يضم قصر رومان أبراموفيتش المطلي باللون الكريمي في منطقة حدائق كنسينغتون أكثر من اثنتي عشرة غرفة نوم، كما يطل القصر الفخم على شارع تصطف الأشجار على جانبيه وتتمركز سيارات الشرطة في بدايته ونهايته. ويجاور الملياردير الروسي أفراد العائلة المالكة البريطانية وقطب الفولاذ، لاكشمي ميتال، ومالك مجموعة "وارنر ميوزيك"، لين بلافاتنيك.
يُعدّ قصر كينسينغتون واحداً من بين الأصول العديدة التي استحوذ عليها أبراموفيتش في لندن خلال العقود الأخيرة، والتي ساعدت في جعل المدينة مركزاً لثروته. غير أن هذا الموطىء أثبت هشاشته خلال الأشهر القليلة الماضية، ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بيعت أو جمدت بعض ممتلكاته الثمينة في العاصمة الإنجليزية، والتي تراوحت بين نادي "تشيلسي" لكرة القدم إلى المنازل الفاخرة إلى حصة في مجموعة "إيفراز" للصلب ومقرها لندن.
في الشهر الماضي تلقى أبراموفيتش، الذي وقعت عليه المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات في مارس، أحدث الضربات، وذلك عندما تقدمت شركة "إم إتش سي سيرفسيز"، التي عملت كجزء من مكتب إدارة ثروة العائلة قبل الصراع، بطلب للتصفية. كانت قيمة أصوله الرئيسية في لندن قد بلغت نحو 4 مليارات جنيه إسترليني (4.8 مليار دولار) قبل الغزو، أي ما يقرب من ثلث ثروته الإجمالية في ذلك الوقت، وفقاً لـ"مؤشر بلومبرغ بليونيرز".
تسلط هذه الخطوات الضوء على مدى سرعة تبدد بعض أكبر الثروات الروسية نتيجة العقوبات المالية المفروضة عليها في جميع أنحاء العالم على خلفية غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا.
أثرياء روس بينهم أبراموفيتش يطعنون بقرار فرض عقوبات أوروبية عليهم
قال ديفيد لينغيلباخ، الذي ترأس عمليات "بنك أوف أميركا" في روسيا خلال تسعينيات القرن الماضي، والذي يدرس حالياً في "جامعة بالتيمور": "لم يعد في أفضل مستوياته. يبدو لي أنه الآن في موقف دفاعي".
كان أبراموفيتش، الذي حاول التوسط في محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا ويكافح عقوبات الاتحاد الأوروبي حالياً، من بين أشهر أثرياء النخبة الروسية الحاكمة الذين استثمروا المليارات في اقتصاد لندن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
اشترى الملياردير الروسي، البالغ من العمر 55 عاماً، نادي "تشيلسي" لكرة القدم عام 2003 مقابل 140 مليون جنيه إسترليني، كما قدم تمويلاً تخطى مليار جنيه إسترليني قبل بيعه في مايو في صفقة خضعت لتدقيق حكومة المملكة المتحدة، مع تخصيص بعض الأموال لدعم جهود الإغاثة في أوكرانيا. وافقت مجموعة الملكية الجديدة بقيادة تود بولي على دفع مبلغ 2.5 مليار جنيه إسترليني، وتعهدت بضخ 1.75 مليار جنيه إسترليني في استثمارات النادي الأخرى.
قال النائب البريطاني، كريس براينت في البرلمان قبل وقت قصير من إدراج أبراموفيتش على قائمة العقوبات البريطانية إن الأخير سعى إلى بيع عقارين في لندن. كان أحدهما قصره الكائن بمنطقة كنسينغتون والآخر عبارة عن شقة بنتهاوس في مبنى "تشيلسي ووترفرونت"، وفقاً لشخص مطلع على الأمر. لا يمكن لأبراموفيتش بيع العقارات بينما يخضع لعقوبات من قبل المملكة المتحدة، كما تظل أي أموال نقدية لديه في البلاد مجمدة في الحسابات البنكية.
وبالمثل، لا يستطيع رجل الأعمال الروسي بيع حصته في "إيفراز"، أكبر أصوله المدرجة قبل نشوب الصراع. يذكر أن أسهمه في الشركة، التي فرضت المملكة المتحدة عقوبات عليها في مايو، كانت قد تراجعت بنسبة 87% هذا العام قبل تجميدها بعد فترة وجيزة من إدراجه على قائمة الحكومة البريطانية لرجال الأعمال الروس الخاضعين للعقوبات.
إعادة بناء الإمبراطورية
قالت ليانا سيمتشاك، محللة استخبارات تكتل أوراسيا لدى شركة "سيبيللين" للاستشارات (Sibylline)، ومقرها لندن: "حتى في السيناريو المستبعد المتمثل في رفع العقوبات، سيكون من الصعب جداً على أبراموفيتش أن يجد طريقاً للعودة إلى المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. ربما يحتاج إلى إعادة بناء إمبراطوريته في مكان آخر".
بدأ أبراموفيتش الاستحواذ على استثماراته في لندن أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بعدما جمع ثروة من بيع الأصول المخصخصة التي حازها من الاتحاد السوفيتي سابقاً، بما في ذلك شركة النفط العملاقة "سبنفت".
أسس الملياردير الروسي فرع مكتب العائلة "ميلهاوس" بلندن في أواخر عام 2001 وأرسل أطفاله إلى المدرسة في إنجلترا. كما اشترى بنتهاوس في لندن وعقار في ساسكس ومنازل في منطقة بلغرافيا. زاد تواتر زيارات أبراموفيتش إلى المملكة المتحدة بعد شرائه لنادى تشيلسي في نفس العام الذي باع فيه الجزء الأكبر من أصوله في قطاع الألمنيوم لزميله أوليغ ديريباسكا.
