"كان اعترافاً بالهزيمة" لكن ذلك لم يظهر من وراء الابتسامات في الصباح الغائم بمدينة برلين خلال يوليو 2018 عندما وقفت أنغيلا ميركل، المستشارة الألمانية آنذاك، بجانب رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ حيث أجرى الزعيمان محادثة قصيرة تخللها التقاط الصور أمام الكاميرات.
على بعد أمتار أمامهما جلس رجلان، إلى مكتب عليه ملفان من الجلد متطابقان ومفتوحان ويمسكان قلمين بأيديهما، حيث وقّع تسنغ يو تشون، الرئيس التنفيذي لشركة "كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي"، أكبر شركة بطاريات في العالم، وفولفغانغ تيفينسي، وزير في ولاية تورينغن الألمانية، اتفاقية يتعهد بواسطتها عملاق التصنيع الصيني ببناء المصنع الأول الكبير لبطاريات السيارات الكهربائية في ألمانيا. مرت اللحظة سريعاً، وقليل من الحضور أدرك الأهمية التاريخية لها.
ألمانيا .. موطن السيارات
تشتهر ألمانيا بأنها موطن السيارات، لسبب وجيه إذ أسس كارل بنز سنة 1879 وبدأ تشغيل واحد من أول محركات الاحتراق الداخلي المصممة لعمل السيارة. حالياً، تُعد موطناً لشركة "فولكس واجن"، إحدى أكبر شركات السيارات على مستوى العالم، وعلامات تجارية أخرى على غرار "بي إم دبليو" و"أودي" و"مرسيدس بنز" و"بورشه"، والمعروفة عالمياً بتفوقها. حسب أحد التقديرات، تشكل عمليات تصنيع السيارات سُبع الوظائف في ألمانيا، وخُمس صادراتها وثلث إنفاقها البحثي.
جاءت الاتفاقية بمثابة اعتراف بأن القطاع، الذي كان العمود الفقري لاقتصاد البلاد، باء بالفشل في نهاية الأمر. ليس لأنها لم تتمكن من تصنيع سيارات حسبما يريدها الناس، لكن لأنها لم تطور تكنولوجيا مهمة تتمثل في بطاريات أيونات الليثيوم والتي من شأنها تشغيل المركبات خلال القرن الـ21. بينما تحاول البلدان أخيراً اللحاق بالركب بجدية، بعد أن أخذت الصين زمام المبادرة.
مع حلول عام 2025، ستكون السعة الإنتاجية للبطاريات في الصين 3 أضعاف سعة بافي دول العالم مجتمعة، بحسب تقديرات "بلومبرغ إن إي أف".
لم يكن الأوروبيون فقط هم من تخلفوا عن ركب هذه التكنولوجيا. حتى في أواخر التسعينيات من القرن الماضي أو أوائل العقد الأول من القرن الـ21، تأكد القليل منهم أن البطاريات يمكن أن يكون لها دور كبير وبتكاليف منخفضة.
يُعد بروز الصين باعتبارها رائدة العالم في بطاريات أيونات الليثيوم، مصدر قلق وأسى لقطاع النفط، وبالنسبة للأميركيين، الذين قاموا برعاية التكنولوجيا لبلوغ مرحلة التسويق التجاري، وكذلك لليابانيين الذين كانوا أول من طور التكنولوجيا. لهذا السبب سافرت للصين لمعرفة قصة طريقة حدوث ذلك الأمر.
اختراع البطاريات
أول أمر لاحظته لدى دخولي لمكتب نائب رئيس "كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي" هوانغ شيلين في الطابق العشرين كان هو المنظر الخارجي. بدا المنظر وقت الظهيرة خلال نوفمبر 2018 رمادي اللون، ونزل ضباب كثيف فوق الجبال أمامنا، وكشف عن خليج مفتوح على بحر الصين الشرقي.
هوانغ -يحتل المرتبة الثانية في تسلسل قيادة تسنغ في "كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي" وأحد أغنى رجال الصين- حاز المنظر على إعجابي إلى حد ما، لكنني كنت حريصاً على طرح الأسئلة عليه. منحني كوباً من الماء الساخن وتحدثنا عن البطاريات، الاختراع الذي يبلغ عمره 200 سنة.
