في الجنة الاستوائية سانت كيتس ونيفيس، لا يعتمد الاقتصاد بالدرجة الأولى على الدعم الذي يوفره زوار الشواطئ الذهبية والنقية، بل على أولئك الذين يشترون جوازات السفر الزرقاء الداكنة.
يمكن للأجانب الحصول على الجنسية في بعض دول الكاريبي التي تقدم إعفاءات ضريبية وإمكانية السفر من دون تأشيرة إلى أوروبا، مقابل ما يقل عن 100 ألف دولار. وفي جزيرة سانت كيتس، كان يُنتظر أن يدر برنامج "جواز السفر الذهبي" نحو 192 مليون دولار، أو 51% من إيرادات البلاد، في عام 2023.
لهذا السبب يحث رئيس الوزراء تيرانس درو سكان البلاد على دعم هذا القطاع الرائد، الذي يتعرض للخطر إذا ما قرر الاتحاد الأوروبي تشديد قواعد السفر بالنسبة إلى البلدان التي تبيع جنسيتها.
في خطاب الميزانية السنوية الذي ألقاه الشهر الماضي، قال درو: "إن ازدهار اقتصادنا الوطني يعتمد بالدرجة الأولى على قوة برنامجنا للحصول على جنسية عن طريق الاستثمار، ويجب حماية هذا البرنامج مهما كان الثمن".
من بلدة صيد هادئة إلى وجهة صاخبة للأثرياء.. طفرة سياحية بعد كورونا "تهدد" الساحل المكسيكي
وتدر برامج الحصول على الجنسية عن طريق الاستثمار (citizenship-by-investment) أو ما يُعرف اختصاراً بـ(CBI)، ما يتجاوز 579 مليون دولار سنوياً في سانت كيتس وأربع دول كاريبية أخرى، هي الدومينيكان وسانت لوسيا وغرينادا وأنتيغوا وبربودا.
في سانت لوسيا وأنتيغوا، تصل تكلفة جواز السفر إلى 100 ألف دولار، بينما تُعتبر وثيقة سفر سانت كيتس هي الأعلى سعراً، حيث يبلغ سعرها 250 ألف دولار.
عمليات احتيال
ذكر الاتحاد الأوروبي في تقرير صدر في أكتوبر أن هذه الدول منحت الجنسية بشكل جماعي لما لا يقل عن 88 ألف شخص، نسبة كبيرة منهم من الصينيين، أو الروس أو النيجيريين أو من جنسيات أخرى يُطلب منها عادةً التقدم بطلب للحصول على تصاريح سفر.
تدفع هذه الخطوة الاتحاد الأوروبي إلى دراسة إجراء تعديلات من شأنها أن تسهل تضييق الخناق على السفر من الدول التي لديها برامج الحصول على جنسية عن طريق الاستثمار. ورد في تقرير صدر مؤخراً عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن هذه البرامج قد تكون وسيلة تسمح للمجرمين "بارتكاب عمليات احتيال ضخمة وغسل أموال وفساد تصل إلى مليارات الدولارات".
جوازات السفر الذهبية والمواطنة والهوية في زمن الحرب
إذا نفذ الاتحاد الأوروبي تهديده، "فسيكون ذلك بمثابة تغيير فوري لقواعد اللعبة"، كما قال رافائيل سينترون، الذي تقدم شركته "ويلثي إكسبات" (Wealthy Expat) المشورة للراغبين في الحصول على جوازات سفر ثانية.
برامج منح الجنسية مقابل الاستثمار
في الدومينيكان، تمثل برامج الحصول على جنسية عن طريق الاستثمار 55% من إجمالي الإيرادات الحكومية، وقد استُخدمت الأموال لبناء المطار الدولي وتجريف الأنهار. أما في غرينادا، فقد استُخدمت هذه الأموال لبناء السجون ودعم برامج الرعاية الاجتماعية. وبالنسبة إلى الدول الخمس ذات الاقتصادات الصغيرة والتي تعتمد على السياحة مع القليل من الموارد الطبيعية، فإن مثل هذه البرامج تُعد شريان الحياة الاقتصادي.
قال سينترون الذي تخلى عن الجنسية الأميركية بعد حصوله على جوازات سفر من سانت كيتس وصربيا والمكسيك: "من شأن ذلك أن يعرقل الصناعة الكاريبية إلى حد كبير". وأضاف: "في الحقيقة، لا أحد يريد جواز سفر يتيح الدخول إلى أميركا اللاتينية وعدد قليل من الدول الأفريقية فقط".
الإمارات تجري تغييرات جذرية على قواعد الإقامة والجنسية لجذب الوافدين
أصبحت سانت كيتس أول دولة تقدم الجنسية عن طريق الاستثمار في عام 1984، بعد أن حصلت على استقلالها عن إنجلترا في العام السابق له. وبالنسبة إلى هذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها 48 ألف نسمة، كان يُنظر إلى بيع الجنسية والترويج للسياحة على أنها وسيلة لتقليل اعتمادها على تجارة السكر.
في هذا الإطار، قال ماكلود إيمانويل، الرئيس التنفيذي لبرنامج الحصول على الجنسية عن طريق الاستثمار في سانت لوسيا، إن الجزر تدرك تماماً أن سهولة السفر تشكل واحدة من المزايا الرئيسية للترويج لها.
