بعد مرور أكثر من نصف قرن على خطوات نيل أرمسترونغ التاريخية على سطح القمر، والقفزة البشرية التي مثَّلتها تلك الخطوات للعالم بأسره، بدأ سباق فضائي آخر في الاحتدام. ولكن هذه المرة، كانت الأحلام الواعدة لسكان الأرض تطال الكوكب المجاور لنا، ألا وهو المريخ.
قد شهد العالم سلسلة من بعثات الروبوتات إلى الكوكب الأحمر، وكان منها المركبة الجوالة "بيرسيفيرانس روفر" التابعة لـ"ناسا"، التي أرسلت هذا العام، ومركبة "زورونج" الصينية التي أطلقت في مايو الماضي. وهي جميعها تثير سؤالاً حتمياً، وهو: متى يمكن للبشر السفر إلى المريخ؟
على مر العقود، كانت البعثات غير المأهولة قد تمكَّنت من توفير مجموعة من المعلومات عن المريخ، مثل وجود جليد مائي. و السؤال هنا هو عن التوقُّعات بإمكانية هبوط البشر على المريخ، لكن متى يمكن ذلك؟ وإلى أيِّ مدى نحن مستعدون لهذه الرحلات المأهولة؟
السباق إلى المريخ
وكالة الفضاء الأمريكية، ناسا، قالت إنَّها تنوي إرسال روَّاد فضاء إلى المريخ في وقت ما خلال العقد المقبل. كما أنَّ دول الإمارات العربية المتحدة -التي لديها حالياً مركبة فضائية تدور حول الكوكب- تروِّج هي الأخرى لخطة مدتها 100 عام لإنشاء مستعمرة هناك. في حين تقول الصين، إنَّ هدفها طويل الأجل هو إرسال البشر إلى المريخ، مع إمكانية قيام أولئك المتلهفين في الوقت الراهن لتجربة حياة المريخ، بأخذ فكرة عن ذلك من خلال زيارة موقع محاكاة أقامته في صحراء جوبي.
في خضم كلِّ هذا، ظهر الملياردير إيلون ماسك ليكون الرجل الأكثر حماساً وطموحاً لهذه التجربة. إذ يريد مؤسس شركة "سبيس اكس" إرسال البشر إلى المريخ في هذا العقد. وفي مقابلة أجراها العام الماضي قال ماسك، إنَّه واثق من إمكانية إرسال بعثة مأهولة إلى الكوكب الأحمر في عام 2026.
مصاعب كثيرة
على الرغم من كلِّ هذه الطموحات، يحذِّر العديد من العلماء من وجود أسئلة كثيرة
ما تزال تفتقر لإجابات وافية، فيما يخص السفر لاستكشاف الفضاء العميق. كما أنَّ إيلون ماسك اعترف أيضاً بالمخاطر التي يمكن مواجهتها للوصول إلى هناك، إذ قال: "سيكون من الصعب الوصول إلى هناك".
وكتب الملياردير في تغريدة له: "أن نصبح متعددي الكواكب، فذاك يعدُّ أحد أعظم الاكتشافات. وفقط الآن، وبعد مرور 4.5 مليار عام على تشكُّل الأرض، هل أصبح الأمر ممكناً؟.
من غير المؤكَّد إلى متى ستظل هذه النافذة للوصول إلى المريخ مفتوحة. قد تبقى مفتوحة لوقت طويل، أو لا. ولكن في حال كانت هذه هي النافذة الأخيرة، فإنَّنا بحاجة للتحرُّك الآن".
التحديات الخمسة الأبرز
خلال مقابلة أجراها الملياردير مع بيتر ديامانديس، مؤسس "اكس برايز"، قال ماسك: "لأكون صادقاً، من المحتمل أن يلاقي بعض الأشخاص حتفهم في بداية العمليات".
وانطلاقاً من كل هذه المساعي الخطرة، إليك بعض أكبر التحديات التي تواجهها هذه البعثات البشرية، بدايةً من النجاة من الإشعاع الكوني والعواصف الترابية، حتى القدرة على إنتاج الأكسجين والماء.
رحلة بعيدة للغاية
تمكَّن روَّاد فضاء أبولو من السفر إلى القمر في غضون بضعة أيام. لكنَّ الأمر مختلف بالنسبة للرحلة إلى المريخ التي قد تستغرق من 6 إلى 9 أشهر. إذ قد تتراوح المسافة بين المريخ والأرض من 35 مليون إلى 249 مليون ميل (1 ميل = 1,609 كم)، وذلك بسبب المدارات الإهليلجية (البيضاوية) الشكل للكواكب. ولذلك لا تتوفَّر سوى نافذة واحدة صغيرة للسفر في هذه الرحلة، وذلك حين يتماشى الكوكبان في مسارهما بالشكل الأمثل للقيام بالرحلة. وهذه النافذة المحدودة هي ما تجعل العمليات اللوجستية للتخطيط أكثر صعوبة.
