقود كوسيلة للتبادل ومخزن للثروة. لكن الآن أصبح مهدداً كمخزن للثروة لأن حجم الدين المعروض للبيع أكبر بكثير من الطلب على شرائه. وهذه الحالة تخلق وضعاً خطيراً للغاية، إذا لم يعد يحصل حاملو الديون الحالية على عائد كافٍ، فسوف نشهد بيعاً لهذه الديون. وإذا حدث ذلك، وهو احتمال منطقي، فإنك ستواجه اختلالاً كبيراً بين العرض والطلب. 

وهذا يجعل البنوك المركزية إما ترفع أسعار الفائدة بشكل كبير، مما سيقلل الائتمان والإنفاق، أو تضطر إلى طباعة النقود وشراء المزيد من الديون، مما يؤدي إلى تدهور القيمة. نرى ذلك ينعكس في سعر الذهب، ونراه ينعكس في سعر العملات المشفرة، حيث يتم التشكيك في قيمة النقود كمخزن للثروة، وبرأيي تصبح قيمة أصل الدَّين كمخزن للثروة أكثر خطورة بكثير. 

نور عماشة: هل تعتقد أن هذا سيجعل الوضع في الولايات المتحدة يتفاقم؟ 

راي داليو: أعتقد أن العالم لديه الكثير من النفقات نسبةً لموارده. نحن الآن، بشكل كلاسيكي، مثل فترة 1930 إلى 1945، نحن في فترة مشابهة جداً لتلك، حيث لا نواجه فقط المطالب الاقتصادية، ولكن لدينا أيضاً المطالب السياسية والجيوسياسية. اجتماعياً هناك حاجة إلى المزيد من الأموال، ثم عسكرياً هناك حاجة إلى المزيد من الأموال. كما أن موضوع المناخ مكلف للغاية حيث تُقدر تكلفته بحوالي 8 تريليونات دولار سنوياً بطريقة أو بأخرى. وهذا يعادل سنوياً 8% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لذا تصبح الحاجة إلى المزيد من الأموال أمراً ملحاً. ثم كيفية توزيع تلك الأموال، أساسية بالطبع. لذلك نرى أن الصراع على الثروة مرتبط بكيفية توزيعها ويُعد عاملاً سياسياً. نعم، سيكون هذا مشكلة. 

نور عماشة: رأينا إنفاقاً كبيراً في الاقتصادات العالمية خلال فترة الجائحة وما بعدها لإنعاش النمو. وقد أدى ذلك إلى المزيد من الديون، ما مدى قلقك بشأن مشكلة الديون العالمية؟ 

راي داليو: إنها مشكلة شاملة، لنأخذ أوروبا التي لديها الكثير من الديون ولا تملك ما يكفي من الأموال، ولديها مطالب عسكرية ومطالب اجتماعية واقتصاد يعاني. لذا، لديها مشكلة. الصين لديها مشكلة، واليابان لديها نفس المشكلة. أعتقد أن هذا أحد الأمور المهمة التي يجب فهمها لأنني أعتقد أن الناس يتساءلون إذا ما كان الدولار سيكون أقوى من اليورو، أو أفضل من الين، وهكذا. كلا، هذه منافسة بشعة.

الجميع يواجه هذه المشكلات، والتاريخ يظهر أنهم يخفضون قيمتها معاً. ولهذا ترى الطلب على الذهب، وعلى أصول أخرى يرتفع. لأن السؤال الحقيقي، المثير للاهتمام، هو ما هو مخزن الثروة الجيد؟ وأعتقد أن هذا السؤال سيطفو أكثر على السطح خلال السنوات القليلة المقبلة. 

الذهب والعملات المشفرة

نور عماشة: هل تعتقد أن هذا السؤال هو ما أدى إلى الارتفاع في سعر العملات المشفرة، تحديداً "بتكوين" في الأسابيع القليلة الماضية؟ 

راي داليو: بخصوص العملات المشفرة والذهب. السؤال الذي يطرح نفسه هو: أين هو المخزن الآمن للثروة؟ في ظل هذا المناخ السياسي المشحون، والقلق من العقوبات تغيرت طبيعة مخزن الأموال الآمن للثروة. بمعنى آخر، هناك حاجة ليس فقط لمخزن للثروة، ولكن إلى ما يمكن نقله من بلد إلى آخر ومعترف به عبر البلدان كوسيلة للتبادل ومخزن للثروة. وقد كان هناك طلب على تلك الأنواع من الأصول حيث كان هناك تخارج من أصول الدَّين. 

