يسهم مواطنو الكوكب في الدراسة العلمية لتغير المناخ من خلال طرق استثنائية وعادية، سواء كانوا يغوصون مستخدمين يختاً خاصاً في مكان ناءٍ، أو يقضون ليلة هادئة في المنزل.
عِلم المُواطن -الذي يتضمن جمع البيانات من الحشود لأغراض البحث العلمي- تلقّى دفعة قوية خلال الأيام الأولى من عمليات الإغلاق المرتبطة بوباء فيروس كورونا، وعندما خلت السماء من الطائرات وصمتت المدن، بدأ الناس يلاحظون تأثيرهم في العالم من حولهم، ووجد عديد من هؤلاء المراقبين غير الرسميين -بفضل الهواتف الذكية والوصول إلى الإنترنت- طرقاً لإضافة اكتشافاتهم إلى العمل العلمي.
مساهمة صغيرة
قال جوردي ريغاس، وهو غواص يبلغ من العمر 51 عاماً، ويساهم في البحث البحري في برشلونة في أوقات فراغه: "بمجرد أن تدرك هشاشة البيئة فإن خطوتك المنطقية التالية هي أن تفعل كل ما في وسعك للمساهمة في المعرفة العلمية.. لا أشعر أن ما أفعله سيؤدي إلى أي تغييرات جذرية، لكنني أعتقد أن كل واحد منا يمكنه تقديم مساهمة صغيرة".
لقد طمس علم المواطن الحدود التي قيّدت العلوم المهنية. وتقليدياً، ينظم العلماء حملات لجمع البيانات، ويعودون إلى مختبراتهم، ويحللون المعلومات، وينشرون استنتاجاتهم، لكن الملايين من مساهمات المواطنين من جميع أنحاء العالم تعمل على توسيع نطاق البحث وجعله أكثر دقة واتساقاً.
قرر ريغاس، الذي سجّل أكثر من 1700 غطسة، الانضمام إلى برنامج مراقبي البحار التابع لمعهد برشلونة للعلوم البحرية في عام 2016 بمجرد إطلاقه تقريباً، فبعد كل شيء، هو رئيس نادي الغوص في كلية علم الأحياء بجامعة برشلونة، الذي يضم بين أعضائه عديداً من العلماء المسؤولين عن المشروع.
الآن، تسمح صوره للأعشاب البحرية والشعاب المرجانية والأسماك، وحتى القمامة البحرية، للعلماء في المعهد بتتبع صحة النباتات والحيوانات في البحر الأبيض المتوسط، وكذلك الحصول على تنبيهات حول وجود الأنواع الدخيلة. وقال إنّ الغواصين الهواة يعرفون البقع عن ظهر قلب، وغالباً ما يرتبطون عاطفياً بالبيئة، لذلك يلاحظون التغييرات قبل أي شخص آخر.
قال ريغاس: "نسمع الآن عن نوع جديد من الطحالب الغازية من آسيا، تشبه إلى حد بعيد الأنواع المحلية التي لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال أخذ قضمة منها، ويبدو أن طعمها مثل الزنجبيل.. لذلك إذا كان يتعيّن علَيّ الذهاب ومضغ الأعشاب البحرية، فأعتقد أنني سأفعل".
بيانات موثوقة
تُعتبر البيانات التي ينتجها المواطنون موثوقة مثل المعلومات التي يجمعها العلماء المحترفون، وفق بحث نُشر في مايو في مجلة "عِلْم المُواطن: النظرية والممارسة" (Citizen Science: Theory and Practice)، وقارنت الدراسة بيانات جمعها هواة ومحترفون خلال حملة لقياس مدى تغطية الطحالب على الشواطئ الصخرية في بريطانيا، ومع ذلك يوصي البحث بأنه عند أداء المهامّ المعقدة يجب تدريب المواطنين وإعطاؤهم تعليمات واضحة ومعدّات مناسبة.
قالت أبيغيل سكوت، وهي مؤلِّفة مشارِكة في البحث وباحثة في جامعة جيمس كوك في كيرنز، أستراليا: "عِلم المُواطن هو أداة قوية حقاً.. ولكي تنجح، يجب أن تكون جذابة للناس، أن تجعلهم يشعرون أنهم يستمتعون وأنهم يتعلمون شيئاً ما، ولكن أيضاً أن تطمئن إلى أن البيانات مفيدة".