وفي حين أنَّه في حالة استكشاف القمر، "هناك دائماً إمكانية تقديم الدعم، من خلال إرسال إغاثة، أو إمدادات من الأرض، أو محطة فضائية في منتصف الطريق. لكنَّ الأمر ليس كذلك بالنسبة للمريخ"، وذلك بحسب ما قالت أليس غورمان، الأستاذة المشاركة في "جامعة فلندرز" بمدينة أديليد، وعضو المجلس الاستشاري لرابطة صناعة الفضاء في أستراليا.
الانفجارات الشمسية
رحلة بهذا البعد من الممكن أن تعرِّض الطاقم بها إلى أحد أكثر الظواهر رعباً في عالم الفضاء؛ أي الانفجارات الشمسية. وهي أقوى الانفجارات في النظام الشمسي، إذ تعادل قوة الانفجار الواحد الصادر عن الشمس، قوة 100 مليون قنبلة هيدروجينية.
وفي حين يمكن للمجال المغناطيسي للأرض حماية روَّاد الفضاء عندما يكونون في مدارها، إلا أنَّ ذلك ليس هو الحال عند السفر في الفضاء العميق. ففي حال تعرَّضت هناك الرحلة لهذا النوع من الإشعاع، سيكون من الصعب على أيٍّ من طاقمها النجاة لأكثر من بضعة أيام. ومن هذا المنطلق، قال لويس دارتنيل، المتخصص في بيولوجيا الفضاء في قسم علوم الحياة في "جامعة وستمنستر" في لندن: "إنَّها طريقة مروعة جداً للموت". والجدير بالذكر أنَّ دارتنيل يجري أبحاثاً مرتبطة بالحياة على المريخ.
في حالة الرحلة إلى القمر، لم يتعامل طاقم "أبولو" مع هذه المشكلة في حينها، فقد تمَّ تفادي أن يتصادف وقت المهمة مع أيِّ أحداث شمسية. وفي حين لا تتجاوز مدة المهمة القمرية أياماً قليلة، سيكون الوضع مختلفاً تماماً بالنسبة لرحلة المريخ التي تستغرق عدَّة أشهر.
ويوضح دارتنيل أنَّ خزانات المياه الموجودة على متن المركبة الفضائية قد تعمل كدروع، إذا صُمم مكانها بشكل صحيح. وبالتالي في حال حدوث انفجار، من الممكن للأشخاص على متنها، اللجوء إلى غرفة خاصة داخل المركبة الفضائية. إذ يتمُّ تجهيزها لتكون ملجأ في هذه الحالات، على أن تكون محاطة بخزانات المياه.
تكمن المشكلة في اكتشاف النشاط على سطح الشمس، خاصة على الجانب الذي
لا يواجه الأرض. وفي هذا الشأن يتساءل دارتنيل: "كيف يمكن أن تكون تنبؤاتنا بالطقس الفضائي جيدة بما يكفي لإخطار الطاقم؟" ويضيف: "ليست لدينا القدرة على مراقبة الشمس من زوايا مختلفة لتتبُّع العواصف الشمسية".
العواصف الرملية
الإشعاعات ليست مشكلة على الطاقم مواجهتها خلال طريق الرحلة فحسب؛ لأنَّ مخاطر الإشعاعات تبقى قائمة على سطح الكوكب. فضلاً عن أنَّ الغلاف الجوي للمريخ أكثر رقة من الغلاف الجوي للأرض. كما أنَّ الكوكب الأحمر لا يتمتَّع بمجال مغناطيسي كحال كوكبنا. ولذلك، فإنَّ البشر على سطح المريخ سيكونون معرَّضين لخطر التعرُّض للإشعاع الشمسي والكوني.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإنَّ سطح الكوكب بحدِّ ذاته يغلب عليه الغبار إلى حدٍّ كبير، إذ يمكن أن تتشكَّل عواصف ضخمة مكوِّنة لغيوم غبارية كبيرة تحجب ضوء الشمس، وفقاً لنيلتون رينو، الأستاذ في "جامعة ميشيغان" الذي تتضمَّن اهتماماته البحثية بيولوجيا الفضاء.
يشرح رينو: "خلال مثل هذه العواصف، يكون الحال أشبه بمنتصف الليل على مدى شهرين كاملين.. وإذا كنت تستخدم الألواح الشمسية لتوليد الطاقة، فإنَّك لن تنجو من ذلك على الأرجح. فلن يكون لديك القدر الأدنى من الطاقة للحفاظ على الدفء بما يكفي".