نور عماشة: حسناً، الآن إذا انتقلنا إلى القوة الثانية والصراعات الداخلية، الآن مع سيطرة الجمهوريين على كلا مجلسي الكونغرس والبيت الأبيض، هل أنت قلق بشأن صراع داخلي؟ 

راي داليو: حسناً، أعتقد أنه يجب علينا أن ندرك أننا لم نعد في عصر التسويات الكبرى، أي الديمقراطية كما نفهمها وكما عشناها في معظم حياتنا. نحن الآن في عصر تحقيق الانتصارات بأي ثمن. هناك حرب دائرة لتحقيق ما يسعى إليه الجمهوريون، وهو حكومة أكثر كفاءة، ومقاربة رأسمالية أكثر، وبيئة اقتصادية تتمحور أكثر حول الأعمال. وهذا أصبح حاجة أيضاً في عالم تزداد فيه التهديدات.

الرأسمالية كما نعرفها لن تبقى كما هي، لأنه عندما يكون لديك عالم تسوده الحروب، على سبيل المثال الصراعات بين الولايات المتحدة والصين، فثمة اعتبارات جيوسياسية تُؤخذ في الحسبان. ماذا سنفعل بشأن توجيه صناعة الرقائق الإلكترونية، بمعنى تحقيق الاكتفاء الذاتي في أشياء مثل الرقائق المتقدمة؟ 

الهدف هو إنتاج 20% من هذه المنتجات داخل الولايات المتحدة لأسباب جيوسياسية. هي مقاربة من الأعلى إلى الأسفل. لذا الآن لدينا صراع بين طرفين. أعتقد أن الجمهوريين في وضع مهيمن وسنشهد تغييرات كبيرة. ولكن هذا ليس مقتصراً على الولايات المتحدة فقط. ما نراه في فرنسا، ألمانيا، اليابان، كوريا الشمالية والجنوبية، ما نراه حول العالم هو الصراع نفسه: الأغنياء والفقراء، أصحاب المليارات، الميسورون والمحرومون، والأيديولوجيات المختلفة بين الرأسمالية والاشتراكية أو الشيوعية. نحن في بيئة أشبه بحالة حرب. 

نور عماشة: هناك الكثير من الانتقادات الموجهة لإدارة ترمب حتى قبل أن تبدأ عملها. هل تشعر بالقلق حيال الأمر؟

راي داليو: أعتقد أننا في وقت سيلتزم فيه الديمقراطيون إلى حد كبير بالقواعد، ولكن لنرى كيف ستسير الأمور، ولكنهم سيعملون إلى حد كبير ضمن القواعد، وهذه القواعد مُصممة في الغالب لصالح الجمهوريين. لذا لا أعتقد أن بحوزتهم أية أوراق قوية. 

مشكلات أوروبا

نور عماشة: حسناً، دعنا ننتقل الآن إلى أوروبا. هناك العديد من التحديات الاقتصادية والسياسية، ضغوط الهجرة، والاستقطاب السياسي المتزايد، كيف يؤثر ذلك على قدرة أوروبا على الازدهار، خاصة وأنها تحت ضغوط اقتصادية ومالية كبيرة؟ 

راي داليو: أعتقد مرة أخرى أن على الأوروبيين أن يتأملوا الفترة الأكثر تشابهاً في الماضي، وهي فترة 1930 إلى 1945، بمعنى آخر، عندما تكون هناك مشكلات اقتصادية واستقطاب كبير بين اليسار واليمين.

