على مدى عامين بدت طفرة الذكاء الاصطناعي أشبه بسباق اقتصر على حصانين، إذ تنافست "جوجل" تابعة "ألفابيت" و"أوبن إيه آي" التي تمولها "مايكروسوفت" استقطاباً للزبائن، بينما اكتفت "أمازون دوت كوم" و"ميتا بلاتفورمز" بقدر من تنافس على الهامش سعياً نحو حصة سوقية.
إجمالاً، عززت الطفرة ثروة وقوة أكبر ست شركات في مجال التقنية، فارتفعت قيمها السوقية بمقدار 8 تريليونات دولار منذ إطلاق "تشات جي بي تي" قبل عامين. لكن ظهرت شركة جديدة واحدة على الأقل من خارج السرب لديها فرصة لتحدي هيمنتها.
قالت متحدثة باسم الشركة إن أكثر من 15 مليون إنسان يستخدمون "بيربليكسيتي إيه آي" (Perplexity AI)، وهو "محرك إجابات" يتنافس مع أعمال البحث والإعلان لدى "جوجل". ارتفعت قيمة الموقع والتطبيق خلال 2024 من مليار دولار في بداية العام إلى 9 مليارات دولار في ديسمبر عندما اختتم جولة تمويل بقيمة 500 مليون دولار. مؤسس الشركة المشارك أرافيند سرينيفاس مفاوض ماهر تمكن من الارتباط بقوة بشبكة وادي السيليكون كما خفف حدة التوتر مع المنافسين والمنتقدين.
مهمة انتحارية
لطالما كانت منافسة "جوجل" تبدو أشبه بمهمة انتحارية، إذ إن 9 من كل 10 نقرات بحث على الإنترنت عالمياً تحدث على موقعها. لم يحقق محرك بحث "بينغ" من :مايكروسوفت" بعد دمج "تشات جي بي تي" قبل عامين سوى تأثير ضئيل على حصة "جوجل" السوقية، فقد راوح عند 4% فقط كما تضاءل استخدام "ياهو". أما "أسك جيفز" (Ask Jeeves) فهل هنالك من يتذكره؟ أغلقت شركة ناشئة واعدة في مجال الذكاء الاصطناعي تُسمى "نيفا" (Neeva) أبوابها في 2023 بعد أربع سنوات من محاولتها التنافس مع "جوجل"، وقد أدارها مسؤول تنفيذي سابق في إعلانات "جوجل".
لكن "بيربليكسيتي" جمعت أموالاً أكثر بكثير "نيفا" فقد حصلت على 913 مليون دولار مقارنة مع 77 مليون دولار كانت حظ الأخيرة، وفقاً لموقع ”بيتشبوك“ كما أن إجاباتها النظيفة والشاملة تجتذب من تحبطهم نتائج البحث عبر "جوجل" المكتظة بالإعلانات، وفقاً لمنشورات حول التطبيق عبر "تويتر" و"ريديت" ومنتديات وسائل تواصل اجتماعي أخرى، بالإضافة لروايات سمعتها من مستخدمين.
راهناً، تجني الشركة المال عبر اشتراكات شهرية بقيمة 20 دولاراً، وهي تولّد 30 مليون دولار من الإيرادات المتكررة السنوية. كما أن سرينيفاس بدأ يتوسع نحو عمل ”جوجل“ الأساسي، أي الإعلان.
وهو يراهن على أن كثيراً من هذه الاستفسارات المعلوماتية ستنتهي بقرارات شراء، مثل السؤال عن فوائد زيت السمك أو أفضل تلفزيون للمنزل. قال لي: "ما يقرب من 80% من عمليات البحث على (جوجل) غير صالحة للتكسب. الأمر الأهم هو أن الناس يأتون إلى موقعك لطرح كل أنواع الأسئلة. وإذا ما واصلت تنمية الجزء العلوي من القمع، فإن جميع التحويلات، حتى لو كانت المعدلات صغيرة، ستواصل النمو".
الخوارزميات ستكون الفيصل
بعبارة أخرى، حتى لو لم تولّد معظم عمليات البحث التي تقوم بها "جوجل" عائدات إعلانية مباشرة، فإنها ما تزال بالغة الأهمية للحفاظ على مكانتها كمحرك البحث المفضل. سيعود الناس للاستعلامات التجارية حول المنتجات والخدمات ولمشاهدة الإعلانات إن كانوا يثقون بـ"جوجل" بما يكفي لاستعلامات مثل الطقس والحقائق والمعرفة العامة. إنه يراهن على أن نفس الشيء سيحدث مع "بيربليكسيتي".
