على مدى عامين تقريباً، عملت الصين على كبح جماح أقوى شركات التكنولوجيا الخاصة في البلاد، بما فيها مجموعة "علي بابا غروب" و"تينسنت هولدينغز" و"ديدي غلوبال"، والتضييق على مؤسسيها الأثرياء.
لكن منذ عام 2023، خففت حكومة الرئيس شي جين بينغ من إجراءاتها الصارمة، وأشارت إلى أنها لا تزال تنظر إلى قطاع التكنولوجيا البالغة قيمته تريليون دولار باعتباره جزءاً مهماً من اقتصاد البلاد. مع ذلك، لا تزال شركات التكنولوجيا الكبرى تعاني من ركود، حيث تكافح لتحقيق معدلات نمو تتجاوز 10% من خلال استثماراتها في تقنيات جديدة أو سعيها لتوسيع أعمالها في الخارج بحثاً عن عملاء جدد.
وبينما تؤكد السلطات أنها لن تتسامح مع الحرية المطلقة والثراء السريع أو أنماط الحياة "المترفة" لبعض مليارديرات التكنولوجيا وأتباعهم كما كان في السابق، فإنها ترى أن مستقبل التكنولوجيا الصينية يكمن في الصناعات المهمة بالنسبة لصراعها الجيوسياسي مع الولايات المتحدة، مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، وليس ألعاب الفيديو والأسواق الإلكترونية.
كيف انتهت حملة القمع؟
استأنفت الجهات التنظيمية إصدار تراخيص ألعاب الفيديو لشركتي "تينسنت" و"نت إيز" (NetEase)، وهي شركة عملاقة أخرى عبر شبكات الإنترنت، في عام 2022 بعد فترة توقف طويلة.
كما سمحت لشركة "ديدي"، الرائدة بخدمات النقل التشاركي، في يناير 2023، بإضافة مستخدمين جدد لأول مرة منذ حظر تطبيقاتها عام 2021، بعد إدراجها في بورصة نيويورك دون إذن من بكين.
ثم في يوليو 2023، فرضت تلك الجهات غرامة قدرها مليار دولار على شركة "آنت غروب"، التابعة للملياردير جاك ما، مؤسس شركة التكنولوجيا المالية "علي بابا"، منهية بذلك تحقيقاً دام لثلاثة أعوام. وكان هذا التحقيق بمثابة نقطة انطلاق حملة الحكومة للسيطرة على شركات التكنولوجيا الأكثر تأثيراً في البلاد وكبح نفوذ رواد الأعمال الأثرياء.
بعد أيام، نشرت الهيئات المسؤولة عن صنع القرار في البلاد بياناً يدعو إلى إحياء القطاع الخاص، وهو ما لاقى تأييداً سريعاً من قبل بوني ما، المؤسس المشارك لشركة "تينسنت"، ونظيره لي جون.
وأعلنت "علي بابا" في نوفمبر من العام الماضي أنها تراجعت عن خطتها لتقسيم الشركة إلى ستة أجزاء منفصلة ومستقلة إلى حد كبير، وهي خطوة كانت من شأنها تحقيق هدف بكين المتمثل في تقليص حجم عملاق التكنولوجيا.
ماذا حدث هذا العام؟
أصدرت السلطات في بكين تصريحات إضافية لدعم الشركات الخاصة وقطاع التكنولوجيا.
ففي أغسطس 2024، أعلنت الهيئة التنظيمية لمكافحة الاحتكار أن "علي بابا" تخلت عن ممارساتها الاحتكارية المزعومة. تبع ذلك، إصدار "علي بابا" تصريحاً في سبتمبر توضح خلاله بأنها ستتيح لمئات الملايين من المتسوقين خيار استخدام خدمة "وي شات باي" (WeChat Pay) التابعة لشركة "تينسنت" عند الدفع، ما يتيح لهم الوصول إلى أشهر خدمات الدفع الإلكتروني في الصين لأول مرة. وهذا القرار أزال أحد آخر العوائق الكبيرة بين بيئات الأعمال المتنافسة عبر الإنترنت، والتي كانت موضع انتقاد حكومي على مدار سنوات.
هل يمكن أن يستعيد عمالقة التكنولوجيا في الصين جموحهم؟
على الأرجح لا، خاصة أن الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والقبضة الحديدية على الاقتصاد يعدّان هدفين رئيسيين للحزب الشيوعي الحاكم، ومن غير المرجح أن يتغير هذا قريباً. ويقول المحللون والمستثمرون إن الجهات التنظيمية نجحت، وإن كان بوحشية، في إعادة فرض سلطتها الرقابية، والحد من تفاخر مليارديرات قطاع التكنولوجيا وتأثيرهم على المجتمع.
كثير من مخاوف بكين تتعلق بمئات الملايين من المستخدمين الذين لا يزالون يعتمدون على "علي بابا" للتسوق، و"تينسنت" للتواصل الاجتماعي وأنماط الحياة، و"آنت" للمدفوعات والتمويل. وكل هذا النشاط ينتج كميات هائلة من البيانات التي تعزز بدورها هذه المنصات. وأحكمت بكين قبضتها على هذه الشركات وأوضحت أن أي مبادرات جديدة يجب أن تتوافق مع أولوياتها، وهذا يعني مزيداً من الأبحاث في التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وأشباه الموصلات المتطورة، على حساب تطبيقات البث المباشر.
