بينما انهمك مليارات المستهلكين في مشاهدة البرامج التلفزيونية خلال الوباء، كان هناك شكل خبيث من أشكال الاحتيال يحاك لاستغلالهم بهدوء.
وبالرغم من إنفاق شركات التسويق ملايين الدولارات للوصول إلى الجماهير التي تسمرت أمام أجهزة التلفاز المتصلة بالإنترنت، إلا أن بعض هذه الأموال ينتهي بها المطاف في جيوب محترفي الاحتيال.
فقد ابتكر هؤلاء المحتالين لعبة معقدة يصعب كشفها، كونها تلحق نوعاً من الاضطراب من حيث أماكن ظهور الإعلانات، وتعيينها في المكان المناسب.
حيث يعمل محول رقمي على تحويل الإعلانات المخصصة لشاشات التليفزيون الكبيرة عالية الدقة إلى منصات أقل تكلفة، مثل الهواتف الذكية، بحيث يتمكن اللصوص في هذا المجال من سرقة فارق السعر بين الإعلان على المنصات المختلفة.
وكان جو بارون، الشريك الإداري في وكالة "غروب إم" الإعلانية، قد شهد ذلك الاحتيال عن كثب العام الماضي خلال حملة تسويقية لعميل أراد أن تظهر رسائله على أجهزة التلفاز الذكية.
ولكن بدلاً من ذلك، علم لاحقاً أنه تم عرض الإعلان على أحد تطبيقات الألعاب، والذي يتم تشغيله عادةً على الأجهزة المحمولة.
ويقول بارون: "كانت نسبة كبيرة من عدد مرات ظهور الإعلان تتم على لعبة "سوليتر".
ولكن قلة قليلة من الأشخاص يلعبون "سوليتر" على تليفزيون ذو شاشة كبيرة بحجم 50 بوصة".
زيادة الطلب على إعلانات التليفزيونات الذكية
وتعد أجهزة التلفاز المتصلة بالإنترنت من الأصول المستهدفة بالتسويق بشكل رئيسي نظراً لأن الشاشات الكبيرة تجذب انتباه المشاهدين بشكل أكثر فاعلية من الهواتف الذكية ذات الشاشات الأصغر.
كما أنه ينبغي استعراض بعض المساحات الإعلانية قبل ظهور البرنامج التليفزيوني، مما يضمن لفت انتباه المشاهد إلى حد بعيد.
ومن ثم، تقوم أجهزة التلفاز بإصدار كميات متزايدة من البيانات حول سلوك الجمهور للسماح باستهدافٍ أفضل للإعلانات، ورفع أسعارها، وكذا إتاحة أموال أكبر لأولئك الذين يمكنهم خداع النظام.
وبحسب وكالة "غروب إم"، أحد شركات تخطيط وشراء الإعلانات في مجموعة "دبليو بي بي" (WPP) ومقرها لندن، فقد ازدادت معدلات الإعلان عبر أجهزة التلفاز الذكية بنسبة 7.4% خلال العام الماضي لتصل إلى 12 مليار دولار. وهو الأمر الذي جعلها أكثر استهدافاً لعمليات الاحتيال.
التلاعب في البيانات
ويقول سكوت طومسون، كبير مسؤولي التشغيل في شركة "ميثود ميديا إنتليجينس" المختصة بالتحقق من الإعلانات: "الغش في هذا المجال، يشبه توصيل البيتزا إلى حي فخم، ولكن ليس بالضرورة مباشرة إلى باب أحد العملاء المهمين. وبالتالي يصبح غير ممكن لمورّد تلك البيتزا أن يتتبعها عندما يحصل حارس الحي على البيتزا، حيث لا يمكنه معرفة إذا ما حصل عليها العميل المستهدف".
ومن هنا، يتأثر جميع المعلنين الذين يستخدمون الأجهزة والخوارزميات لشراء مساحات إعلانية على أجهزة التلفاز المتصلة بالإنترنت.
ويقدر كاميرون ثورن، أحد المديرين في شركة "ميثود ميديا إنتليجينس"، أن ما بين 5% إلى 80% من البيانات المنهجية الخاصة بالتليفزيونات الذكية والمتاحة للمعلنين في يوم معين، هي بيانات يمكن التلاعب بها.