اهتمام متزايد
تجتمع الدول الخمس مع مسؤولين أوروبيين وأميركيين للتأكيد على إجراءاتها الأمنية. وقد منعت هذه الدول في مارس مواطني روسيا وبيلاروسيا من الاستفادة من هذه البرامج رداً على غزو أوكرانيا. ومع ذلك، ألغت المملكة المتحدة في يوليو السفر بدون تأشيرة من الدومينيكان وعدد من الدول الأخرى، وعزت ذلك إلى مخاوف أمنية.
قال إيمانويل: "كلما وصلنا طلب للحصول على الجنسية عن طريق الاستثمار، يتعين علينا مراجعته بشكل دقيق". وأضاف: "نحن نعلم أن هفوة واحدة في العناية الواجبة علينا، وخطأ واحداً في بحثنا، قد يلحق ضرراً بسمعتنا لا يمكن إصلاحه".
إذا بدت معدلات الرفض منخفضة، كما حذّر الاتحاد الأوروبي، فيعود السبب إلى اضطرار المتقدمين للحصول على الجنسية، إلى اجتياز مراحل عديدة، والتي ينسحب منها الكثيرون قبل إتمام العملية.
حرب روسيا تضع جوازات السفر الذهبية في أوروبا تحت المجهر
إذا كان للغبار الذي يُثار حول برامج الحصول على الجنسية عن طريق الاستثمار جانب إيجابي، فقد يكون متمثلاً في القلق الأميركي.
على الرغم من أنه يتعين على المواطنين الأميركيين سداد الضرائب الفيدرالية بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه -وهم يتمتعون بالفعل بإمكانية السفر بدون تأشيرة إلى أوروبا- فإن اهتمامهم ببرامج جوازات السفر ازداد خلال فترة الوباء واستمر هذا الاهتمام الكبير بشكل ملحوظ وسط حالة عدم اليقين العالمية، وفقاً لما قاله مسؤولون وسماسرة الجوازات.
"يبدو أن الشعور بعدم الراحة هو ما يقود الطلب على الجوازات"، بحسب كاتي أنانينا، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لشركة "بلان بي باسبورت" (Plan B Passport) ومقرها في تكساس، والتي أشارت إلى أن معظم عملائها الأميركيين لديهم "عقلية التأهب لوقوع كارثة".
قالت أنانينا، المعروفة باسم "كاتي ذا راشان" (Katie the Russian) على وسائل التواصل الاجتماعي: "تصاحب الانتخابات الأميركية دائماً زيادة الاهتمام ببرامج الحصول على الجنسية مقابل الاستثمار". وأضافت: "يتوقع الكثيرون اضطرابات أهلية بغض النظر عن الطرف الفائز، لذلك يريدون تحوطاً، بوليصة تأمين، تسمح لهم بالذهاب إلى منطقة البحر الكاريبي الدافئة والاستمتاع بوقتهم هناك بدلاً من ذلك".
مخاوف الاتحاد الأوروبي
في أنتيغوا وبربودا، وهي الدولة الكاريبية الوحيدة التي تنشر تحليلاً للطلبات حسب الجنسية، تضاعف عدد الأميركيين الذين تقدموا للحصول على الجنسية ثلاث مرات منذ عام 2019.
قال نوري كاتز، مؤسس شركة "أبيكس كابيتال بارتنرز" (Apex Capital Partners) ومقرها في مونتريال، والتي تقدم المشورة لعملائها بشأن الجنسية الثانية، إن الشركة تركّز الآن كل اهتمامها وطاقتها على العملاء من الولايات المتحدة.
وأضاف في رسالة عبر البريد الإلكتروني: "لقد شهدنا زيادة مضاعفة منذ عام 2020 عندما كان هناك عدد ضئيل فقط من طالبي الحصول على جنسية ثانية من مواطني الولايات المتحدة".
في كثير من البلدان، أدى توافد الأجانب الأثرياء إلى تفاقم التوترات الاجتماعية. وقد ألغت البرتغال مؤخراً برنامج المستثمر المقيم بسبب إلقاء اللوم على هذا البرنامج في تشويه سوق العقارات. كما تقوم دول مختلفة داخل الاتحاد الأوروبي بإلغاء أو تعديل برامج الحصول على الجنسية عن طريق الاستثمار لتصبح أشد صرامة. ناهيك عن مخاوف الاتحاد الأوروبي المعلنة بشأن الأمن.
الاتحاد الأوروبي يستهدف الإقامات الذهبية لدرء المال المشبوه
وعلى الرغم من تسبب برامج منطقة البحر الكاريبي أيضاً في بعض الانزعاج بين السكان المحليين، فإن فوائدها ربما كانت أكثر وضوحاً.
في خطابه الأخير، أعلن رئيس الوزراء "درو" أن معظم العمال في سانت كيتس ونيفيس سيحصلون على "كوبون برامج الجنسية مقابل الاستثمار" -للمرة الثالثة في السنوات الأخيرة- ويتراوح بين 95 و185 دولاراً.
يُلاحظ ذلك في جميع أنحاء البلاد، كما تقول شيري غاجور، مالكة صالون "شيريز بيوتي وورلد" (Sherry’s Beauty World) في تشارلزتاون في سانت كيتس، والتي أضافت: "عندما تعطي الناس حافزاً صغيراً مثل هذا، فقد يأتون إلى الصالون ويحصلون على الخدمة. إن الحكومة تعيد إلى الناس بعض الأموال التي تجنيها. لذلك فإن تلك سياسة جيدة".