كما يعتقد سرينيفاس أنه في المستقبل، ستستهدف الإعلانات عبر الإنترنت وكلاء الذكاء الاصطناعي الذين تم تكليفهم بحجز رحلات أو العثور على زوج الأحذية الرياضية المناسب عبر الإنترنت. وهذا يعني إعادة تشكيل محتملة لاقتصاد الإعلانات حيث يتنافس المسوقون على انتباه الخوارزميات، وليس على أعين البشر.
علناً، لا يطرح سرينيفاس أي تهديد لأكبر منافس له. قال: "إنها ليست لعبة محصلتها صفر بالنسبة لنا ولـ(جوجل)"، ثم أشار إلى أن "المكون المعلوماتي لدى (جوجل) سيتراجع". إن استمر الناس باستخدام "جوجل" فسيكون ذلك لمساعدتهم على تصفح الشبكة. بالفعل، حوالي ثلث عمليات البحث على "جوجل" هي ببساطة تحوي أسماء مواقع أخرى مثل "تيك توك" أو "فيسبوك". هناك كثير من عائدات الإعلانات التي يمكن استخلاصها من مثل هذه الاستعلامات، لكن هذا ينبئ بمستقبل وضيع للشركة التي تأسست "لتنظيم معلومات العالم".
دبلوماسية تقنية
إن النهج الدبلوماسي لسرينيفاس يمتد إلى ما هو أبعد من الخطابة. بعدما عمل في كل من "أوبن إيه آي" و"جوجل"، بنى قائمة رائعة من المعارف في وادي السيليكون. زار إيلون ماسك شركته في الأيام الأولى وأعرب عن إعجابه بضبط سرينيفاس للتوظيف (لدى الشركة 147 موظفاً اليوم، وفقاً لمتحدثة باسمها). كان لدى "نيفا" 74 موظفاً عندما توقفت عن العمل، حسب "بيتشبوك".
كما استقطب مستثمرين ومنهم جيف بيزوس مؤسس "أمازون"، وعالم الذكاء الاصطناعي الرائد يان ليكون ورئيس هندسة ”جوجل“ الأسطوري جيف دين. قدّم الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غيتهب" (GitHub) والمستثمر في الذكاء الاصطناعي نات فريدمان لشركة "بيربليكسيتي" 380 ألف دولار على شكل رصيد سحابي في "مايكروسوفت أزور" عبر صندوق الذكاء الاصطناعي الخاص به، وكان هذا ذا أهمية بالغة في زمن شح معروض شرائح الذكاء الاصطناعي.
عندما أثار ناشرون مثل "فوربس" مخاوف بشأن نسْب المحتوى في 2024، رد سرينيفاس بجعل التنسيب أبرز وبتطوير شراكات تقاسم إيرادات مع أكثر من 12 ناشراً رئيسياً مثل "تايم" (Time) و"فورتشن" (Fortune) وحديثاً "إندبيندنت" (Independent) و"لوس أنجلوس تايمز" (Los Angeles Times). جاء ذلك برغم دعاوى قضائية رفعتها شركة "داو جونز" وصحيفة "نيويورك بوست"، وإشعار وقف وكف من صحيفة "نيويورك تايمز".
إن تشغيل شركة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في 2024 كان عادةً ما ينتهي بأن تبتلعها عملاقة في مجال التقنية. في العام الماضي، كان مصير ثلاث من أكثر شركات الذكاء الاصطناعي الجديدة الواعدة في وادي السيليكون أن قضمتها شركات أكبر، إذ انضم فريق "إنفليكشن إيه آي" (Inflection AI) إلى "مايكروسوفت"، وذهب قادة "أديبت" (Adept) إلى "أمازون" وانضم المؤسسون المشاركون لشركة "كاريكتر إيه آي" إلى "جوجل".
لكن لدى سرينيفاس فرصة أفضل من معظمهم للبقاء مستقلاً، وقد تكون أكبر ميزاته هي فهمه للاقتصاد السياسي في وادي السيليكون. بصفته متدرباً سابقاً عمل مع مبتكري بنية المحول في "جوجل برين"، فهو يفهم كلاً من الأسس التقنية للذكاء الاصطناعي الحديث وشبكة العلاقات المعقدة في القطاع.
تشير قدرته على الحفاظ على علاقات ودية مع المنافسين ونزع فتيل التوترات مع الناشرين إلى أنه يعرف كيفية خوض تحدٍ طويل الأجل هو منافسة عملاق التقنية. لن تنهار أعمال البحث في "جوجل" بين عشية وضحاها، ولكن سرينيفاس أعطى القطاع أخيراً شخصاً موثوقاً من خارج السرب يمكنه إعادة تشكيل طريقة عثورنا على المعلومات عبر الإنترنت.