وتواصل الدولارات بالاختفاء من النظام، فيما يخشى المسؤولون التنفيذيون من عدم تحقيق الكثير من العائدات على الاستثمار.
وتقول شركة "ميثود ميديا إنتليجينس" إن عدد مرات ظهور الإعلانات المزيفة عبر أجهزة التلفاز الذكية التي اكتشفتها شركة "دبل فيريفاي" لاعتماد صحة بيانات الإعلانات عبر الإنترنت، تجاوز العام الماضي بثلاثة أضعاف وأصبحت الآن بمئات الملايين.
وكشفت "دبل فيريفاي" عن وجود أكثر من 500 ألف جهاز تلفزيون وهمي متصل بالإنترنت يومياً.
ويقول روي روزنفيلد، نائب الرئيس الأول لإدارة المنتجات في "دبل فيريفاي": "لم يسبق لنا مطلقاً تحديد هذا العدد الكبير من الهجمات المختلفة من حيث تزوير الإعلانات في مثل هذا المجال المحدود من الوسائل الإعلامية".
إهدار أموال الإعلانات
وعلى الجانب الآخر، فإن الاحتيال في مجال الإعلانات ليس جريمة بلا ضحايا، حيث تهدر العلامات التجارية ميزانيات الوسائط وتتآكل الثقة في النظام، ومن ثم يضطر الناشرون المتميزون إلى تقاضي رسوم أقل مقابل المحتوى الذي أنفقوا مليارات الدولارات على إنتاجه.
ويشكل مرتكبو تلك الجريمة مجموعة أكثر تنوعاً من الصورة النمطية لمجرمي الإنترنت العاديين. فقد تم رصدهم في كل مكان من الصين إلى أوروبا الشرقية والولايات المتحدة، ولم يكونوا دائماً قراصنة يقبعون في غرف مظلمة.
وأضاف روزنفيلد: "أحياناً يكونون عاملين في شركة إعلامية تسعى لإعداد تطبيقات تليفزيونية ذات محتوى فريد ولكنها لم تنجح، ولا يزال يتعين عليها تغطية نفقاتها. وسرعان ما تبدأ في التدهور واللجوء إلى الأساليب المريبة في البداية، والتي تتضح أنها عمليات احتيال إعلاني بعد فترة".
فرص للاحتيال
يتضمن شراء الإعلانات الرقمية ست أو سبع خطوات، حيث تقوم العشرات من الجهات بطلب عروض الأسعار وتقديمها وتصنيفها وتجميعها، ثم تقدم معلومات حول من شاهد الإعلان من الجماهير ومدة المشاهدة.
وهكذا تحجب سلسلة التوريد تلك الرابطة بين البائع والمشتري النهائي، وتتيح الفرصة أمام المحتالين للتلاعب بالنظام.
كما أن صعوبة معرفة من يشاهد ماذا على التلفاز يُمَكِن لهذا النوع من الاحتيال بالانتشار.
ويعد حساب عدد المشاهدات على الهواتف المحمولة أمراً سهلاً، نظراً لوجود نظامين فقط من أنظمة تشغيل الأجهزة المحمولة، وهما "IOS" التابع لشركة "آبل" أو نظام "أندرويد" الخاص بشركة "ألفابيت".
وعلى النقيض من ذلك، هناك ما يصل إلى 50 طريقة مختلفة لقياس المشاهدات عبر الشركات المصنعة للتليفزيون والمنصات المختلفة، وفقاً لوكالة "غروب إم". وهو الأمر الذي يجعل إخفاء طلبات الإعلانات الزائفة أسهل.
ويمكن للمحتالين أيضاً تحريف هوية وموقع المشاهد، أو المبالغة في عدد المشاهدات الحقيقية، وهو ما يعرف في الصناعة بعدد مرات ظهور الإعلانات (Impressions).
وتتمثل إحدى الطرق في سرقة أو تقليد عملية يطلق عليها "إدراج إعلان من جانب الخادم" بحيث يتم دمج الإعلانات التجارية داخل البرنامج التليفزيوني الذي تتم مشاهدته، من خلال القيام أولا بإعداد أجهزة التعقب الرقمية التي تشير إلى مشاهدات الإعلان عبر التلفاز، ثم نسخ عناوين الإنترنت للمستخدمين الحقيقيين قبل إرسال طلبات إعلان مزيفة. وهذه الإعلانات لا يتم مشاهدتها على الإطلاق.
