في عام 2011، عندما دمر زلزال توهوكو وتسونامي اليابان، غمرت مياه المحيطات مصانع شركة "رينساس إلكترونيكس" (Renesas Electronics) اليابانية، وتوقف الإنتاج في المنشآت الغارقة. وبالطبع، لم تُشكل هذه العواقب ضربة كبيرة للشركة فحسب، بل شكل التسونامي ضربة مدمرة لصناعة السيارات اليابانية بالكامل، والتي كانت تعتمد بشكل كبير على "رينساس" في أعمالها.
وفي ظل غياب وجود الرقائق الإلكترونية اللازمة لتصنيع كل شيء بدءاً من الإرسال إلى شاشات اللمس، اضطرت شركات صناعة السيارات "هوندا" و"نيسان" و"تويوتا" إلى إغلاق أو إبطاء الإنتاج لعدة أشهر. وتعهدت هذه الشركات بعد هذه الحادثة بالابتعاد عن مخاطر الاعتماد في التصنيع على مورد واحد للمكونات الرئيسية مستقبلاً.
وبعد عقد من الزمان، وجدت صناعة السيارات العالمية نفسها في مأزق مماثل تقريباً، لكن العامل المحفز للانهيار هذه المرة هو كارثة طبيعية ذات طبيعة انتشار أبطأ، ألا وهي جائحة كورونا. شاهد عالم السيارات كيف أدى الوباء إلى تعطيل سلسلة إمداد صانعي الإلكترونيات، وهي التي تُشكل أدمغة السيارات الحديثة. كما جعل صانعي السيارات، الذين لطالما تجنبوا الاحتفاظ بمخزونات مكلفة من قطع الغيار، يتدافعون لتأمين تلك المكونات عند انتعاش المبيعات من جديد.
وتتوقع شركة الاستشارات الأمريكية "أليكس بارتنرز" (AlixPartners) أن يؤدي نقص مكونات السيارات إلى خسارة تزيد عن 14 مليار دولار في إيرادات الربع الأول من العام الحالي، وما يقرب من 61 مليار دولار من الخسائر لعام 2021 بأكمله.
ويقول تور هوغ، مؤسس شركة "إلم أناليتكس" (Elm Analytics)، وهو مستشار صناعي، إن صناعة السيارات مرتبطة بمفهوم "التصنيع المرن"، مضيفاً: "تحولت الصناعة إلى هذا الوضع نتيجة فكرة الإدارة قصير المدى والتي تفكر بالأسبوع المقبل أو الشهر المقبل".
ولم يقتصر ضرر الوباء على سلاسل التوريد فقد بالنسبة لصناعة السيارات. فقد أجبر الوباء مصانع السيارات على تنفيذ الإغلاق الأوسع نطاقاً في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية. فضلاً عن إغلاق صالات العرض في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى دخول المبيعات في حالة مزرية. لكن الطلب سرعان ما عاد بشكل أسرع من المتوقع بعد تخفيف القيود وإعادة فتح المصانع الصيف الماضي.
وفي الواقع، توجه المستهلكون حول العالم لشراء سيارات الدفع الرباعي، وسيارات السيدان، والشاحنات الصغيرة، بتحفيز من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية ومخاوف الازدحام في مترو الأنفاق أو الحافلات. وفي أيام الراهنة، يمكن النظر للسيارات كأجهزة كمبيوتر على عجلات، إذ تمثل الإلكترونيات حوالي 40% من قيمة السيارة.
وفي الوقت الذي أدرك فيه موردو قطع السيارات بدء نفاد العشرات من المعالجات الدقيقة اللازمة لكل سيارة، كانت شركات صناعة الرقائق منهمكة في تصنيع المعدات اللازمة للهواتف المحمولة ووحدات التحكم في الألعاب وأجهزة الكمبيوتر التي كان يشتريها المتسوقون بجنون.
وتفاقمت المشاكل بسبب القوة الفائقة التي تتمتع بها شركة واحدة، وهي شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات (Taiwan Semiconductor Manufacturing Company)، التي استحوذت على 56% من عائدات تصنيع الرقائق العالمية في الربع الأخير من عام 2020، بحسب شركة الأبحاث "ترند فورس".
ومع ذلك، نادراً ما يشتري صانعو السيارات مباشرة من شركة "تايوان"، بل إنهم يشترون معظم الإلكترونيات من موردين غالباً ما يستعينون بمصادر خارجية لتصميم وتصنيع الرقائق إلى المتاجر التي تركز على السيارات، مثل شركة أشباه الموصلات الهولندية "إن إكس بي" (NXP Semiconductors NV) و"إنفينيون تكنولوجيز" (Infineon Technologies AG). وجدير بالذكر أن هذه الشركات تُصنع بعض الأجزاء محلياً، لكنها تستأجر أيضاً خدمات من شركة "تايوان" لصناعة أشباه الموصلات للتعامل مع الكثير من إنتاجها.