نرى هذا يتصاعد الآن عندما تصبح القضايا الدفاعية وقضايا التنسيق جزءاً من المشهد. لذا، لديك مشكلات اقتصادية، انخفاض تنافسية أوروبا في أسواق المال والإنتاج والصناعات. هناك معاناة اقتصادية من ذلك، في الوقت نفسه هناك مشكلة ديون، وفي الوقت نفسه حاجة للنمو. وبالتالي هذه المشكلات المتعلقة بالتنافسية والكلفة العسكرية والتفكك الذي يحدث حول هذه القضايا، كيف يجب التعامل معها، يشبه إلى حد كبير تلك الفترة من 1930 إلى 1945، فترة الصراع الداخلي الكبير، لذلك أعتقد أن الوضع مرشح لأن يزداد سوءاً وليس للتحسن. 

نور عماشة: نأمل ألا تتكرر فترة 1930 إلى 1945 بما حملته من حروب.  

راي داليو: التاريخ يتناغم، ولكنه لا يعيد نفسه تماماً، ولكن الظروف الحالية ليست ظروفاً للازدهار أو الانسجام. 

نهضة في السعودية والإمارات

نور عماشة: بالحديث عن الصراعات في الشرق الأوسط، لدينا تطورات كثيرة مع الحرب المستمرة في غزة، وحرب انتهت للتو في لبنان، وما يمكن وصفه بأنه استقرار هش هناك، تغيير النظام في سوريا بين ليلة وضحاها، ومع ذلك لدينا اقتصادات خليجية مرنة. إلى أي مدى تعتقد أن القوى الخمس تؤثر على استقرار المنطقة ومستقبلها الاقتصادي في الوقت الحالي؟ 

راي داليو: في أي منطقة، لا يمكنك إجراء تحليل نمطي. في أوروبا، على سبيل المثال، سويسرا مختلفة جداً عن اليونان. وهذا ينطبق على هذه المنطقة أيضاً، صحيح؟ نرى نهضة، تطوراً جميلاً في أبوظبي والإمارات العربية المتحدة، ونرى ذلك في السعودية وفي دول الخليج، حيث الوضع على النقيض تماماً من الظروف التي أتحدث عنها. 

هنا يوجد انسجام، مدنية، إنتاجية، وحيوية يمكن أن تشعر بها. لهذا السبب يأتي الناس من جميع أنحاء العالم إلى هنا ليس فقط للاستفادة من الثروات الموجودة، ولكن أيضاً من البيئة الثرية نفسها. لهذا السبب يرغبون في الانتقال للعيش هنا، لدي ابن وزوجته يعيشان هنا والمدرسة التي يدرس فيها أحفادي رائعة.

كل هذا يتعلق بالأساسيات. ما هي الأساسيات؟ هل تربي أطفالك جيداً؟ هل يكتسبون قدرات جيدة بل أيضاً حس مدني جيد؟ هل تأتي إلى بلد يسوده التمدن ويعمل الناس فيه معاً بشكل جيد ويوجد فيه حيوية لتحقيق أشياء عظيمة؟ ترى هذا في هذه الأماكن الآن، ولذلك فإن التباين كبير جداً مقارنة ببعض الأماكن الأخرى. نيويورك ليست كما كانت، شيكاغو، لوس أنجلوس، لندن ليست كما كانت. لذا ترى هذا التغير. 

على مر التاريخ، عندما تكون هناك فترة من الصراعات الكبرى، مثل الحروب، في نهايتها تكون هناك دول فائزة، ودول خاسرة، ودول محايدة. الدول الفائزة تخسر، الدول الخاسرة وضعها سيئ للغاية، والدول المحايدة تستفيد طوال هذه الفترة. لذا هناك عناصر تبرز كعامل جذب وتجذب الناس وتجذب الشركات لإتمام صفقات جيدة معاً. 