تُعد البطارية، من الناحية التكنولوجية، أي جهاز يحول الطاقة الكيميائية إلى طاقة كهربائية. في حين أن أول نموذج كان بدائياً اخترعه الكيميائي الإيطالي أليساندرو فولتا خلال 1799، لم يكن حتى بعد 60 سنة -عندما ظهرت كيمياء حمض الرصاص- يمكن وضع البطاريات خارج نطاق الاستعمال الفردي. مع حلول نهاية القرن الـ19، بدء استخدام بطاريات حمض الرصاص على نطاق واسع، بما فيه شغيل السيارات في بدايات تصنيعها المبكرة- رغم أن هذا لم يدم طويلاً. لم تستطع كيمياء البطاريات التنافس مع سيارات الوقود الأحفوري من حيث المسافات التي يمكن قطعها. كانت الولادة الجديدة للسيارات الكهربائية تنتظر حتى اختراع بطاريات أيونات الليثيوم.
خلال أزمات النفط في سبعينيات القرن الماضي، تذكرت شركات الوقود الأحفوري الكبرى بأن النفط سلعة أساسية مصيرها الفناء، ولذا فقد ضاعفت من جهودها للعثور على بدائل.
أسفرت إحدى المشروعات، بقيادة الخبير الكيميائي ستانلي ويتينغهام في شركة النفط الأميركية العملاقة "إكسون"، عن اختراع بطارية أيونات الليثيوم الأولى القابلة لإعادة الشحن على مستوى العالم حيث يكون أحد أقطابها الكهربائية -الكاثود- يُصنع من كبريتيد التيتانيوم والآخر -الأنود- يُصنع من معدن الليثيوم. لكن كانت توجد معضلة كبيرة تحتاج إلى الحل وهي استمرار تعرض البطارية للاشتعال.
وفرة النفط
قبل أن يستطيع ويتينغهام القيام بأي أمر إزاء ذلك، دخلنا حقبة الثمانينيات لتعود وفرة النفط، وتضاءل اهتمام إكسون بالبحث عن بدائل. لحسن الحظ، جذب عمله اهتماماً أوسع بهذا المجال. على مدى العقد التالي، كانت بطاريات أيونات الليثيوم موضوع عمل علمي مكثف عالمياً. قدم 3 باحثين نماذج تطوير حولت اختراع ويتينغهام إلى منتج تجاري قابل للتطبيق (لهذا فازوا بجائزة نوبل في الكيمياء 2019).
خلال عام 1992 باتت "سوني" الشركة الأولى التي تسوق لبطارية أيونات الليثيوم باعتبارها تحديثاً اختيارياً لكاميرا الفيديو المحمولة يدوياً (Handycam).
سارع آخرون للاستفادة من نجاح "سوني"، بمن فيهم تسنغ يو تشون، الذي أسس، في عمر الـ31، شركة "أمبيريكس تكنولوجي" (Amperex Technology)، خلال 1999. بغضون سنتين، قدمت "أمبيريكس تكنولوجي" بطاريات أيونات الليثيوم لمليون جهاز وجعلت كيانها مورداً لها موثوقاً به. خلال 2005 استحوذت شركة "تي دي كيه" على "أمبيريكس تكنولوجي"، وهي شركة يابانية ذاع صيتها بفضل أشرطة الكاسيت والأقراص المدمجة القابلة للتسجيل غالباً.
قرر تسنغ وهوانغ الاستمرار بعد صفقة الاستحواذ. أضافت "تي دي كيه" الطبيعة الانضباطية اليابانية لعملية تصنيع "أمبيريكس تكنولوجي" ونمت أعمال بطاريات أيونات الليثيوم لتدخل في أحدث مصادر الدخل وهي سوق الهواتف الذكية. سرعان ما واصلت "أمبيريكس تكنولوجي" في إمداد كل من "سامسونغ" و"أبل" بالبطاريات.
الطلب الأول
بدأ هوانغ يرسل استفسارات عن بطاريات السيارات الكهربائية بوقت مبكر من 2006. جاء الطلب الأول من شركة "ريفا" (Reva) الهندية. في ذلك التوقيت كانت تصنع سيارة من طراز "جي-ويز" أو (G-Wiz)، وهي سيارة كهربائية ذات مقعدين تعمل ببطاريات محسنة مصنعة من حمض الرصاص. كانت سرعتها القصوى 40 كم/ساعة (25 ميلاً/ساعة) ويبلغ مدى القيادة 80 كم، علاوة على خيار الشحن البطيء فقط.
أسهمت بطاريات أيونات الليثيوم بعد ذلك في زيادة سرعة ومدى قيادة سيارة "ريفا"، وتوفير إمكانية الشحن السريع. من أجل تقديم حل، أنشأ هوانغ وتسنغ قسماً بحثياً داخل "أمبيريكس تكنولوجي" بينما بدأوا في الوقت نفسه استصدار تراخيص التكنولوجيا من الولايات المتحدة والتي ستمكنهم من البناء على البحوث القائمة.
