لأجيال، كان وجود سيارة جديدة لامعة أمام مدخل المنزل رمزاً لازدهار الطبقة الوسطى. لكن بالنسبة للأسر الأميركية العادية، أصبح هذا الآن حلماً بعيد المنال.
وفقاً لشركة الأبحاث "كوكس أوتوموتيف" (Cox Automotive) المالكة لشركة "كيلي بلو بوك" (Kelley Blue Book)، ارتفع متوسط الدفعة الشهرية للسيارة جديدة إلى مستوى قياسي بلغ 777 دولاراً، أي ما يقرب من الضعف منذ أواخر عام 2019. هذا ما يقرب من سدس متوسط دخل الأسر الأميركية بعد خصم الضرائب. حتى طرز السيارات المستعملة قفز متوسط دفعاتها إلى 544 دولاراً شهرياً.
ملكية السيارات للأثرياء
تمتد صدمة الأسعار إلى ما هو أبعد من الولايات المتحدة، حيث يمثل التضخم مشكلة سياسية شائكة بالنسبة للرئيس جو بايدن مع اقتراب انتخابات 2024. ففي أوروبا، تقترب الأسعار من الوصول إلى الأرقام القياسية. بينما ارتفعت أسعار السيارات المستعملة في اليابان العام الماضي، وفي الصين، يعني الدفع السريع باتجاه السيارات الكهربائية أن المستهلكين سيضطرون إلى إنفاق المزيد في بعض المدن.
يكمن جذر المشكلة في الشعار الجديد لشركات صناعة السيارات: حافظ على المخزون ضعيفاً، والأسعار مرتفعة. بعد 3 سنوات من تسبب الوباء في نقص عالمي في رقائق أشباه الموصلات، وشل تصنيع السيارات، حققت شركة "فورد موتور"، و"جنرال موتورز" ومنافسيهم في الخارج أرباحاً كبيرة. حتى في الوقت الذي تظهر فيه أزمة الرقائق علامات على التراجع، فإنهم يتعهدون بالإبقاء على إنتاجهم عند مستوى معين.
نظراً لأن تكلفة السيارات الكهربائية تزيد بنحو 25% عن متوسط تكلفة السيارة، فإن التحول إلى السيارات القابلة للشحن الخارجي يوشك أن يجعل أزمة القدرة على تحمل التكاليف أسوأ. يضاف أسعار الفائدة المرتفع إلى هذا المزيج، وستصبح بسرعة السيارات الجديدة -مثل ملكية المنازل والتعليم الجامعي- مجالاً للأثرياء.
قال تشارلي تشسبرو، كبير الاقتصاديين في "كوكس": "فكرة وجود سيارة جديدة في مدخل منزل كل أميركي ليست هي العالم الذي نعيش فيه".
أقساط باهظة للسيارات الأميركية
على مدى عقد، ظل المتوسط الشهري لأقساط السيارات الجديدة في الولايات المتحدة عند نحو 400 دولار.
قال جوناثان سموك، كبير الاقتصاديين في "كوكس"، إن هذا يعادل ما يمكن للأسر الأميركية النموذجية أن تدفعه، وهي لا تزال قادرة على تغطية النفقات الرئيسية الأخرى. لكن المتوسط تجاوز هذه العتبة في نوفمبر 2019، وظل يرتفع منذ ذلك الحين.
وفقاً لـ"جيه بي مورغان"، قفز متوسط سعر السيارة الجديدة في الولايات المتحدة إلى ما يقرب من 50 ألف دولار، بزيادة 30% منذ عام 2019. على الرغم من تراجع الأسعار إلى حد ما في الأسابيع الأخيرة مع تعافي الإنتاج، فإن التراجع ليس كافياً بالنسبة لمعظم المستهلكين لشراء سيارة جديدة بشكل مريح. بينما يبلغ متوسط سعر السيارة المستعملة الآن نحو 27 ألف دولار، بحسب بيانات "كوكس".