تحتاج المشاريع الجادة إلى مشاركة عالِم واحد على الأقل، مثل جميع الأبحاث العلمية الأخرى، يحتاجون إلى طرح أسئلة واضحة وتحديد المسار للحصول على الإجابات وتحديد الأهداف. وقالت سكوت إنّ إيصال كل هذا إلى المشاركين، بالإضافة إلى إتاحة البيانات للجمهور بعد انتهاء الدراسة، يساعد على تشجيع المشاركة.
باعتبارها خبيرة في الأعشاب البحرية، ساعدت سكوت في تصميم إحصاء الحاجز المرجاني العظيم (Great Reef Census)، وهو برنامج يطلب من الغواصين تحميل 20 صورة عشوائية للحاجز المرجاني العظيم في أستراليا، وتسمح الصور للعلماء بتقييم صحة الشعاب المرجانية -بما في ذلك تبيض المرجان ووجود الكائنات القاتلة للمرجان مثل نجمة البحر المكللة بالشوك- من المواقع السياحية إلى المواقع الأبعد، التي لا يمكن الوصول إليها إلا باليخوت الخاصة وسفن الأبحاث، وخلال الحملة السابقة، قدم المواطنون أكثر من 40 ألف صورة لنحو 300 شِعب مرجاني.
عالم احتمالات جديد
أوضحت سكوت: "لهذا السبب أصبح العلماء أكثر حرصاً على العمل مع الناس، إذ إنه يعني أن بإمكانك توسيع نطاق مشروعاتك.. ويفتح عالماً جديداً تماماً من الاحتمالات التي لن تكون ممكنة حتى مع فريق صغير من العلماء".
لا تتطلب المشاركة في البحث عن المعرفة شهادة غوص أو القدرة على السفر إلى مناطق نائية من الكوكب، وتصنّف منصات العلوم المدنية، مثل "سايستارتر" (SciStarter) في الولايات المتحدة أو "إي يو-سيتيزن دوت ساينس" (EU-citizen.science) في أوروبا، المشاريع حسب الموقع ونوع البحث، مع عشرات الخيارات للأشخاص الذين لديهم جميع أنواع المهارات في أي مكان في العالم.
من المنزل المريح، يمكن لأي شخص لديه هاتف ذكي المساهمة في منصة "الكون ليلاً" (Globe at Night)، التي تشجع الأشخاص على التقاط صورة للسماء الليلية وتحميلها في أحد التطبيقات، سمح أكثر من 52 ألف عملية رصد على مدار خمس سنوات للعلماء بالعثور على واحات السماء المظلمة -وهي مناطق لم تزعجها الإضاءة الخارجية- لدراسة التلوث الضوئي وتأثيره في مسارات طيران الخفافيش.
ورغم أن بعض المشاريع العلمية للمواطنين مستمرة منذ أكثر من قرن، فإن الوباء من نواحٍ كثيرة أجبر غير العلماء على رؤية العالم الطبيعي من منظور مختلف وألهم الباحثين طرقاً جديدة للاستفادة من هذا الاهتمام.
قال مايكل جون غورمان، مدير متحف التاريخ الطبيعي البافاري "بيوتوبيا" (BIOTOPIA)، الذي لا يزال قيد الإنشاء في ميونخ بألمانيا: "حظينا بهذا الصمت الاستثنائي لأنه لم يكن في السماء طائرات ولا على الطرق سيارات، لذلك لاحظ الناس الطيور أكثر.. وفي نفس الوقت كنّا واعين بشدة للانخفاض في أعداد الطيور، وفي ألمانيا وحدها اختفى 15% من أزواج الطيور المتكاثرة خلال الأعوام الاثني عشر الماضية".
بالتعاون مع علماء من جمعية "ماكس بلانك"، أطلقوا تطبيق "دون كورس" (Dawn Chorus) أو "جوقة الفجر"، وهو تطبيق يسمح للمستخدمين بتسجيل غناء الطيور قبل الفجر بساعة وبعده بساعة، ويشجع الأشخاص على التسجيل من نفس المكان في أيام مختلفة، بحيث يمكن مقارنة اللقطات الصوتية بعضها ببعض. وقال غورمان إنه مشروع فني ذو هدف علمي أيضاً، لأن غناء الطيور مؤشر على صحة النظم البيئية، وفي الوقت الحالي يساعد علماء الطيور في تحديد الأنواع المختلفة من الطيور، لكن الخطوة التالية هي تطوير الذكاء الصناعي وأدوات التعلم الآلي.