الصين والنظام العالمي الجديد

نور عماشة: لنتحدث الآن عن القوة الصاعدة. لقد أصبحت الصين قوة عالمية خلال السنوات العشرين الماضية. ماذا يعني هذا للنظام العالمي الجديد؟

راي داليو: الصين وحلفاؤها المرتبطون بها سيشكلون دائماً قوى قوية جداً. إذا نظرنا إلى العديد من القضايا مثل التكنولوجيا وغيرها، فإن المنافس الوحيد هو الصين أمام الولايات المتحدة. لذا هناك صراع قوة كبير بين الولايات المتحدة والصين. ولدى الصين أيضاً مشكلات وخيمة جداً، تشمل مشكلة ديونها، والمشكلات الداخلية لديها، وقضايا الحرب الجيوسياسية. بالنسبة للصين، ستكون الصادرات إلى الولايات المتحدة أو إلى أوروبا مُهددة أكثر، ولكن التحول سيكون باتجاه العالم الثالث حيث يعيش 85% من سكان العالم. ثم ما هي المجالات التي ستكون تنافسية فيها؟ سيبرز ذلك أكثر في مجال التصنيع المتقدم. لذا سنرى تحولاً في هذه اللعبة. وبالطبع، كلا البلدين يعترفان بأنه مهدد من قبل الآخر، مما يخلق هذا التوتر الجيوسياسي، على أمل، وهذا ما أعتقده، أنّ الوضع لن يتجاوز حد التحول إلى صراع كبير، ولكنه وضع محفوف بالمخاطر. لذا لدينا هذه الحرب الجيوسياسية، وبغض النظر عن أي منطقة، فالمنافسة قائمة. كم المال الذي تجلبه؟ كم الفائدة التي تقدمها؟ ما هي تكاليف المنتجات التي لديك ومدى تنافسيتها؟ هذه هي طبيعة هذا الديناميكية.

نور عماشة: مع الوضع الحالي وزيادة زخم دول "بريكس" على الساحة الاقتصادية العالمية كقوة اقتصادية، هل يمكن أن يمثل هذا نقطة تحول نحو نظام عالمي أكثر تعددية؟ 

راي داليو: نحن بالفعل في نظام عالمي أكثر تعددية. بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1945، كان العالم خاضعاً للهيمنة الأميركية. الاتحاد السوفييتي لم يكن لديه قوة اقتصادية كبيرة. والآن نرى أن هذا النظام يتفتت. في ما يتعلق بدول "بريكس" وصعود العملات، من المهم التمييز بين العملة كوسيلة للتبادل وكوسيلة لتخزين الثروة. كوسيلة للتبادل، أعتقد أننا سنشهد حركة أكبر في هذا الاتجاه، ولكن كوسيلة لتخزين الثروة، لا أعتقد أن هذه الدول ستجد طريقة لتقديم ذلك كوسيلة لتخزين الثروة. السؤال الكبير هو: ما هو "المال كوسيلة لتخزين الثروة"؟ هذا هو السؤال الأساسي لجميع الأصول، وكم ستكون أسعار الفائدة، هو أيضاً سؤال أساسي لجميع الأصول. 

نور عماشة: إذاً، فكرة العملة المشتركة من حيث المبدأ ليست ممكنة مع وجود بنوك مركزية مختلفة في تلك المناطق، ولكن هل تعتقد أن مفهوم العملة المشتركة للتجارة ممكن؟ 

راي داليو: نعم، لأغراض التداول التجاري. لا يوجد سبب وجيه يمنع البلدان التي تتاجر مع بعضها البعض من أن تقوّم معظم تلك التجارة بعملة مشتركة، ولكن هل سيتم تقديمها كوسيلة لتخزين الثروة أو كأداة دين أو شيء مشابه؟ أعتقد أننا بعيدون جداً عن ذلك، ليس هناك الكثير من الثقة في تلك العملات أيضاً. 

الصراع حول الذكاء الاصطناعي

نور عماشة: حسناً، لننتقل إلى واحدة من القوى الرئيسية التي تتحدث عنها، وهي التكنولوجيا. مع توسع قدرات الذكاء الاصطناعي، كيف ترى هذا التطور التكنولوجي؟

راي داليو: حسناً، هناك تصميم التكنولوجيا، ثم إنتاجها، ثم تجارتها. في الاقتصاد العالمي، مصممو التكنولوجيا العظماء، كما أشرت، هم الأميركيون بشكل خاص، على الرغم من أن الكثير في هذا المجال يتم تصميمه أيضاً في الصين دون غيرها من الأماكن. في ما يتعلق بالإنتاج، كما ذكرت، فإن عملية الإنتاج معقدة جداً، خصوصاً في الولايات المتحدة أو أماكن أخرى. مما سيشكل قضية جيوسياسية كبيرة. ثم هناك استخدام التكنولوجيا وتجارتها. كل هذا آتٍ. أعتقد أننا الآن في عملية إنشاء نظامين مستقلين بسبب الحاجة إلى الأمن وما إلى ذلك.  