كانت هناك حفنة من الشركات الصينية في ذلك الوقت تشتري التراخيص أو تستثمر ملايين الدولارات في بحوث بطاريات السيارات في مراحلها المبكرة بهذه الطريقة.
تعرضت الشركات الصينية لاتهامات بالسرقة العلمية أو تقليد شركات أجنبية. لكن بواسطة جهودها البحثية القوية، غيرت "أمبيريكس تكنولوجي" هذا النموذج التقليدي تماماً، ومهدت الطريق للهيمنة الصينية على ما سيكون أحد أهم قطاعات التصنيع في القرن الـ21.
مع حلول 2008، امتلكت "أمبيريكس تكنولوجي" فعلياً منتجاً بفضل جهودها المبذولة. في تلك السنة، أطلقت الحكومة الصينية أسطولاً تجريبياً من الحافلات الكهربائية خلال تنظيم أولمبياد بكين، بعضها كان يعمل ببطاريات "أمبيريكس تكنولوجي".
كان الأسطول التجريبي للحافلات الكهربائية بداية خطة الحكومة لبدء حملة لكهربة وسائل النقل، وهو تحرك من شأنها الحد من التلوث المميت الناجم عن الجسيمات القاتلة، وتقليص واردات النفط وتخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بواسطة الحد من عدد الحافلات المسببة للتلوث.
تعرضت الحكومة الصينية لضغوط من المواطنين ووسائل الإعلام العالمية لاتخاذ إجراءات إزاء تلوث الهواء وتقليل بصمتها الكربونية. اعتقد هوانغ وتسنغ بأن هناك فرصة. خلال 2011، أسسا شركة منفصلة تُسمى "كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي" ما يدل على إيمانهما بأن مستقبل البطاريات يكمن في قطاع السيارات.
دعم حكومي للسيارات الكهربائية
خلال نفس المدة الزمنية تقريباً، في محاولة للاستفادة من تقنية الجيل التالي، منحت الحكومة الصينية دعم للسيارات الكهربائية. كان الفخ هو أنه لكي تكون البطارية مؤهلة للحصول على الدعم، ينبغي أن تكون مصنوعة في الصين. وذلك عندما دخلت "بي إم دبليو" -تطلعت لتعزيز حضورها ي الصين- في شراكة مع شركة تصنيع السيارات الصينية "بريليانس" و"كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي". خلال 2013، دشنت "بي إم دبليو-بريليانس" (BMW-Brilliance) سيارة "زينورو" أو (Zinoro) الكهربائية بالكامل للسوق الصينية. قامت على تصميم سيارة "إكس1" (X1) من تصنيع "بي إم دبليو" واستخدم بطاريات "كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي".
على عكس البطاريات العادية، التي تتشابه في تصنيعها بالأساس بصرف النظر عمن ينتجها، ينبغي أن تكون بطاريات السيارات الكهربائية مصنوعة خصيصاً لطرازات السيارات المختلفة، لتكون ملائمة لهيكل السيارة بأفضل طريقة ممكنة. يعني هذا أن المهندسين من شركات تصنيع السيارات يحتاجون إلى التعاون مع نظرائهم من شركة البطاريات، وتبادل الأفكار والمعايير والعمليات التشغيلية. أثناء العمل مع "بي إم دبليو" لتصنيع "زينورو" أضافت "كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي" بعض المهارات الهندسية الألمانية، على غرار الاهتمام بالتفاصيل وزيادة موثوقية المنتجات التي تخرج من أرضية المصنع.
قال تسنغ في فعالية للاحتفال بإطلاق "زينورو" خلال 2017: "لقد تعلمنا الكثير من بي إم دبليو، وفي الوقت الحالي أصبحنا أحد أفضل الشركات المصنعة للبطاريات حول العالم، لقد ساعدتنا المعايير والمتطلبات المتطورة للغاية من بي إم دبليو على النمو سريعاً". خلال 2019، بدأت "كونتيمبوريري أمبيريكس تكنولوجي" العمل في مصنع بطاريات السيارات الأول في ألمانيا، متفوقة على قطاع السيارات الألمانية العريق. تملك الشركة الصينية العملاقة اليوم أيضاً مصنعاً في المجر، علاوة على خطط تشييد مصانع جديدة في الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك. تزوّد مجموعة واسعة من شركات تصنيع سيارات كهربائية بالبطاريات بما فيها "تسلا".