تداعيات جائحة كورونا وتأثيراتها على القطاعات الاقتصادية ليست واحدة، فبينما تضررت بعض القطاعات بعنف من الوباء، إلا أنه جاء بردًا وسلامًا على قطاعات أخرى، وكانت فوائده عليها فوق التوقعات.
الوباء الذي ضرب صناعة السينما في هوليوود وخُطَطَ إنتاجها الضخمة، وهوى بقطاع السفر إلى أعماق سحيقة، وترك أصحاب المطاعم على شفا الإفلاس، نفس الوباء جعل صناعة ألعاب الفيديو تحلق في السماء، إنه جعلهم يزدهرون.
مغامرات افتراضية
فمع اضطرار الأشخاص إلى البقاء محبوسين بين جدران منازلهم لعدة أشهر، اختار عديد منهم استخدام ألعاب الفيديو لتخفيف كآبة الإغلاق وإثراء مغامراتهم الافتراضية، إذ يبدو أن سرقة السيارات، وصيد "الزومبي"، وزراعة الأشجار في القرى المليئة بالحيوانات المتوحشة، وتجميع الثروات، وخوض الحروب، من الأمور المسلّية لكثيرين.
أدى ذلك إلى قفزة كبيرة في مبيعات صناعة ألعاب الفيديو خلال الربع الثاني من 2020، في الولايات المتحدة وحدها بنسبة 30 في المئة عمّا كانت عليه العام السابق، لتصل إلى 11.6 مليار دولار، وفقًا لبحث لمجموعة "NPD Inc".
وارتفعت أسهم شركة "Activision Blizzard Inc." بنسبة 46 في المئة هذا العام، بينما تضاعفت أرباح شركة "Nintendo 5" مرات في الفترة من أبريل إلى يونيو، كذلك قفزت أعداد مستخدمي منصة الألعاب "Roblox" من 115 مليون مستخدم في فبراير إلى 150 مليون مستخدم في يوليو 2020، وهي منصة غالبًا ما يستخدمها الأطفال حين يغافلون معلّميهم خلال دروسهم التي أصبحت تُدرَّس عن بُعدٍ كذلك.
وبحسب بيانات "Electronic Arts"، الشركة المصنِّعة لألعاب مثل "Madden NFL" ولعبة "فيفا" الشهيرة لكرة القدم (FIFA soccer)، فإنها أضافت عشرات الملايين من اللاعبين الجدد في أثناء تفشي وباء "كوفيد-19".
نمو غير مسبوق
يقول الرئيس التنفيذي لشركة "Electronic Arts" أندرو ويلسون في حديث وجَّهه إلى المستثمرين في 30 يوليو 2020، "إنه وقت غير مسبوق، وقد كان رُبعًا أوليًّا غير مسبوق لأعمالنا".
وشكل ازدهار أعمال تلك الشركات خلال الوباء دفعة إضافية قوية لقطاع مزدهر أصلًا، إذ تعمل شركات الألعاب باستمرار على تسويق أجزاء متتابعة من ألعابها الناجحة على غرار ما تقوم به هوليوود مع إنتاج الأجزاء المتتالية اللانهائية من أفلامها المربحة، مع الفارق المتمثل بإمكانية الألعاب أن تجني مبيعات أكبر بكثير حتى من أضخم الأفلام دون أيّ حاجة إلى مراعاة غرور الممثلين الهشّ.
ويقول ماثيو كانترمان، المحلل في "Bloomberg Intelligence": "مع مرور الوقت يمكن لألعاب الفيديو الضخمة تحقيق أرباح أكثر من أيّ فيلم أُنتِج على الإطلاق".
ولعل ازدهار الصناعة خلال الإغلاق شجّع إحدى شركات القطاع على مواجهة عمالقة التكنولوجيا، إذ تخوض شركة "Epic Games Inc." معركة ضدّ شركتي "آبل" و"غوغل"، وذلك بشأن نسبة الـ30% التي تقتصّها الشركتان من مبيعات ألعاب "Epic Games Inc." على منصاتها. وتقول الشركة صانعة ألعاب الفيديو، إنّ هذه الرسوم المالية قد عفا عليها الزمن، وهي غير عادلة.
استبعاد آبل وغوغل
ويُذكر أنّ جذور شركة "Epic Games Inc" تعود إلى اليابان في حقبة الثمانينيات وعصر أشرطة ألعاب الفيديو القديمة ووحدات التحكم البدائية.
من ناحية أخرى، يُقدَّر أن تحقّق لعبة "فورتنايت" من "Epic Games Inc" أكثر من مليار دولار سنويًّا من مبيعات الخصائص والتعديلات الإضافية القابلة للشراء داخل اللعبة، وهو ما أدّى إلى استبعاد كل من "آبل" و"غوغل" من هذه الأرباح، ما دفعهما إلى إزالة لعبة "فورتنايت" من متاجر التطبيقات الخاصة بهما.