ولكنني أعتقد أن هذه التكنولوجيا ستُحدث التأثير الأكبر مقارنةً بأي تكنولوجيا أخرى على الإطلاق لأنها قائمة على أنماط التفكير. بمعنى آخر، إذا نظرنا إلى الثورة الصناعية والمحرك البخاري والعديد من الأمور التي تغيرت، مثل الانتقال من القوة اليدوية إلى قوة الآلات إلخ.. فكل هذه التغييرات كانت هائلة. لكن هذا أكبر من أي من تلك التغييرات. ولهذا تأثير ليس فقط من حيث الإنتاجية المحتملة، بل له أيضاً تأثير هائل على السلام والحرب. إذ يمكن استخدام هذه التكنولوجيا للحرب كما يمكن استخدامها للسلام، ولها تأثير هائل على التوظيف لأنها ستُستخدم لاستبدال الناس كما ستخلق أيضاً ثروة هائلة لبعض الأشخاص. 

نور عماشة: هذا يقودنا إلى الجانب الأخلاقي للذكاء الاصطناعي. هل تعتقد أنه سيكون قوة بناءة أو مدمرة للنظام العالمي؟ 

راي داليو: كل هذا يعتمد على كيفية تعامل الناس مع بعضهم البعض. هذا جوهر الطبيعة البشرية، أليس كذلك؟ بمعنى آخر، يمكننا استخدام هذه التكنولوجيا للحرب، ويمكننا استخدامها لأنواع عديدة من الحرب، ويمكننا استخدامها لتحقيق تقدم كبير. عندما تظهر شركات ناشئة بإنجازات كبيرة، وفي الوقت نفسه، يتم استبدال العديد من الناس في بعض المجالات، فهل سيتم التعامل مع ذلك بحكمة؟ أم كيف سيتم التعامل مع الأمر؟

نور عماشة: أعود إلى الجزء المتعلق بالإنتاج، هل تعتقد أن النزاعات قد تنشأ عندما يتعلق الأمر بقدرة الصين على الوصول إلى أحدث التقنيات؟

راي داليو: في ما يتعلق بالرقائق الأكثر تقدماً وقوة، هم متأخرون في هذا المجال. ولكن في ما يتعلق بمعظم الرقائق ذات التكلفة الميسورة، فهم متقدمون فيها. لذا أعتقد أننا سنرى هذه الرقائق المدمجة في الكثير من المنتجات المصنعة، المنتجات عالية الجودة، وستكون الرقائق فعالة جداً. ولكن لا يمكن أن تتخلف عن الرقائق الأكثر تقدماً لأنها مهمة جداً، ليس فقط في التجارة ولكن أيضاً في الحرب. ولهذا السبب قد لا يكون الربح هو الاعتبار الأكثر أهمية. كما تعلمون، الشركات الكبرى تقوم بذلك والجميع يفترض أن هذا سيكون مربحاً جداً لها لأن هذه تقنيات مذهلة. لكنني رأيت عبر التاريخ أنه عندما يكون هناك شيء أكثر أهمية من مجرد الربح، مثل ما نراه في العديد من التقنيات المتعلقة بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وتكنولوجيا البطاريات وما إلى ذلك، قد تكون الحاجة لهذا الشيء هائلة جداً لدرجة أنه قد لا يكون مربحاً أو يكون أقل ربحية.

أعتقد أننا سنرى استخدامات رائعة لهذه التقنيات. وليس من الضروري أن تكون الرقائق الأكثر تقدماً. ولكن السؤال الحقيقي هو: هل يستخدمها الطرف المعني؟ هل يغير نموذج عمله بشكل جذري بناء عليها؟ أولئك الذين يغيرون أعمالهم بشكل جذري لتحسين الربحية، أعتقد أنهم يمتلكون إمكانيات مالية كبيرة.