من جهتهم، يجني المصنعون فوائد بيع سيارات أقل ذات تكلفة أكبر. في العام الماضي، باع صانعو السيارات نحو 13 مليون سيارة في الولايات المتحدة، بانخفاض 8% عن عام 2021، وهو أدنى مستوى خلال عقد.
ارتفعت أرباح "فورد" الإجمالية 4.4% في عام 2022 عن العام السابق، بينما نمت أرباح "جنرال موتورز" المعدلة بنحو 200 مليون دولار لتصل إلى 14.5 مليار دولار. من المتوقع أن تتقلص هوامش بعض الشركات المصنعة العام الجاري وسط ضعف الاقتصاد العالمي.
في غضون ذلك، وصلت أسعار السيارات الجديدة في أوروبا إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وما زالت في ارتفاع، وفقاً لبيانات من "إي إن خي ريسيرش" (ING Research). رفع نقص السيارات أسعار السيارات المستعملة في اليابان خلال معظم العام الماضي. بينما أبقى الركود الاقتصادي في الصين الأسعار دون ارتفاع، لكن المدن الكبرى تُصعّب تسجيل السيارات ذات محرك الاحتراق الداخلي في ظل الدفع نحو السيارات الكهربائية، التي تميل إلى أن تكون أغلى سعراً.
مخزون منخفض للسيارات
ما يحدث يُعد تغييراً جذرياً عن نموذج الأعمال الذي حدد تصنيع السيارات لعقود من الزمن، وهو تشغيل المصانع بالسعة القصوى ثم استخدام الخصومات الكبيرة لبيع أعداد ضخمة من السيارات.
في الولايات المتحدة، عادة ما يبقي المصنعون السيارات من 60 إلى 100 يوم في المخزون. في هذه الأيام، يستهدف المصنعون إبقاءها لنحو نصف هذه المدة لخفض النفقات العامة والحفاظ على ارتفاع الأسعار.
في العام الماضي، قالت ماري بارا، الرئيسة التنفيذية لشركة "جنرال موتورز"، للمستثمرين: "لن نعود أبداً إلى مستويات المخزون التي كنا عليها في الماضي".
بينما أعلن منافسها، الرئيس التنفيذي لشركة "فورد"، جيم فارلي، إنه لا يريد دفع مليارات الدولارات على تكاليف المخزون أو تقديم خصومات وحوافز أخرى لتفريغها. بدروها تعهدت "تويوتا مورتور"، و"نيسان موتور" بالشروع بنفس الاستراتيجية.
توازن العرض والطلب
في هذا السياق، صرّحت جودي ويلر، نائبة رئيس قسم مبيعات السيارات في الولايات المتحدة لدى شركة "نيسان"، في مقابلة: "لن ترى عودة معظم الشركات المصنعة إلى ما كانت عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات، سنحافظ على هذا التوازن بين العرض والطلب".
مع ذلك، هناك بعض الدلائل على أن ألم المستهلك سيخف قليلاً مع انحسار مشكلات سلسلة التوريد. في هذا السياق، توقع جون لولر، المدير المالي لـ"فورد" هذا الشهر، أن تنخفض أسعار السيارات الجديدة 5% في عام 2023 مع قيام صانعي السيارات بزيادة الخصومات، في حين توقعت ويلر من "نيسان" أن تنخفض الأسعار إلى "مستويات طبيعية أكثر". يُذكر أن "تسلا"، و"فورد" خفضتا أسعار السيارات الكهربائية.
عودة حروب السيارات
قال ريت ريكارت، الرئيس التنفيذي لمجموعة "ريكارت أوتوموتيف" (Ricart Automotive) التي تتخذ من كولومبوس بولاية أوهايو مقراً لها، والتي تُعتبر تاجراً رئيسياً لطرز "فورد"، و"نيسان"، و"شيفروليه"، إن التجار متشككون في أن شركات صناعة السيارات ستبقي المخزونات تحت السيطرة عند مستويات معينة.
