تلجأ حكومة الولايات المتحدة إلى أموالها لمواجهة التحديات التكنولوجية الكبيرة التي تفرضها القوى العظمى المنافسة، مثلما حدث منذ 60 عاماً تقريباً بعد أن تقدَّم الاتحاد السوفيتي في سباق الفضاء، وأطلق القمر الصناعي "سبوتنيك"، مما أدى إلى موجة من الإنفاق الأمريكي على العلوم والابتكار. هناك شيء مشابه قد يكون جارياً الآن، ولكنَّ التحدي هذه المرة يأتي من الصين.
كانت الأموال الفيدرالية المخصصة للبحث والتطوير كحصة من الاقتصاد عند مستويات منخفضة تاريخياً، ولكنَّ الرئيس جو بايدن جعل دعم الابتكار جزءاً رئيسياً من برنامجه، ودعا إلى زيادة التمويل للصناعات الحيوية، مثل صناعة أشباه الموصلات، والأمن السيبراني، والسيارات الكهربائية.
ويتحرَّك الكونغرس تجاه خطة واسعة النطاق تحظى بدعم الحزبين، التي قد تضخُّ حوالي 190 مليار دولار في برامج جديدة وقائمة، كما أنَّ بعض التمويلات ستحلُّ محل التمويل الحالي، وتستهدف مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، إذ تعتزم الصين أن تصبح رائدة عالمياً من خلال نفس نوع البرنامج المركّز والحكومي الذي تتحرَّك الولايات المتحدة حالياً لمحاكاته.
وقال والتر كوبان، مدير سابق في المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا: "نحن نعيش في لحظة مشابهة للحظة "سبوتنيك" حالياً..وأوضحت الصين فوائد امتلاك سياسة ابتكار، وسياسة تصنيع، وسياسة علوم وتكنولوجيا".
من يبتكر؟
ارتقت الصين في مؤشر "بلومبرغ" للابتكار في السنوات الماضية، في حين تقهقرت الولايات المتحدة، وضاقت الفجوة بين موازنات أبحاثهم.
وبلغ إنفاق الحكومة الأمريكية على البحث والابتكار في العام المالي الماضي 150.9 مليار دولار، وفقاً لمؤسسة العلوم الوطنية، وهو ما يعادل 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم صغير بشكل استثنائي نتيجة الوباء.
على النقيض، وصل الإنفاق لذروته عند 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 1964 أي بعد سبع سنوات من إطلاق "سبوتنيك"، وكانت لجميع الإنجازات اللاحقة- بدءاً من وضع رجل على القمر إلى رسم خرائط "الجينوم" البشري، وتطوير الإنترنت- جذور في هذا العصر من الأبحاث.
ولا تعدُّ المنافسة بين القوى العظمى السبب الوحيد وراء الإجماع المتزايد على أنَّ الحكومة الأمريكية بحاجة للعب دور أكبر في الابتكار، وإنَّما قدَّم الوباء مثالاً عظيماً على كيف أنَّ الأبحاث المموَّلة من الحكومة تسفر عن نتائج، وتمكَّنت شركتا "فايزر"، و"موديرنا" من تطوير أمصال خلال أشهر، وهو ما يعود جزئياً إلى بنائهما على سنوات من العمل من قبل الوكالات الحكومية أو الجامعات الحكومية.
استثمارات متضائلة
انطلقت العديد من التكنولوجيات الحديثة الأخرى، مثل علاجات السرطان، ومحرِّك البحث "غوغل" من الجامعات الأمريكية، التي قد تحصل على تمويل إضافي للأبحاث بموجب خطط الكونغرس.
كما يشكِّل تغيُّر المناخ تهديدات تعد الشركات غير مجهزة للتعامل معها بمفردها، وأحد المجالات، على سبيل المثال، التي يريد الكونغرس زيادة تمويل الأبحاث فيها هو ما يسمى بالزراعة الدقيقة التي تساعد المزارعين على استخدام نماذج المناخ، وبيانات الأقمار الصناعية لتحديد مكان وموعد ونوع ما يمكن زراعته.
