ذات يوم فعلْتُ ما لم أفعل منذ سنوات، وتصفحت موقع "فيسبوك". وأعني بذلك أني ألقيت نظرة فاحصة عليه. ويا للمفاجأة المؤسفة، ما كل هذه الفوضى! كنت كمن يتجول في مدينة ملاهٍ مهجورة تمتلئ بالأفكار التي أُسيء تنفيذها.
هل تستطيع أن تسمي شخصاً واحداً وجد الحب عن طريق خدمة المواعدة "فيسبوك ديتينغ" (Facebook Dating)، وهي الخدمة التي أطلقت بهدف منافسة موقع "تيندر" (Tinder)؟ وهل عرفت من يشاهد خدمة البث "فيسبوك ووتش" (Facebook Watch)، التي يفترض أنها تنافس "نتفليكس" (Netflix)؟ وماذا عن بوابة الألعاب "فيسبوك غيمينغ" (Facebook Gaming) التي وصفت ذات يوم بأنها غزوة "فيسبوك" في عالم الألعاب السحابية، ومحاولة لمنازلة منصتي البث "تويتش" (Twitch) و"يوتيوب" (YouTube)؟ وهي اليوم تمتلئ بالعناوين الرديئة منخفضة الجودة التي لا تقدم للاعب ما يزيد كثيراً عما تقدمه تطبيقات الألعاب العادية المعروفة باسم "فروت ماشين" أو آلة الفاكهة. حتى بعض أكثر الأفكار شيوعاً يلزم مشاركتها مع ملصقات التحذير، إذ ينتشر المحتالون في كل مكان على سوق "فيسبوك" (Facebook Marketplace).
مقبرة التطبيق الأزرق
من حسن حظ مارك زوكربيرغ أن أقساماً أخرى في شركة "ميتا بلاتفورمز" –العلامة التجارية الجديدة التي اختيرت حتى تعبر عن رؤيته لمستقبل الشركة– تحقق نجاحاً مذهلاً ومثيراً بما يسمح للأقسام الفاشلة فيها بأن تختبئ داخل قائمة التجول المزدحمة بطريقة هزلية على تطبيق "فيسبوك" الرئيسي. وعلاوة على ذلك، استمرت معدلات استخدام خدمة "فيسبوك" الرئيسية –المعروفة داخل الشركة باسم التطبيق "الأزرق"– بشكل قوي على مدى 20 عاماً. وقالت الشركة إنها استطاعت جذب 3.07 مليار مستخدم نشط شهرياً كما يظهر في أرقام الربع الأخير، وعلى الرغم من ذلك، تجدر ملاحظة أن "ميتا" أعلنت أنها لن تنشر تحليلاً بهذه الأرقام بعد ذلك في التقارير القادمة.
اقرأ أيضاً: القيمة السوقية لـ"ميتا" و"أمازون" تقفز 270 مليار دولار بعد زيادة الأرباح
يجدر التفكير بمقبرة التطبيق الأزرق، وما تمثله، مع دخول الشركة عامها الحادي والعشرين بتقييم قياسي مرتفع يزيد عن تريليون دولار.
يعتبر المستثمرون زوكربيرغ عامل النجاة من العواصف، بعدما تغلب على مخاوف التحول إلى الهاتف المحمول، وعلى مخاوف من أن تتسبب تعديلات الخصوصية في شركة "أبل" في ضرب نموذج عملها للإعلانات المستهدفة، التي شكلت 97.8% من إجمالي إيراداتها في عام 2023.
نضوب أفكار زوكربيرغ
غير أن الهجوم الأشد خبثاً على زوكربيرغ منذ فترة طويلة هو أنه افتقر إلى أي أفكار جديدة خاصة به منذ تطويره للتطبيق في المقام الأول، في وقت أن ذلك نفسه محل خلاف، كما هو معروف.
فعندما وجد أن تطبيق مشاركة الصور الواعد "إنستغرام" يحقق انتشاراً وقبولاً واسعاً سارع إلى شرائه، وقال في رسالة إلكترونية آنذاك إنه لو لم تستطع الشركة القيام بذلك، فربما أصبح الوضع "مخيفاً حقاً".
كذلك قام بشراء تطبيق المراسلة "واتساب" في وقت لاحق، عندما بدا أن هذا التطبيق يكتسب موطئ قدم في طريقة التواصل بين الشباب، لاسيما خارج الولايات المتحدة. حتى التقدم في مشروع "الميتافيرس"، الذي يعتبر منذ فترة طويلة هو المشروع الشخصي اللصيق بمارك زوكربيرغ، جاء عبر نفس النافذة المباشرة والبسيطة، بفضل استحواذه على شركة "أوكيولاس في آر" (Oculus VR).
وعندما لا يستطيع الاستحواذ على تطبيق، فإنه يقلده. ويعتمد هذا التقليد على قوة الشبكة وقد اعتمد هذا النهج على تأثير الشبكة الحالية التي تضم "فيسبوك" و"إنستغرام"، حتى يتحقق النجاح للبرامج المستنسخة بالقوة. وليس أفضل على ذلك مثالاً من تطبيق "إنستغرام ريلز" (Instagram Reels)، وهو نسخة "ميتا" المقلدة من تطبيق "تيك توك" (TikTok) التي لم تقدم قيمة ابتكارية تذكر، وقد تتلاشى تماماً من دون أن تترك أثراً إذا طرح التطبيق بوصفه تطبيقاً مستقلاً. غير أنه في الفترات القليلة الأخيرة كان القاطرة الرئيسية في نمو حجم المشاركة عند "ميتا" بفضل حقيقة أن مليارات الأشخاص يستخدمون "إنستغرام" فعلاً.
