قال لي فلاديمير بوتانين، أحد أفراد النخبة الروسية المتنفذة، في مقابلة منذ أكثر من عقدين في موسكو إن أمثاله أصبحوا من منسيات الماضي. كان قد أثرى من نشاط مصرفي فاشل ومن الصناعة والتعدين التي أتاحتها علاقاته مع الكرملين. حينها كانت الفوضى تعم اقتصاد روسيا، وكان كثيرون يعتبرون تلك النخبة على أنهم لصوص.
قال: "كل شيء سيتغير... وسيكون دور نخبة المتنفذين أصغر".
كان مخطئاً في شطر نبوءته الأول ومحقاً جداً في الثاني. أعني أن بعض الأشياء لم تتغير، حيث استمر عديد من أفراد تلك النخبة النافذة بجني الثروات في العقود التي تلت اجتماعي مع بوتانين في 1998.
لكن أفرادها اليوم أقل أهمية بكثير في بواطن أمور روسيا فلاديمير بوتين. هذه الحقيقة هي مفتاح فهم تأثير العقوبات ضدهم، لأن معظم أفراد تلك النخبة، ربما مع استثناء واحد ملحوظ، غير مهمين بالقدر الذي يظنه مؤيدو مصادرة اليخوت.
إن تقويض النظام المصرفي في روسيا وتجميد احتياطيات البنك المركزي وقطع طرق التجارة وربما مقاطعة صادراتها من الطاقة وما إلى ذلك من الإجراءات ستلحق ضرراً مالياً حقيقياً بالبلاد بسبب غزوها لأوكرانيا. أما حرمان أفراد النخبة المتنفذة مِن يخوتهم، فهو عمل شكلي غير فعال.
هناك قيمة رمزية في الاستيلاء على مقتنيات المباهاة من أفراد النخبة الروسية المتنفذة، كما أن ذلك أبرز أهمية تشديد قواعد غسيل الأموال. لكن مصادرة ممتلكات المغتربين الأثرياء أو أساطير الثراء ما يزال سلاحاً مالياً ضعيفاً ضد بلد يتحكم فيه رجل واحد وهو بوتين، بحظوظ أفراد تلك النخبة.
سيد جديد
راكم بوتانين المليارات على مر السنين مع استمراره في تعدين النيكل وأصبح أحد الأمناء البارزين لدى مؤسسة "سولومون آر غوغنهايم" (Solomon R. Guggenheim). كما استمر شركاؤه، ميخائيل بروخوروف وأوليغ ديريباسكا، بجمع الثروة، فذهب بروخوروف لشراء نادي كرة السلة "بروكلين نتس" (Brooklyn Nets)، وتمكن ديريباسكا من تجنب التحقيقات القانونية فيما كان وسيطاً بين الحكومة الروسية وصناع الصفقات الغربيين مثل بول مانافورت.
أعطى صعود بوتين في مطلع القرن تلك النخبة سيداً يمقت من استقلاليتهم وتذمرهم. كان مصير بعضهم النفي وآخرون السجن وبقى التزم بقواعد بوتين، مثل بوتانين، تحت السيطرة. لم يعد أي منهم سمسار نفوذ كما كانوا في التسعينات.
كان هناك كثير من التكهنات غير الموثوقة حول ثروة بوتين، وتخمينات حول إمكانية نسف موارده المالية الشخصية عبر تجميد حسابات منسوبيه ظناً بأنهم يحتفظون له بأمواله خارج روسيا. لكن لا يحتاج بوتين لإخفاء الأموال في الخارج، حيث يستطيع سحب المال من الخزائن الحكومية وتلك الخاصة في روسيا حينما يحتاج للمال.
يعتبر تأثير ونشاط شخص واحد من تلك النخبة أهم من سواه وهو إيغور سيتشين.
يشغل سيتشين منصبي رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي في شركة "روسنفت" (Rosneft)، أكبر شركة إنتاج نفط في روسيا. يمكن الجزم بإنه لم يحصل على وظيفته بسبب خبرته في إدارة شركات الطاقة. كان سيتشين، كحال بوتين، عميل مخابرات سابق. لقد أعطى الرئيس ببساطة "روسنفت" إلى سيتشين في 2004، ثم ضخّم بوتين "روسنفت" عبر إزاحة أحد أفراد النخبة المتنفذة السابقين وهو ميخائيل خودوركوفسكي وضم أصول شركته "يوكوس أويل" (Yukos Oil) إلى "روسنفت" قبل أن يزج به في السجن.
يده اليمنى
اكتسب سيتشين إخلاص بوتين، جزئياً، عبر عمله كمساعد سياسي أساسي في سانت بطرسبرغ وموسكو في مطلع حياتهما المهنية، كما أنه أهم أعضاء "سيلوفيكي" (siloviki) التي تتشكل من عملاء الأمن السابقين الموالين بشدة لبوتين، ويتمتعون بسلطة سياسية وتجارية كبيرة في روسيا. يصف عديد من المختصين بشؤون الكرملين سيتشين بأنه أقوى شخص في روسيا بعد بوتين.
لذلك إن أردتم استهداف أفراد نخبة المتنفذين المقرّبين من بوتين يكون سيتشين في مقدمة الصف. احتجزت الحكومة الفرنسية يخت سيتشين الضخم، "أموري فيرو"، الأسبوع الماضي فيما كان راسياً على شاطئ الريفييرا الفرنسية. لكن من غير المحتمل أن يهتم بوتين بيخت سيتشين أو بحساباته المصرفية، حتى لو كان سيتشين يهتم بذلك. يمكنهم إيجاد طرق لإعادة منحه ثروة في وقت لاحق، وهناك يخوت أخرى.
إن العقوبات المدمرة حقاً ضد بوتين وسيتشين وروسيا ستكون تلك التي تلاحق حصالتهم المالية بشكل مباشر، أي "روسنفت" نفسها. تعتبر شركات الطاقة أكثر أهمية في الرفاهية الاقتصادية للبلد من مجموعة اليخوت والطائرات الخاصة.
إن تشكيل وزارة العدل الأمريكية "فرقة العمل كليبتو كابتشر" لاستهداف أفراد النخبة المتنفذة الروسية وعوامل تمكينهم كان صائباً وجيداً. ربما كان من المحتم، بمجرد غزو بوتين لأوكرانيا، أن يخسر بوتانين علاقته بمؤسسة "غوغنهايم" ومتحف مانهاتن المرموق التابع لها. يبدو كل هذا يبدو وكأنه حصص صغيرة جداً في سياق الحرب.
ربما نحن نشهد نهاية أخرى لفترة ثراء أخرى لأفراد النخبة المتنفذة. لكن لا ينبغي لأي من ذلك أن يشتت انتباه الجمهور، ويجب على الحكومة ألا تهدر كثيراً من الموارد في مطاردتهم. تتطلب الحرب المالية الحقيقية التركيز على أهداف أكبر بكثير.