وحتى قبل تفشي الوباء، كان من المنتظَر أن يكون 2020 عامًا متميزًا في عالم الألعاب، فخلال خريف العام الحالي تطلق شركتا "سوني" و"مايكروسوفت" الجيل التالي من أجهزة تشغيل ألعاب الفيديو الخاصة بهما، وهي "PlayStation 5" و"Xbox Series X"، مما يبشر بتقنيات غرافيك أكثر ثراءً. وبالنسبة إلى اللاعبين، يُعَدّ هذا أمرًا مهمًّا للغاية، نظرًا إلى أنّ هذه القفزات لا تحدث إلا مرة واحدة كل سبع أو ثماني سنوات، لذلك سترسم تلك الإصدارات مشهد ألعاب الفيديو للعقد القادم.
كذلك مِن المنتظَر أن تستكمل "سوني" استراتيجيتها في الألعاب الحصرية مثل طرح الجزء الثاني من لعبة "The Last of Us Part II" بشكل حصريّ، وهي لعبة من فئة الإثارة تدور فيما بعدَ نهاية العالم، وصُمّمَت بمعايير إنتاج سينمائية ضخمة لتملأ معها الفجوة التي خلفتها دور السينما المغلقة.
وتعوّل "مايكروسوفت" بشكل كامل على "Xbox Game Pass"، وهي خدمة اشتراك بمثابة "نتفلكس" في عالم الألعاب، إذ تتيح للشخص الوصول إلى مئات الألعاب الشهيرة مقابل 5 دولارات إلى 15 دولارًا شهريًّا، وهو ما يُعَدّ إضافة جيدة جدًّا لعملاق البرمجيات، نظرًا إلى تأخر الإصدار التالي من لعبة "Halo" التي تتمتع "مايكروسوفت" بحقوق توزيعها، مما يترك الجيل الجديد من "إكس بوكس" دون أداة جذب رئيسية.
ويتوقع جورج جيجياشفيلي، المحلل في شركة الأبحاث "Omdia" أن تتفوق مبيعات مشغل ألعاب الفيديو من "سوني" على منافسه "إكس بوكس" من "مايكروسوفت"، ويقول: "تدرك (مايكروسوفت) أن أكثر الأسلحة فاعلية في ترسانتها هو اشتراك (إكس بوكس-Xbox Game Pass)". ويضيف: "إذا لم يتمكنوا من التنافس على مبيعات الأجهزة، فعليهم التنافس في مجالات أخرى".
على الرغم من هذا الزخم، وفي حين أنّ الصناعة تُعتبر من بين أكثر الأماكن التي يرغب الأفراد في العمل بها، يشعر كثير من مصممي الألعاب بالاستغلال والتمييز ضدّهم.
معادة النساء
ويشبّه كثير من المبرمجين والمصممين في أنحاء الصناعة العقليات التي تدير بيئة العمل في القطاع بـ"الأخوية المُغلقة" واصفين إياها بالمعادية للنساء، بينما لا يتوقف ضغط العمل لأسابيع أو أشهر خلال ما يطلق عليه ليالي الكدح وعطلات نهاية الأسبوع، مع تعويض ضئيل أو بلا تعويض على الإطلاق، وهو ما يُعتبر مشكلة كبيرة في صناعةٍ لا تزال تتبنى "توظيف العاملين بصفة مؤقتة لفترات طويلة"، الذين يعملون جنبًا إلى جنب مع زملائهم ذوي العقود بدوام كامل، لكنهم يفتقرون إلى المزايا والأمان الوظيفي.
وعلى الرغم من ازدهار صناعة ألعاب الفيديو بشكل لا يمكن إنكاره في ظلّ الوباء، فإنها لم تسلم من تأثيره في إنتاجيتها، إذ يؤجّل كورونا وصول بعض الألعاب الشهيرة إلى خريف هذا العام وحتى إلى عام 2021.
ومع التحول إلى العمل من المنزل، يقول ما يقرب من نصف مطوِّري الألعاب إنهم يقضون مزيدًا من الوقت أمام شاشاتهم ولكنهم يحققون إنجازات أقلّ، وذلك وفقًا لاستطلاع أجراه مؤتمر مطوِّري الألعاب في يوليو الماضي.
ويقول ثلث المشاركين في الاستطلاع إنّ تفشي المرض قد أخَّر بعض الإصدارات الجديدة من الألعاب الشهيرة، فبالإضافة إلى لعبة "Halo Infinite"، فقد تأجّلت عشرات الإصدارات. وفي حال استمرّ التأخر في الإنتاج وأدى الركود إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي بشكل أكبر، فقد يصبح الوضع المزدهر أكثر كآبة.
ويقول مات بيسكاتيلا، المحلل في "NPD": "يمكن لحالة عدم اليقين التي نعيشها أن تصعب حتى على رواية من تأليف تولستوي تحقيق النجاح، فلدينا الوباء من جهة، والانتخابات من جهة أخرى، وكذلك البطالة، والقائمة تطول وتطول".