وبشكل عام؛ فإنَّ هناك عملية إعادة نظر كبرى تجري بين ممتهني مهنة الاقتصاد الذين أصبحوا أكثر ميلاً للاعتراف بفوائد التدخل الحكومي بعد عقود عديدة من التوقُّعات بأن تحلَّ الأسواق الحرة أغلب المشكلات، وهو تحوُّل يظهر في فريق "بايدن".
قال مجلس المستشارين الاقتصاديين لبايدن الشهر الماضي في بحث يفصل خطط بايدن البالغة قيمتها 4 تريليون دولار: "الدعم الحكومي للبحث والتطوير ضروري لتحقيق مستوى مناسب من الابتكار.. ومع ذلك، على مدار النصف قرن الماضي، كانت استثمارات الولايات المتحدة تتضاءل باستمرار".
الموهبة والتوجهات
قد تساعد بعض الأفكار - مثل توجيه المزيد من الأموال للمراكز التكنولوجية والجامعات التي ينقصها التمويل، مثل الجامعات التي يرتادها السود تاريخياً - في نشر الموارد فيما وراء المراكز الساحلية، حيث تتركَّز دولارات رأس المال المغامر، وهو ما يساعد في ربط أجندة الابتكار بأولويات بايدن الأخرى، مثل الحد من عدم المساواة.
وقالت هولي فيتشنر، المديرة التنفيذية لـ"انفينت توغيذر" (Invent Together)، وهي مجموعة مموَّلة من الشركات والجامعات، وتعمل على معالجة نقص التنوع في براءات الاختراع والابتكار، إنَّ: "الولايات المتحدة ستكون أكثر تنافسية عالمياً، إذا استفدنا من كل أحد لديه الموهبة والميل للابتكار".
وداخل الحزب الجمهوري، كان ما حفَّز الدعم الحكومي هو احتمال اجتياز الصين الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم، والتفوق في جبهة التكنولوجيات الإستراتيجية، وهذا أيضاً ما ساعد على تجاوز الشكوك التقليدية حول الإنفاق العام.
شارك السيناتور الجمهوري عن ولاية إنديانا، تود يونغ، في رعاية تشريع في مجلس الشيوخ بجانب زعيم الأغلبية، من نيويورك، تشاك شومر، وسمي التشريع رسمياً باسم قانون الحدود اللانهائية بعد تقرير مؤثر في عام 1945، الذي قاد إلى تأسيس مؤسسة العلوم الوطنية، وبشَّر بعصر من الاكتشاف، ثم تمَّ دمجه مع مقترحات أخرى تحت مظلة تدبير شامل أصبح معروفاً بالاسم المختصر "قانون الصين".
وقال يونغ ردَّاً على أسئلة: "ينبغي أن تقود الحكومة في مجالات البحث والتطوير الأساسي أو التطبيقي، إذ تكون التكنولوجيات بعيدة كل البعد عن التبني التجاري، ويكون العائد الوطني على الاستثمار كبيراً..ويسعى القطاع الخاص لتحقيق المكاسب للمستثمرين فيه، والنمو لشركاته المعنية، ولا ينظر إلى المنافسة الجيوسياسية مع الصين على أنَّها شيء ينبغي التعامل معه بالطريقة نفسها التي تراها الحكومة".
إنهم ينهضون
في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، كانت التعريفات الجمركية وغيرها من الإجراءات العقابية هي الأسلحة الرئيسية في تلك المنافسة، أما المبادرة الجديدة فهي، جزئياً، اعتراف أنَّ حرب ترمب التجارية لم تفعل شيئاً يذكر لإبطاء الصين، و
لا شيء أيضاً لدفع أمريكا إلى الأمام.
وقال أليكساندر كيرستن، مدير تجديد برنامج الابتكار الأمريكي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "إذا كنَّا نشترك في ماراثون مع الصين، يمكن أن تُوقعهم وبالتأكيد سيتعثَرون، ولكن إن كانوا هم المتسابقون الأفضل، فإنَّهم سينهضون ويهزمونك".
ولا تعدُّ مجموعة التدابير الحالية وحدها كبيرة بما يكفي للفوز في هذا السباق، وحتى إذا تمَّت الموافقة على كل شيء؛ فإنَّ الإنفاق على الأبحاث سيكون أقل بكثير عن ذروة ستينيات القرن الماضي.