طموح السعودية والإمارات

نور عماشة: بالحديث عن هذه الاستثمارات واستخدام الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، تخصص دول مجلس التعاون الخليجي استثمارات كبيرة في هذا المجال. رأينا السعودية تطلق مبادرة بقيمة 100 مليار دولار، فضلاً عن إطلاق مجلس الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة في أبوظبي مع صندوق طموح بقيمة 100 مليار دولار. هل سيكون هذا كافياً لجعل البلدين قادة في هذا المجال التحولي؟ 

راي داليو: نعم، إنهما بالفعل كذلك في هذا المجال الآن. وأعتقد أن هذا ذكي للغاية. إنه ذكي من بُعدين. الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يقود إلى اكتساب فهم عميق. وهذا يعني القدرة على استخدامه بشكل فعال. لذا يكون التأثير مزدوجاً: أن تكون مُستخدماً فعالاً للذكاء الاصطناعي يجعلك منافساً عالمياً، وأيضاً مستثمراً فعالاً. أعتقد أن هذا ذكي جداً جداً. بالإضافة إلى ذلك، تصبح هذه الأماكن مراكز جذب للأشخاص من أمثالي وللمستثمرين من جميع أنحاء العالم، هذا مكان مثير للاهتمام بسبب ما يتم إنجازه في هذا المجال. 

مؤشر القوى العظمى

نور عماشة: لنتحدث عن مؤشر القوى العظمى الذي أنشأته لتوقع النمو وقمت بتحديد مقاييس لتقييم صحة الاقتصادات والدول وما يؤدي إلى نجاح هذه الدول أو فشلها. نرى دول المنطقة قامت بتغييرات هيكلية صارمة لتنويع اقتصاداتها بعيداً عن الاعتماد على النفط. هل تعتبر أن ما تم القيام به حتى الآن كافٍ وأن الدول أصبحت مستعدة للصعود على هذا المؤشر؟ 

راي داليو: نعم، مؤشر القوى العظمى هو ببساطة مؤشر يقيس مدى صحة الجهة المعنية، بناء على أبعاد مختلفة: النفقات الرأسمالية، تعليم السكان، مقاييس مختلفة لإظهار مدى صحتها، ومن ثم يقوم بربط ذلك بمعدل النمو المتوقع خلال السنوات العشر القادمة، لذا فهو مؤشر جيد للتنبؤ بهذا النمو. وما نراه هنا هو تحول هائل يظهر في هذا المؤشر. على سبيل المثال، تمتاز الإمارات بثاني أسرع معدل نمو متوقع بعد الهند من حيث حجم النمو المتوقع على مدى السنوات العشر القادمة، بسبب تكوين رأس المال، والانفتاح على هذا التفكير الجديد، ومعدلات التغيير، والوضع المالي للبلاد، بمعنى أنها مستقرة مالياً. التعليم الجيد، البيئة المناسبة للأعمال، هذه هي الأمور التي تساهم في ذلك، وأيضاً الحياد في عالم مليء بالصراعات، هذه جميعها نقاط إيجابية كبيرة للمنطقة. 

دروس ونصائح

نور عماشة: هناك اليوم وصول غير محدود إلى المعرفة والتكنولوجيا والعلم، ولكن هناك منافسة هائلة. ما هي الوصفة الأسهل للنمو اليوم مقارنة بالماضي؟ وما هي الدروس التي تعلمتها على مدى تلك الخمسين عاماً؟ وما هي النصائح التي تقدمها للمستثمرين الشباب؟

راي داليو: في بعض الجوانب، الأمور لم تتغير، وفي بعض الجوانب الأخرى، قد تغيرت. وأريد أن أقدم النصيحة. بدأت الاستثمار ولم أكن أعرف ما أفعل، ولكني بدأت عندما كنت في الثانية عشرة من عمري. كنت أقرأ مجلة "فورتشن" وأتحقق من الشركات المدرجة في قائمة "فورتشن 500"، وأطلب التقارير السنوية، وأجري أبحاثي، وألعب اللعبة. لذا، بالنسبة لأي مستثمر، الشيء الذي يجب القيام به هو الدخول في اللعبة، جمع المعلومات، والمشاركة فيها. اليوم، الحصول على المعلومات أصبح أسهل بكثير. 

