عندما أطلقت شركة "أوبن إيه آي" (OpenAI) روبوت الدردشة "تشات جي بي تي" (ChatGPT) في عام 2022، بدا وكأن جيلاً جديداً من أدوات الذكاء الاصطناعي على وشك إحداث ثورة في مختلف جوانب الاقتصاد وحياة الأفراد. وبحلول عام 2024، تم دمج ميزات الذكاء الاصطناعي في عدد لا يُحصى من الخدمات، لكن التأثير الفعلي لهذه الخطوة لم يكن بالحجم الذي كان متوقعاً في البداية.
لم يُسهم الذكاء الاصطناعي في ظهور مهن جديدة حيوية، ولم يقضِ على صناعات بأكملها. على العكس، انسحبت عدة شركات ناشئة بارزة وممولة جيداً من السباق لتطوير نماذج متقدمة من الذكاء الاصطناعي. فيما ركزت الأخبار المتداولة بشكل كبير على الجوانب السلبية لهذه التقنيات، مثل ميلها إلى تعزيز التحيزات الضارة أو تضخيم المعلومات المضللة.
في سبتمبر، بدأت "أوبن إيه آي"، المدعومة من "مايكروسوفت"، بطرح نموذج محدث زعمت أنه قادر على محاكاة التفكير البشري، إذ يمكنه الإجابة على أسئلة المستخدمين الأكثر تعقيداً، مثل حل مسائل الرياضيات المعقدة ومشكلات البرمجة. كما تعمل شركتا "ألفابت" و"أنثروبيك" (Anthropic) على تطوير قدرات مماثلة في منتجاتها. ووصف سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي"، هذا التحديث بأنه "بداية حقبة جديدة".
بالرغم من أن مفهوم التفكير المنطقي يصعب تعريفه وقياسه، إلا أن هدف شركات التكنولوجيا واضح، فهي تسعى إلى إثبات أن أدوات الذكاء الاصطناعي بإمكانها العمل بمثابة "جهات مساعدة" و"وكلاء" متطورين، قادرة على تقديم يد العون للأشخاص في مهامهم الشخصية والمهنية. تأمل الشركات أن تُسهم هذه الابتكارات في تعزيز إمكانات الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل.
ما هو الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
يُعد الذكاء الاصطناعي التوليدي نوعاً من البرمجيات القادرة على أداء مهام معقدة مثل كتابة القصص أو إنشاء الصور، استجابة لأوامر نصية بسيطة. أثناء عملية التدريب، تُغذى هذه الأنظمة بكم هائل من المعلومات (مثل كافة الكُتب المتاحة مجاناً على الإنترنت)، وتُدرب على كيفية استخدام هذه البيانات لصياغة شيء جديد، مثل نص موجز لرواية جديدة.
تستفيد هذه الأنظمة مما تعلمته خلال التدريب في مهامها المستقبلية، مما يجعل استجاباتها أكثر تعقيداً وتفصيلاً بمرور الوقت. ورغم أن النتائج تبدو فريدة وأصلية إلى حد ما، إلا أنها تظل في النهاية شكلاً معقداً من المحاكاة.
لماذا كل هذا الحماس؟
قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي على اكتساب مهارات جديدة بسرعة وتنفيذها بسرعة فائقة تمكّنها من المساهمة في مختلف أنواع الأعمال التي يؤديها البشر حالياً، مثل صياغة العقود القانونية أو تصحيح الأخطاء البرمجية. وحالياً، تعتمد الشركات المدرجة في قائمة "فورتشن 500" على إصدارات مؤسسية من روبوتات الدردشة التي تطورها شركة "أوبن إيه آي" وغيرها من الشركات المنافسة لإتمام مهام مثل تلخيص المستندات وإتمام مهام البرمجة وصياغة رسائل البريد الإلكتروني. أشار بنك "غولدمان ساكس غروب" إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يُنفذ ما يصل إلى ربع الأعمال التي يقوم بها البشر الآن. كما توقع محللو "يو بي إس غروب" (UBS Group) أن تتجاوز قيمة سوق هذه التكنولوجيا التريليون دولار بسهولة.