لذا، فإن إعلان كل شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى، بدءاً من "بايدو" (Baidu) إلى "تينسنت"، بتوجيه جهودها لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي تنافس (أو تتفوق على) "تشات جي بي تي" المقدم من "أوبن إيه آي" (OpenAI)، ليست مصادفة، بل هو مزيج من العمل التجاري والسياسي الضروري بالنظر إلى طبيعة التحول المتسارعة للتكنولوجيا.
أين الخطوط الحمراء؟
هناك عدة خطوط حمراء واضحة، إذ يسود حذر مستمر تجاه الاستثمار الجامح والممارسات التنافسية الشرسة التي ميزت معظم القطاع قبل عام 2021، بدءاً من تطبيقات النقل التشاركي إلى توصيل الطعام والتجارة الإلكترونية. كما اتخذت الجهات التنظيمية خطوات استباقية فريدة لفرض ضوابط على التقنيات الحديثة، من تقنيات التزييف العميق إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي. كما اتخذت إدارة الفضاء السيبراني البيانات والأمن القومي كذرائع رئيسية للتحقيق مع شركة "ديدي"، والآن تفرض مراجعة دورية لأمن البيانات على كافة الشركات الكبرى التي تسعى لإدراج أسهمها في الخارج.
بشكل أوسع، تلقي إدارة الرئيس شي باللوم في اتساع الفجوات الاجتماعية جزئياً على طفرة الإنترنت، خاصةً في عصر جائحة كورونا، كما أنها تتحرك لمعالجة أي استياء عام قد يهدد سلطتها. وهذا أسفر عن إطلاق برنامج "الرخاء المشترك"، الذي يوجه أنشطة العديد من قادة القطاع، الذين تعهدوا بمعاملة موظفيهم بشكل أفضل والتبرع بمليارات الدولارات للأعمال الخيرية.
ونتيجة لذلك، يستمر حظر محاولات جمع الثروة أو الإضرار بالمنافسين، سواء من خلال خفض الأسعار بشكل غير عادل أو إجبار التجار على صفقات حصرية، وهو جانب رئيسي في تحقيقات مكافحة الاحتكار.
هل تستعيد الشركات مستوياتها السابقة قبل حملة القمع؟
يبدو هذا الأمر غير مرجح. فقبل عام 2020، أسفرت سياسة بكين المتساهلة تجاه قطاع التكنولوجيا عن ظهور مليارديرات وشركات عملاقة بوتيرة مذهلة، لدرجة دفع البعض إلى مقارنتها بوادي السيليكون. وبلغ إجمالي القيمة السوقية لشركات "علي بابا" و"تينسنت" و"آنت" أكثر من تريليوني دولار في ذلك العام، متجاوزةً بسهولة الشركات العملاقة المملوكة للدولة، مثل بنك "إندستريال آند كوميرشال بنك أوف تشاينا" (Industrial & Commercial Bank of China)، لتصبح أكثر الشركات قيمة في البلاد.
مع ذلك، بدأ الارتفاع الذي دفع مؤشر "هانغ سنغ تك" في هونغ كونغ، وهو مقياس لأكبر شركات البر الرئيسي الصيني، إلى أعلى مستوياته منذ إنشائه في الانهيار خلال فبراير 2021، ما أدى إلى محو أكثر من تريليون دولار من القيمة السوقية لتلك الشركات آنذاك.
خسرت "علي بابا" أكثر من 600 مليار دولار من قيمتها السوقية منذ بدء حملة مكافحة الاحتكار في 2020، بينما فقدت "تينسنت" 500 مليار دولار منذ يناير 2021. وتعافيتا من أدنى مستوياتهما في 2022، لكنهما لا تزالان أقل بكثير من ذروتهما السابقة.
ماذا حل بمليارديرات التكنولوجيا في الصين؟
دافع البعض، مثل بوني ما ولي جون، رئيس شركة "شاومي" (Xiaomi)، علناً عن موقف بكين الجديد.
أما جاك ما، فقد تخلى عن حقوق التحكم في شركة "آنت" وابتعد عن الأضواء، بينما يُنظر إلى مذكرة صاغها في نوفمبر 2023 باعتبارها إشارة إلى عودته التدريجية إلى الحياة العامة.
كما تنحى العديد من زملائه المليارديرات، بمن فيهم تشانغ يي مينغ، مؤسس شركة "بايت دانس" (ByteDance)، وكولين هوانغ، المؤسس المشارك لشركة "بي دي دي هولدينغز" (PDD Holdings)، عن أدوارهم النشطة في شركاتهم. وأصبح هوانغ أغنى شخص في الصين لفترة وجيزة هذا العام، ما يبرز مدى تقهقر شخصيات مثل جاك ما.