ووفقاً لجيف بو، وهو محلل الأوراق المالية لدى شركة "جي إف سيكيوريتيز"، فبالرغم من أن احتياجات صناعة السيارات تعتبر هائلة، إلا أنها ضئيلة بالمقارنة مع عمالقة المنتجات الإلكترونية الاستهلاكية، مثل "آبل" و "سامسونغ" و"سوني"، التي تستعد لدفع المزيد مقابل الرقائق، لضمان وصول أجهزتها إلى السوق في الوقت المناسب، إلا أن صانعي السيارات أقل ميلاً للقيام بذلك.
وبدأت مشاكل التوريد بصناعة السيارات في الظهور قبل أيام قليلة من عيد الميلاد، عندما أعلنت شركة "فولكس واجن" أنها تستعد لتعطل الإنتاج بسبب نقص أشباه الموصلات. وبعد ذلك قالت شركتا "روبرت بوش" و"كونتننتال" إنهما خاطرا بالتأخر في تأمين أشباه الموصلات، ثم أكدت "نيسان موتور" أن نقص الرقائق سيجبرها على تقليص تصنيع سيارتها "نوت هاتشباك".
وبعد ذلك، ظهرت الإعلانات بشكل سريع، حيث أعلنت مصانع "فيات كرايسلر" المعطلة في كندا والمكسيك، وشركة "دايملر" عن تأثرهم بنقص أشباه الموصلات، كما خفضت صانعة السيارات "هوندا" إنتاجها بنحو 4 آلاف سيارة في منشأة في اليابان لنفس السبب، وأغلقت شركة "فورد" مصنعاً لسيارات الدفع الرباعي في ولاية كنتاكي لمدة أسبوع وآخر في ألمانيا لمدة شهر.
وبحسب شركة الأبحاث العالمية "إي إتش إس ماركيت"، سيتم إيقاف إنتاج ما يصل إلى 628 ألف سيارة- أي 3% من الإنتاج العالمي- في الربع الأول من عام 2021 فقط.
ورغم كل الآلام، لا يزال صانعو السيارات عازفين عن تغيير استراتيجياتهم التصنيعية، وذلك لأن المدخرات التي يستطيعون الإبقاء عليها تفوق حتى تكاليف الاضطرابات كتلك التي واجهوها هذا العام. وتُعد صناعة السيارات عملاً ذو هامش ربحي منخفض بطبيعته، وبالتالي يرفض المنتجون بناء مخزون باهظ الثمن، نظراً لتفكيرهم في خطوة تحقيق الربح، التي تحتاج إلى نقل مكونات السيارات إلى المصنع لمطابقتها مع طلبيات المركبات القادمة من الجانب الآخر.
لذا من غير المنطقي التخطيط لعملية بأكملها في ظل أسوأ سيناريو، وهو الذي يأتي مرة واحدة فقط كل عقد زمني. وذلك كما يقول كيفين تينان، المحلل لدى "بلومبرغ إنتليجينس". والذي أضاف: "الأمر يشبه قيادة سيارة دفع رباعي عملاقة على مدار العام في ظل انتظار احتمالية حدوث ثلاث أو أربع عواصف ثلجية".
وبرغم أن جميع الجهات تقول علناً إنهما تعمل معاً لحل المشكلة، إلا أن كلا الطرفين (مصنعو السيارات ومصنعو أشباه الموصلات) يشيران في الخفاء بأصابع الاتهام إلى الآخر، إذ يصر صانعو الرقائق على أن هوس صناعة السيارات بالمخزونات المنخفضة هو السبب في تلك المشاكل، بينما يقول صانعو السيارات وقطع الغيار إن مصنعي أشباه الموصلات يفضلون شركات الإلكترونيات الاستهلاكية لأن معداتها توفر الجزء الأكبر من أرباحهم، وهو ادعاء ينكره صانعو الرقائق.
وبصرف النظر عن الجانب المخطئ، فإن فئة قليلة تتوقع التخلص من تلك المشكلات قبل الصيف، بينما يقول البعض إنها ستستمر حتى الخريف. وليس من السهل على صانعي الرقائق زيادة الطاقة الإنتاجية، لأن معظم المصانع تعمل حالياً بكامل طاقتها والمصانع الجديدة عادة ما تُكلف مليارات الدولارات وتحتاج لأعوام لبنائها.
ويقول مات بلانت، رئيس المجلس الأمريكي لسياسات السيارات، وهي مجموعة ضغط لشركات صناعة السيارات في ديترويت: "سيكون لهذه المشكلة تأثير حقيقي خلال النصف الأول من العام. وكلما استغرق الأمر وقتاً أطول لحل المشكلة، كلما استمر النزيف حتى الربع الثالث".