كيف تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
في عام 2022، كان التركيز منصباً بشكل أساسي على أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تولد النصوص والصور. أما اليوم، فقد تطورت التكنولوجيا لتشمل خدمات ذكاء اصطناعي مستقلة قادرة على نسخ أصوات الأشخاص، وإنشاء أغانٍ في ثوانٍ، أو إنتاج مقاطع فيديو قصيرة. توجه شركات الذكاء الاصطناعي الآن اهتمامها نحو تطوير أنظمة "متعددة الوسائط" يمكنها معالجة أنواع مختلفة من المدخلات مثل النصوص والصور والصوت، والاستجابة لها.
على سبيل المثال، يمكن لأحد أولياء الأمور المحبطين عرض صورة لمسألة رياضية على روبوت دردشة وطلب شرح كيفية حلها. استعرض ديميس هاسابيس، الرئيس التنفيذي لمختبر الذكاء الاصطناعي في شركة "ديب مايند" (DeepMind) التابعة لشركة "غوغل"، نموذجاً أولياً لمساعد ذكاء اصطناعي قادر على التعامل مع المدخلات المرئية في الوقت الفعلي. كما يُدمج الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل كبير في المنتجات الأكثر شعبية، فقد أضافته "غوغل" إلى محرك بحثها الرئيسي، بينما تخطط شركة "أبل" لدمج تكنولوجيا "أوبن إيه آي" في هواتف "أيفون"، مع مجموعة من أدوات الذكاء الاصطناعي الأخرى في وقت لاحق من هذا العام.
ماذا يعني أن يكون الذكاء الاصطناعي قادراً على التفكير؟
على مدار العامين الماضيين، اعتاد مستخدمو "تشات جي بي تي" على تلقي استجابات شبه فورية، بعضها كان دقيقاً والبعض الآخر أقل دقة، لمجموعة متنوعة من الأسئلة. ومع ذلك، سيعمل النموذج الجديد الذي تقدمه "أوبن إيه آي"، والمُسمى بـ"01"، بشكل مختلف إلى حد ما. فقبل تقديم الرد، سيتوقف البرنامج لبضع ثوانٍ، وخلال هذه الفترة سيقوم بتحليل مجموعة من الأسئلة المرتبطة بشكل غير مرئي للمستخدم، ثم يقدم تلخيصاً لما يبدو أنه أفضل إجابة. وتُعرف هذه التقنية أحياناً باسم "سلسلة التفكير".
في منشور على إحدى المدونات، وصفت "أوبن إيه آي" هذا النهج بأنه "التفكير". ووفقاً لاختبارات الشركة، لم يحدث هذا النهج فارقاً كبيراً في الاستفسارات المتعلقة بالكتابة والتحرير، لكنه قدم نتائج أفضل في الأسئلة المعقدة المتعلقة بالبرمجة الحاسوبية وتحليل البيانات وحل المسائل الرياضية.
أشارت الشركة إلى أن "التحديث القادم للنموذج سيؤدي أداءً مشابهاً لطلاب درجة الدكتوراه في المهام الصعبة المتعلقة بالفيزياء والكيمياء والأحياء. ووجدنا أيضاً أنه يتفوق في مجالات الرياضيات والبرمجة. وهذا يمثل تطوراً كبيراً ومستوى جديداً من قدرات الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بمهام التفكير المعقدة".
ما هو التأثير الاقتصادي المحتمل للذكاء الاصطناعي التوليدي؟
لا يزال التأثير الاقتصادي للذكاء الاصطناعي التوليدي غير واضح تماماً. فقد صرح رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، أن هذه التكنولوجيا قد تعزز نمو الإنتاجية، لكن "هذا قد لا يحدث في الأمد القريب". ويتوقع بعض الاقتصاديين قفزة في الإنتاجية تؤدي بدورها إلى زيادات في الأجور، مما يساعد العمال على استعادة جزء من مكاسبهم التي فقدوها منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
وجدت دراسة أجراها باحثون في جامعة ستانفورد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الموظفين في إحدى شركات البرمجيات المدرجة ضمن "فورتشن 500" أصبحوا أكثر إنتاجية بنسبة 14% في المتوسط عند استخدامهم أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، فيما زادت سرعة العمالة الأقل مهارة بنسبة 35%. وما لم يكن واضحاً هو تأثير هذا التطور على زملائهم الأعلى أجراً، الذين قد تصبح مهاراتهم الأكثر تكلفة غير ضرورية بعد الآن.