جوزيف ميشالسكي، الأستاذ المشارك في استكشاف قابلية العيش على المريخ في "جامعة هونغ كونغ" يطرح حلاً لهذه المعضلة يتمثَّل باستخدام البشر لهذا الغبار لحماية أنفسهم، وذلك من خلال إحاطة ملاجئهم بأكياس رملية مليئة بتربة المريخ، واستعمالها لحجب الإشعاع، بحسب قوله. ويضيف أنَّه يمكن للبشر أيضاً العودة لتاريخهم القديم للعيش في الكهوف من خلال إيجاد مأوى مؤقت في بعض الحفر المكوِّنة من الحمم البركانية على الكوكب، وهي كهوف كبيرة باقية من العصور القديمة، التي كان فيها نشاط بركاني للمريخ.
الغذاء والماء والأكسجين
في فيلم "المريخي"- الذي أنتجته هوليوود في عام 2015- قام رائد الفضاء الذي لعب دوره الممثل مات ديمون بزراعة البطاطس على المريخ، مستخدماً فضلاته البشرية كسماد لتربتها. ولكن، على أرض الوقائع؛ فإنَّ لدى إليزابيث هاوسرات، الأستاذة المساعدة في "جامعة نيفادا" في لاس فيغاس، طموحات بمحاصيل زراعية أكثر تواضعاً بالنسبة للزراعة على المريخ. وعلى مدار العام والنصف الماضيين، دعمت وكالة "ناسا" أبحاثها في زراعة الطحالب الثلجية، وهي نوع شائع من النباتات في صحراء نيفادا وغيرها من البيئات مرتفعة الحرارة والتربة فقيرة المغذيات، وذلك في تجارب زراعية في ظروف تحاكي المريخ على الأرض.
وقالت هاوسرات: "لقد نمت النباتات بشكل جيد". وتكمن الفكرة في أنَّ الطحالب بإمكانها النمو في بيوت زراعية مصنوعة من مادة مرنة مماثلة لتلك المستخدمة في البدلات الفضائية. ولا يمكن لزراعة الطحالب في مثل هذه الظروف خلق مصدر للغذاء فحسب؛ بل أيضاً يمكن إنتاج الأكسجين من خلالها. لكنَّ البحث ما يزال في مراحله الأولى.
وبالإضافة إلى ذلك؛ ما يزال العلماء بحاجة إلى إيجاد سبيل لحصول البشر على كمية كافية من المياه للنجاة على سطح المريخ. وتقول فيكتوريا هاميلتون، وهي عالمة في جيولوجيا الكواكب في "معهد ساوث ويست" للأبحاث في بولدر بولاية كولورادو، إنَّ كوكب المريخ يحتوي بالفعل على بعض الجليد تحت سطحه، وهو أمر من شأنه أن يشكِّل مصدراً ممكناً للمياه. وبالتالي ستحتاج البعثة المستقبلية للمريخ إلى استخدام الرادار لتحديد مواقع وجود الجليد على الكوكب. وأضافت هاميلتون:
بمجرد معرفة مكان الجليد، يصبح من الممكن إرسال البشر إلى هذه المواقع
العودة إلى أرض الوطن
ما لم يكن طاقم المركبة مستعداً لرحلة باتجاه واحد فقط إلى المريخ، فإنَّ هؤلاء الأشخاص سيحتاجون إلى استخدام الصاروخ للعودة إلى الأرض مرة أخرى. ولتحقيق ذلك، يتطلَّب الأمر وضع طريقة للحصول على الوقود اللازم لتشغيل المركبات الفضائية، والعودة بها عبر الفضاء. وتُعدُّ هذه الجزئية العقبة التكنولوجية الأكبر التي تواجه مستكشفي المريخ، بحسب ميشالسكي الذي يقول: "ليس من الممكن أن نقوم بإحضار وقود الصاروخ معنا من الأرض، إنَّه ثقيل للغاية".
تتمثَّل أحد الحلول لهذه المعضلة، باستخدام الموارد الموجودة على الكوكب لإنتاج الوقود. وذلك عبر فصل الماء كهربائياً عن طبقة الجليد الموجودة تحت السطح، وعن الصخور المائية، ثم دمج الهيدروجين والأكسجين لإنتاج وقود الصواريخ، بحسب ما قال ميشالسكي.
وفي رحلة استكشاف المريخ، يعتقد المتفائلون بهذا المجال أنَّ العلماء سيجدون حلاً لهذه المشكلات عاجلاً أو آجلاً.
"من المؤكَّد أنَّ المريخ ليس مكاناً مؤهّلاً للعيش حالياً"، هكذا يقول عدنان الريس، مدير برنامج "المريخ 2117" في مركز محمد بن راشد للفضاء في الإمارات العربية المتحدة، ويضيف: "لكن مع تطور العلوم والتقنيات؛ فإنَّ هذه الإجابة ربما قد تكون مختلفة في غضون 50 إلى 100 عام من الآن ".