وفي الحالة التي وصفها بارون من وكالة "غروب إم" الإعلانية، استخدم المحتال خادماً لإعادة إرسال إشارة مزيفة بدت وكأنها توفر مساحة للإعلانات عبر أجهزة التلفاز الذكية.
وفي البداية، فشل مشترو الإعلانات في ملاحظة الخدعة، وتم عرض الإعلان على الهواتف المحمولة، ووسط سلسلة من المدفوعات المتتالية بين سلسلة من الوسطاء، أخذ المحتال حصته بهدوء.
وبمجرد أن يجد المحتالون طريقة ناجحة، يتوسعون في استخدامها بسرعة. فعندما اكتشفت شركة مكافحة الاحتيال الرقمي "وايت أوبس" مخططاً أطلق عليه "آيس باكيت"، قال ديميتريس ثيودوراكيس، مهندس في الشركة، "ما يقرب من 30% من حركة مرور أجهزة التلفاز الذكية هي في الواقع متلاعب بها".
ووفقاً لشركة "دبل فيريفاي"، فإن أحد مخططات الاحتيال، والذي عرف باسم "باروت تيرا" وتم اكتشافه في يناير، كان يقوم بتزييف 3.7 مليون جهاز يومياً، وكان يستهدف سرقة ما يصل إلى 50 مليون دولار من المعلنين والناشرين.
وكان من شأن ذلك أن يجعل حجمه ثلاثة أضعاف مخطط "ستريم سكام"، الذي تم رصده قبل أسابيع وحصد 14.5 مليون دولار.
وتعد المشكلة أكثر تعقيداً بكثير من الموجة السابقة للإعلانات الاحتيالية الرقمية التي ظهرت قبل أكثر من عشر سنوات، عندما ولَّد المجرمون المليارات من النقرات المزيفة على الإعلانات عبر الإنترنت.
ويمكن مقارنة النقرة المزيفة بنقرة حقيقية، لكن عدد مشاهدات الإعلان يبقى مجهولاً، مما يجعل من الصعب تحديد العدد الوهمي.
لعبة عشوائية
يمكن لشركات مكافحة الإعلانات الاحتيالية كشف المخططات عن طريق مسح المعلومات، مثل مكان عرض الإعلان أو عدد أجهزة التلفاز الذكية في منزلٍ واحد، بحثاً عن إشارات غير عادية.
إذا كان أحد المنازل يعرض 20 جهاز تلفزيون متصل بالإنترنت، فمن المحتمل أن تكون عملية احتيال.
ومن جانبها، تتعاون شركات الإعلام أيضاً في محاولة لتبسيط وتوحيد إشارات الإعلانات الصادرة عن منصات أجهزة التلفاز المتصلة بالإنترنت، وتعقيد تقليد العلامات على معايير مثل عرض البيانات.
ووفقاً لما قالته، ليزا أوتزشنايدر، المدير التنفيذي لشركة "إنتيغرال آد ساينس" لمكافحة الاحتيال، لـ"بلومبرغ"، فإن الشركة بصدد الإعلان عن استراتيجية جديدة خاصة بأجهزة التلفاز الذكية قريباً.
كما أن الشركة قامت مؤخراً باستقطاب مؤسس شركة "هولو"، توم شارما، مراهنة ًعلى خبرته في مجال عمل التلفاز المتصل بالإنترنت.
وقال ثيودوراكيس إنه من المستحيل القضاء على الاحتيال تماماً، لذا فإن الهدف هو جعل العملية أكثر تعقيداً وتكلفة للغاية بالنسبة للمجرمين لانتحال أو إرسال إشارات وهمية، بحيث تصبح عمليات الاحتيال لا تستحق كل هذا العناء.
بينما قال بيت كيم، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لوكالة الإعلانات الرقمية "مايتي هايف": "تعد الإعلانات الاحتيالية بمثابة لعبة عشوائية أبدية ذات طابع تقني استثنائي. ولكن المخاطر أصبحت أكبر بكثير".