انهيار المشاريع الجريئة
كان هذا النهج جيداً وصالحاً في الأعوام العشرين الأولى. غير أن هناك دلائل على أن زوكربيرغ ربما ليس جاهزاً ولا مستعداً للتحدي الذي يواجهه حالياً.
وتتحدث مقبرة التطبيق الأزرق عن سجل حافل بالخطوات الرجعية غير الحكيمة. فقد انهارت المشاريع التي اتسمت بالجرأة أكثر من غيرها، مثل الرغبة في تطوير عملة مشفرة. ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى سمعة "ميتا" السيئة عند الجهات التنظيمية، فيما يمكن أن نرد سمعتها السيئة بين الجمهور إلى فشل خدمة الفيديو، "بورتال" (Portal)، في الانطلاق على الرغم من تفوقها من الناحية التقنية.
كشف ظهور زوكربيرغ المتواضع أمام مجلس الشيوخ في وقت سابق من هذا الشهر، أنه لا يزال يتعرض للتشهير والاستهجان بسبب أخطاء الشركة بشأن السلامة، لاسيما في ما يتعلق بكيفية استخدام الأطفال لتطبيقاتها، وربما أنه لا يدرك تماماً حجم الغضب.
وعلى الرغم من اعتباره "البطل العائد" وسط شركات التكنولوجيا العملاقة، بعد أن استرد سعر السهم عافيته عقب تدهوره في عام 2022، قد لا يستطيع زوكربيرغ مواصلة نسخ واستخدام نفس الطرق القديمة للخروج من المشاكل. فالتهديد التالي لشركة "ميتا" لا يتمثل في تطوير تطبيقات اجتماعية يستطيع أن يستنسخها بسهوله، وإنما في نماذج جديدة تماماً في الحوسبة والكمبيوتر.
تحديات صعبة
إذا نظرنا إلى الأجهزة، يصبح واضحاً تماماً، على الرغم من حماسي الشخصي، أن شركة "أبل" صنعت فجوة في الجودة بين سماعتها "فيجن برو" وسماعة "ميتا كويست" (Meta Quest).
وفي حين تزعم شركة "ميتا" أنها قادرة على صناعة سماعة للرأس فائقة الجودة تكلف ما يزيد على 3 آلاف دولار إذا أرادت ذلك، فالحقيقة أنها لن تفعل ذلك لأنها لن تجد مستهلكين يبدون اهتماماً بشرائها.
وحالياً، ربما تتوفر الفرصة أمام سماعة الرأس الاقتصادية لفترة من الوقت (كما قلت) ولكن لا يبدو محتملاً أن تتغلب "ميتا" على "أبل" في المنافسة في مجال الأجهزة على المدى الطويل. لكن إن حدث وخسرت "ميتا" في المنافسة على صعيد الأجهزة، فإنها ستخسر أيضاً على صعيد النظام البيئي الذي ستعتمد عليه منصة الحوسبة التالية.
اقرأ أيضاً: نظارة "أبل فيجن برو" يعاد بيعها بـ5000 دولار خارج الولايات المتحدة
وفي الذكاء الاصطناعي، يعد نهجها مفتوح المصدر لتنمية نموذجها اللغوي الكبير، (LLaMA)، ميزة مختلفة تثير الارتباك في مواجهة الأنظمة المغلقة التي طورتها شركتا "أوبن إيه آي" (OpenAI) و"أنثروبيك" (Anthropic) وغيرهما.
ولكنها قايضت ذلك بعناصر التحكم والسرعة وإمكانية تحقيق دخل من ورائه. إذ يصعب أن تبيع "ميتا" خدمة الذكاء الاصطناعي عندما تكون التكنولوجيا الأساسية التي تقوم عليها متاحة لأي شخص لاستخدامها. وعلى الرغم من أن لدى الشركة فرصة كبيرة لإضافة ميزات الذكاء الاصطناعي إلى نجاحاتها الحالية، فإنها ستتحمل تكاليف حوسبة عالية مع عدم وجود طريقة واضحة لكسب المال في المقابل من مليارات المستخدمين على تطبيقات "ميتا"، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن هذه الميزات مجانية.
استنساخ النجاح لم يعد ممكناً
لا توجد طريقة سهلة لاستنساخ نجاح الآخرين. ولم يعد ذلك ممكناً. فهذه الابتكارات بالتأكيد ليست مما يمكن لمهندسي "ميتا" إنجازه في بضعة أشهر، كما فعلوا مع خدمة "ثريدز" (Threads)، التي تستنسخ "تويتر".
ولا تستطيع "ميتا" أن تبدأ في جولة تسوق للاستحواذ على تطبيقات جاهزة، إذ أوضحت الجهات التنظيمية أنها ستدقق في أي صفقة تنعقد (وقد مررت للتو بصعوبة بالغة صفقة حديثة صغيرة للاستحواذ على شركة ناشئة للياقة البدنية).
وبدون منصة للحوسبة السحابية، لا تستطيع "ميتا" إغراء الشركاء بالانضمام إليها مقابل توفير قوة الحوسبة عزيزة المنال، مثلما فعلت "مايكروسوفت" و"أمازون" و"غوغل".
باختصار، يتعين على زوكربيرغ وفريقه أن يبتكروا لأنفسهم. وتُظهر مقبرة التطبيق الأزرق إلى أي مدى قد يكون ذلك صعباً، فتلك الرهانات القادمة مكلفة للغاية، ولن يستطيع إخفاءها على موقعه على الإنترنت إذا لم تنجح.