أضاف ريكارت في مقابلة: "جميعهم يتحدث عن توريد السيارات خلال مدة لا تزيد عن 30 إلى 45 يوماً، لم تعد الرقائق تشكل مشكلة كبيرة بعد الآن، لقد عادت حروب السيارات".
لكن من المرجح أن يحدث انتعاش في العرض بشكل متقطع. ترى بارا، وجاك هوليس، نائب الرئيس التنفيذي لمبيعات "تويوتا موتور" في أميركا الشمالية، أن الصناعة ستحصل على ما يكفي من الرقائق لبيع 15 مليون سيارة في الولايات المتحدة هذا العام، أي أقل 12% تقريباً من مستويات المبيعات قبل ثلاث سنوات. أضاف هوليس أنه قد يكون هناك طلب مكبوت يزيد عن أربعة ملايين سيارة بسبب النقص في الرقائق، ما يحول دون هبوط الأسعار بسرعة.
قال هوليس: "سيكون لدينا عام آخر من المبيعات المحدودة بسبب نقص الإمدادات، فالأسعار في ارتفاع مستمر، ومن الواضح أن الطلب لا يزال يفوق العرض".
صعوبة العثور على سيارة بسعر مناسب
بالنسبة للسيارات المستعملة، يتوقع سموك من شركة "كوكس" انخفاضاً في الأسعار يبلغ 4% فقط هذا العام، يرجع ذلك جزئياً إلى أن شركات صناعة السيارات لم تؤجر الكثير. هذا يُترجم إلى وجود عدد أقل من طرازات السيارات الحديثة التي تعود إلى السوق.
يركب سيرسي ساندرز الباص في بيتسبرغ منذ أن انفجر ناقل الحركة في سيارته "أكيورا تي ال 2006" في أوائل يناير. لكن بعد اكتشافه أن تكلفة إصلاح ناقل الحركة تفوق سعر السيارة، حصل على موافقة مسبقة للحصول على قرض من اتحاده ائتماني، وشرع في محاول العثور على "هوندا أكورد 2016" بأقل من 17 ألف دولار. لكنه لم يجد شيئاً بسعر أقل من 19 ألف دولار، وهو الآن يبحث عن طرازات يزيد عمرها عن عقد.
قال ساندرز (48 عاماً)، مندوب خدمة العملاء، وأب أعزب لابنين في المرحلة الثانوية: "هذه هي الطريقة التي يجب أن أتبعها إذا كنت أرغب في البقاء في النطاق السعري الملائم بالنسبة لي، دون أن يكون لدي قسط سيارة شهري مرتفع للغاية، فالأمر محبط للغاية، أردت سيارة أحدث لأنني أشعر أنها ستكون أكثر موثوقية، فلا تعرف أبداً ما الذي ستحصل عليه مع سيارة قديمة مستعملة".
بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن سيارة جديدة بسعر ميسور، فإن الخيارات محدودة. توقف صانعو السيارات المحليون عن صنع السيارات صغيرة الحجم في الولايات المتحدة لأنهم لم يتمكنوا من جني الأموال منها.
نظراً لندرة الطرز الأرخص، فإن المزيد من السيارات الجديدة يتم اقتناصها بسرعة من قبل المستهلكين الأثرياء.
قال مارك ويكفيلد، المدير الإداري لدى شركة الاستشارات "أليكس بارتنرز" (AlixPartners)، إن ما يقرب من 30% من السوق يأتي من أسر يزيد دخلها السنوي عن 150 ألف دولار، بارتفاع عن 22% في عام 2016.
أضاف: "لقد لاحظنا انتقالاً نحو شراء السيارات من قبل الأشخاص الأثرياء بشكل أكبر، حيث اختفت الفئة ذات الدخل المحدود من السوق تقريباً".