تطبيقات مباشرة
وهناك مشاريع أخرى لها تطبيقات مباشرة أكثر، وأطلق باحثون من جامعة برشلونة المستقلة بإسبانيا تطبيق "موسكيتو ألرت" (Mosquito Alert)، الذي يطلب من المستخدمين التقاط صور للبعوض من أجل اكتشاف الأنواع الغازية ومساعدة السلطات على منع والاستعداد لتفشي الأمراض الاستوائية مثل حمى الضنك أو زيكا في أوروبا، التي من المتوقع زيادة انتشارها مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب. وتوسع التطبيق مؤخراً ليشمل دولاً أخرى، بما في ذلك إيطاليا وهولندا وهنغاريا والنمسا، ويضم نحو 14 ألف مستخدم في جميع أنحاء أوروبا.
قالت أيتانا أولترا، من مؤسسي المشروع: "حدث كل هذا بشكل عفوي، واشتكى المستخدمون من خلال التطبيق من أن البعوض يزعجهم، وأن العلم كان بطيئاً للغاية وأن لا أحد يساعدهم.. لذلك أشركنا وكالة الصحة العامة في برشلونة، والآن هم يتصرفون بناءً على هذه المعلومات".
أيضاً في برشلونة يجمع تطبيق "فلاد أب" (Floodup) صوراً عن حوادث الفيضانات التي من المتوقع أن تزداد وتيرتها وحدّتها في البحر المتوسط نتيجة التغير المناخي.
قالت مونتسيرات لاسات بوتيجا، الباحثة في قسم الفيزياء في جامعة برشلونة ومديرة "فلاد أب": "عِلم المُواطن لا يقتصر على إرسال الأشخاص إلينا، إنه يخلق مساحة لنا جميعاً للقاء، وهذا يعني أننا بوصفنا علماء لسنا معزولين في مختبراتنا، ويسمح لنا بمعرفة ما يشغل بال الناس، وتصميم بحث حول ذلك".
ومع ذلك، لا يمكن للجميع المشاركة على قدم المساواة في عِلم المُواطن، وهذا يخلق بعض المآخذ بشأن النتائج، إذ يتطلب عديد من المشاريع الوصولَ إلى التكنولوجيا وهاتفاً ذكياً واتصالاً بالإنترنت، ما يعني أن المساهمات تميل إلى أن تأتي من المناطق الأكثر ثراءً، لا من تلك التي ستعاني أكثر من غيرها من تأثير تغير المناخ.
تهدف مؤسسة "إيبيرشيفيس" في مدينة سرقسطة الإسبانية إلى سدّ هذه الفجوة مع مشروع "مراقبي الهواء" (Vigilantes del Aire)، والمصمم للوصول إلى الأشخاص الذين لا يشاركون عادةً في عِلم المُواطن، ووزع المشروع 10 آلاف نبتة فراولة في جميع أنحاء إسبانيا، ونظراً إلى أن المعادن الثقيلة في الهواء تميل إلى أن تعلق في الغطاء النباتي، خصوصاً على الأوراق المشعرة لنباتات الفراولة، فقد طُلب من الناس العناية بها وإرسال بضع أوراق النبات بالبريد إلى العلماء في جامعة سرقسطة بعد ثلاثة أشهر، وبعد ذلك أعدّ علماء الأحياء تقريراً علمياً يقدم بيانات عن تلوث الهواء في الأماكن التي لا توجد فيها أجهزة استشعار تقليدية أو لا يوجد فيها سوى عدد قليل جداً.
لم يشمل المشاركون في المشروع العشرات من كبار السن الذين يعيشون في دور رعاية المسنّين في جميع أنحاء البلاد فحسب، بل شملوا أيضاً السجينات في مركز "ألبولوتي" الإصلاحي في غرناطة في جنوب إسبانيا.
قال فرانسيسكو سانز، المدير التنفيذي في "إيبيرشيفيس": "نحتاج إلى التوقف عن التفكير في المواطنين بوصفهم أشخاصاً ليس لديهم فكرة.. الناس مهتمون، وعندما تتاح لهم الفرصة يمكنهم العثور على الدليل الذي يحتاج إليه الباحثون من أجل تغيير الأوضاع فعلاً".