الشيء الذي قمت به وكان لا يُقدر بثمن بالنسبة لي، وأشجع الجميع على القيام به، بما في ذلك المستثمرين المؤسسيين، هو كتابة المعايير التي يعتمدون عليها في اتخاذ القرارات. بمعنى آخر، عندما أعتقد أنني أريد اتخاذ قرار ما، بدلاً من اتخاذ القرار بدون أي مرجع تاريخي، أكتب ذلك، ثم أرى كيف كان ليؤدي على مر التاريخ. فيصبح لديك سجل أداء. أنت تنفذ خطة لعبة. لذا، في كل مرة، سواء في الحياة أو العمل، أكتب المعايير التي أستخدمها وأحدد المبادئ الخاصة بي. بمجرد القيام بذلك، يمكنك اليوم أتمتته. يمكنك تصميم آلة تعمل معك. إذا كنت لاعب شطرنج، يمكنك تصميم آلة شطرنج تلعب معك. تقوم بتحريك قطعة، والآلة تقوم بتحريك قطعة، وهكذا ترى كيف تعمل. هذا ما يمكنك القيام به اليوم. 

أصبحت الآن في مرحلة من حياتي، حيث عمري 75 عاماً، وهدفي الأول هو أن أنقل أي شيء لدي يمكن أن يكون ذا قيمة، هذا هو هدفي. وفي ما يتعلق بمحاولة التعليم، أقوم بتدريس دورة وقد أنشأت ما أسميه "راي الرقمي" الذي يحتوي على جميع هذه المعايير، ويمكن لأي شخص الآن الدخول إليه عبر الإنترنت، ونحن في مرحلة الاختبار التجريبي، للتفاعل معه. 

كيف أحصل على أفضل المعلومات؟ كيف أتعلم؟ كيف أتواصل بالشكل الصحيح؟ كل هذه أسئلة يساعدك فيها "راي الرقمي"، وقد أطلقت دورات تعليمية أيضاً. القدرة على التعلم والحصول على شريك تفكير في تنفيذ استراتيجياتك، شريك تفكير تجده ذا قيمة كبيرة لأنك تعمل معه، هذه الإمكانية موجودة اليوم، وهنا تكمن القوة. 

نحن ننتقل الآن، بالنسبة لجميع المستثمرين المؤسسيين، حتى الأذكى منهم، بعيداً عن حقبة كان الناس يعتقدون فيها أن "كل الأمور تدور في رأسهم"، وأنهم من أروع صُناع القرار، وأنهم يتخذون كل القرارات في ذهنهم. فهذا قد عفا عنه الماضي. نحن ننتقل الآن إلى بيئة جديدة حيث لم يعد بإمكانك أن تضع كل شيء في رأسك فقط، ولكن عليك أن تضعه في النظام الذي يعمل بتلك الطريقة. لذا، يمكنك أخذ أفكارك، ودراستها في الماضي، ووضع خطة اللعبة، ويمكن أن يكون كل شيء منطقياً بالنسبة لك، ويمكنك إدخالها إلى الكمبيوتر، ويمكنك تشغيلها بالتوازي مع نفسك. هذه هي النقطة التي وصلنا إليها الآن، وهذا هو المكان الذي نتجه إليه. 

نور عماشة: مع كل ذلك، هل أصبح اتخاذ القرارات والاستثمار الآن أسهل مقارنةً بما كان عليه قبل 50 عاماً؟ 

راي داليو: أعتقد أن اللعبة تتطور دائماً، هل أصبح من الأسهل التنافس في الألعاب الأولمبية الآن؟ حسناً، لا. ولكن كل اللاعبين أصبحوا أفضل. جميع اللاعبين سيصبحون أفضل، إنها لعبة ذات محصلة صفرية. لذا عليك أن تكون أفضل لاعب في تلك اللعبة، والطريقة التي تلعب بها تختلف، عليك استخدام أفضل التقنيات.

تصنيفات

قصص قد تهمك