في سيناريو متفائل، قد يتمكن الموظفون المهرة الذين تتم أتمتة وظائفهم من إيجاد فرص جديدة في مجالات النمو التي يولدها الذكاء الاصطناعي التوليدي. ومع ذلك، تشير العلامات المبكرة إلى نوبة مؤلمة من الاضطرابات. فعلى سبيل المثال، تخطط شركة "إنترناشونال بيزنس ماشينز" (IBM) لوقف أو إبطاء عملية التوظيف لآلاف الوظائف المتوقع استبدالها بالذكاء الاصطناعي. كما أعلنت الشركة السويدية "كلارنا" (Klarna)، التي تقدم خدمة "اشترِ الآن، وادفع لاحقاً"، وقف التوظيف بعدما قلص "تشات جي بي تي" الوقت المطلوب لأداء بعض المهام. وكذلك، قررت شركة "دولينغو" (Duolingo) المتخصصة في تعليم اللغات عدم تجديد عقود حوالي 10% من المتعاقدين، جزئياً نتيجة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
ما هي حدود الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
قد تبدو الإجابات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي التوليدي، استناداً إلى المعلومات المتاحة، موثوقة لدرجة أن المستخدمين قد يعتقدون أنها دقيقة تماماً. ومع ذلك، عندما تكون هذه الإجابات مجردة من السياق المفيد مثل ذكر مصدر المعلومات، ووسط افتقارها للعيوب الواضحة التي غالباً ما تكشف عن انعدام مصداقية المواد، فإنها قد تصبح إجابات مضللة خاصة للمستخدمين الذين ليست لديهم دراية كافية تمكنهم من اكتشاف التحيز أو العيوب أو الأخطاء المحتملة.
ارتكبت روبوتات الدردشة القائمة على الذكاء الاصطناعي أخطاء متكررة عندما طُلب منها أخباراً متعلقة بالأحداث الجارية. كما تميل هذه الأنظمة التوليدية إلى تضخيم التحيزات والصور النمطية المتأصلة في البيانات التي تم تدريبها عليها، وهو تحدٍ كبير عند استخدام هذه التكنولوجيا في مجالات حساسة مثل التوظيف والرعاية الصحية. ومع ذلك، تكافح شركات الذكاء الاصطناعي لمعالجة مشكلة التحيز، فعلى سبيل المثال، حاولت "غوغل" إيجاد حل تقني لإنتاج صور أكثر تنوعاً، لكن هذه الجهود أسفرت عن امتناع الأداة عن توليد صور لأشخاص من ذوي البشرة البيضاء.
ماذا يعني الذكاء الاصطناعي التوليدي بالنسبة للمجتمع؟
مع تقدم أدوات الذكاء الاصطناعي وتطورها المستمر، تزداد معها احتمالات إساءة الاستخدام.
فقد تم إغلاق بعض منصات الذكاء الاصطناعي أو تعديلها لمنعها من نشر خطاب الكراهية، كما يتيح "تشات جي بي تي" للمستخدمين الإبلاغ عن الردود غير اللائقة بهدف تحسين النظام. ومع ذلك، تمكن المستخدمون من إيجاد طرق لتجاوز هذه القيود. إضافة إلى ذلك، قد لا يلتقط الذكاء الاصطناعي التحيزات المتعلقة بالجنس أو العرق التي قد يلاحظها البشر في الكتب أو النصوص الأخرى.
هناك أيضاً مخاوف متزايدة بشأن استغلال الذكاء الاصطناعي في التضليل. فعلى سبيل المثال، استُخدم مقطع صوتي مزيف للرئيس الأميركي جو بايدن تم إنشاؤه باستخدام الذكاء الاصطناعي لحث الناس في ولاية نيو هامبشير على عدم التصويت في الانتخابات التمهيدية الأميركية. كما يشعر المعلمون بالقلق إزاء استخدام الطلاب لروبوتات الدردشة لإكمال فروضهم الدراسية. ومن جهة أخرى، قد تستخدم شركات الضغط السياسي الذكاء الاصطناعي لتزييف آلاف الرسائل المختلفة التي يُفترض أنها من مواطنين للتأثير على قرارات المشرعين.
في رسالة عامة نُشرت في مارس 2023، دعا 1000 خبير تقني وباحثون إلى التوقف عن تطوير الذكاء الاصطناعي لإتاحة وقت أكثر لتقييم "المخاطر العميقة التي تهدد المجتمع والبشرية". ومع ذلك، تواصل الشركات تطوير هذه التكنولوجيا بوتيرة سريعة.