قال كيران ماغواير، المحاضر في تمويل كرة القدم في جامعة ليفربول: "أحدث أبراموفيتش ثورة في عالم كرة القدم كونه أول مالك خارجي ينخرط في ملكية نادٍ لكرة القدم باعتباره أحد الأصول المدرة للتدفقات النقدية. لقد رسم مسار المستقبل".
تشمل أصول أبراموفيتش خارج المملكة المتحدة منازل في فرنسا وروسيا، بالإضافة إلى اليخوت الفاخرة والطائرات الخاصة، والتي تظل رهن معركة قانونية تدور رحاها الآن في الولايات المتحدة بشأن انتهاكات مزعومة للعقوبات. أيضاً كان الملياردير الروسي وراء معظم الأموال التي أدارتها شركة "كونكورد مانجمنت" بواقع 6 مليارات دولار، والتي استخدمها للاستثمار في مجموعة مؤلفة من أكثر من 100 صندوق تحوط وشركة أسهم خاصة، يكافحون جميعهم من أجل التخلص من رأس ماله.
الولايات المتحدة تتخذ إجراءات لاحتجاز طائرتين تابعتين لـ أبراموفيتش
مياه أكثر أماناً
نقل أبراموفيتش اثنين من يخوته إلى المياه التركية بعد الغزو لتجنب احتمال مصادرة أصوله في أوروبا. وقال أشخاص مطلعون إنه كان يبحث عن منزل هذا العام في جزيرة نخلة جميرا الحصرية بدبي، فيما استقرت طائرته الخاصة في دبي أو موسكو منذ مارس.
بحث الملياردير أبراموفيتش عن منزل في دبي يُظهر اتساع الشتات الروسي
التقى أبراموفيتش مع بوتين في وقت مبكر من الحرب، وحصل على موافقة الرئيس لمتابعة محادثات السلام، كما قال شخصان على دراية بالموقف. قيل إن أبراموفيتش كان متفائلاً في البداية بشأن احتمالات التوصل إلى اتفاق، على الرغم من الاشتباه في تعرضه لمحاولة قتل بالسم بعد مفاوضات أجريت في كييف أوائل مارس.
توقفت المحادثات لاحقاً، على الرغم من التقدم الذي أحرزته الدولتان على الصعيد الدبلوماسي، حيث توصلتا إلى اتفاق الشهر الماضي للمساعدة في دعم الإمدادات الغذائية العالمية.
قالت سيمتشاك: "أظهر الدور الذي اضطلع به أبراموفيتش في محادثات السلام مقدار ما كان عليه أن يخسره في المملكة المتحدة وأوروبا بسبب استثماراته. لكنه كان دور محفوف بالمخاطر في الوقت ذاته، حيث أكد على وجود صلات وثيقة تربطه ببوتين لأنه كان أحد الأفراد الموثوق بهم للمشاركة في المحادثات".
الملياردير "أبراموفيتش" يزور كييف سعياً لاستئناف المحادثات مع أوكرانيا
من ناحية أخرى، عظم أبراموفيتش استثماراته على مدار العقد الماضي في شركات أصغر مدرجة في لندن، بما في ذلك شركتا "فيلوسيز" و"إيه إف سي إنرجي" المختصتان بتطوير تقنيات إنتاج الوقود النظيف.
مواطن عالمي
بدأ الملياردير الروسي في تصفية بعض هذه الرهانات بعدما واجه تأخيرات في تجديد تأشيرته البريطانية في عام 2018. حصل أبراموفيتش على الجنسية الإسرائيلية في ذلك العام، وأوقف خطط إنشاء ملعب جديد لـ"تشيلسي". في عام 2021، أصبح مواطناً برتغالياً بموجب قانون يمنح الجنسية لأحفاد اليهود السفارديم الذين طردوا من شبه الجزيرة الأيبيرية، لكن البرتغال فتحت تحقيقاً في القرار.
بالعودة إلى لندن، بات ظهوره في مباريات "تشيلسي" أقل تواتراً، حيث لم يكن لدى النادي أي سجل باستخدام أبراموفيتش لمقصورات ضيافة الشركات خلال الفترة بين عامي 2018 و2021.
قال ماغواير: "أعتقد أنه فكر في البداية بأن امتلاك النادي سيكون أمراً ممتعاً نوعاً ما. لقد لوحظ كيف تغيرت علاقته بالنادي خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية".
اشترى أبراموفيتش قصره الواقع بالقرب من المقر الرسمي لدوق ودوقة كامبريدج في حدائق كينسينغتون سكوير مقابل 90 مليون جنيه إسترليني تقريباً في عام 2009. منذ ذلك الحين، أجرى الملياردير الروسي تجديدات واسعة النطاق على ما كان سابقاً سفارة سوفيتية، بما في ذلك ملء حمام السباحة تحت الأرض بغية خلق مساحة أكبر للموظفين.
في ظهيرة أحد أيام الأسبوع الفائت، دلت علامات قليلة على وجود نشاط في المنزل خلا البستاني الذي يرتدي ثياباً خضراء ويسقي الزهور بالقرب من المدخل. لم تكن هناك سيارات متوقفة على طول الممر الحجري الواسع. وعلى عكس العقارات المجاورة، كانت جميع ستائر القصر الثابتة والمتحركة مغلقة كلياً.
قالت سيمتشاك من شركة "سيبيللين": "كانت العقوبات تهدف إلى إثارة السخط بين القلة الحاكمة مثل أبراموفيتش وجعلهم يضغطون على بوتين. لكن مع إغلاق لندن أمامه "أصبح الآن أكثر اعتماداً على بوتين لأن العقوبات تعيد توجيهه إلى روسيا".