من أسعار الفائدة إلى الموضة، تركت الأوبئة في الماضي - مثل الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر- بصمات عميقة على الحياة الاقتصادية. وقد لا يكون الأمر مُختلفاً في أعقاب فيروس كورونا، إذ يُمكن للحكومات إعادة تشكيل الرأسمالية من خلال منحنا جميعاً حصة في المنتج الأكثر قيمة في حياتنا اليومية: وهي البيانات. لكن لا تخطئ، فهذا الأمر بمثابة صفقة فاوستية. ( مع الشيطان)
سيكون الربح من البيانات العالمية ناتجاً محلياً مُختلفاً تماماً عن الناتج المحلي الإجمالي. وباعتبار أننا نحن من نزود شركات التكنولوجيا بالبيانات من أصغرها إلى أكبرها فإن مشاركتنا في هذا الناتج ليس خياراً لها. في الواقع، من الممكن أن تصبح كدخل أساسي عالمي أفضل- كمفهوم ثوري آخر ربما حان وقته - لعالم ما بعد جائحة فيروس كورونا كوفيد 19.
أظهرت تجربة فنلندية تمت دراستها على نطاق واسع أن المُخصصات المُقدمة من الدولة يمكن أن تُحسِّن رفاهية المواطنين. ومع ذلك، فإن مجموعة صغيرة فقط من البلدان المُتقدمة ستكون لديها فرصة للحفاظ على مُساعدة مالية حقيقية، شريطة مُوافقة دافعي الضرائب، بينما ستحقق معظم الدول النامية عجزاً في نفقاتها، وسيتفاقم عدم المساواة بين الشمال والجنوب.
كعكة الربح
هنا، يمكن أن يكون الحصول على حصة من أرباح البيانات العالمية لـ 63% من سكان العالم المُتصلين بالإنترنت مُفيدة. فإن رُباعية "الفانغ" (FANG)المُؤلفة من –"فيسبوك و "أمازون" و"نتفلكس" و"غوغل" المُملوكة من قبل شركتها الأم "ألفابت" - تجني 140 مليار دولار أرباحاً تشغيلية مُجمعة. بينما حصدت ثُلاثية الشركات الصينية المُسماة "بات" (BAT) والتي تتألف من شركات "بايبدو" و"علي بابا" و"تينسنت" 50 مليار دولار أخرى.
ويمكنك إلقاء نظرة على صانعي الأجهزة مثل "آبل" و"سامسونغ" و"شاومي" والشركات التي تعالج عمليات دفع الأموال مثل "فيزا" و"ماستركارد" و"باي بال"، حيث تبلغ كعكة الربح المُتاحة لأرباب بياناتنا 350 مليار دولار على الأقل. فقد تجاوزت عائداتهم المُجمّعة 1.3 تريليون دولار.
إن وصول شبكات اتصالات الجيل الخامس (5G) وإنترنت الأشياء، بالإضافة إلى النمو السريع للاعبين الجدد في مجال التكنولوجيا المالية مثل شركة "آنت جروب" الصينية، و"جيو بلاتفورمز" الهندية، و"غراب Grab Holdings " من جنوب شرق آسيا، من شأنه أن يُشكل أرباحاً لهذه الصناعة تفوق تريليون دولار قبل حلول نهاية العقد.
حتى الضرائب تتحايل على دفعها
وحتى في الوقت الراهن، لا ينبغي على الحكومات أن تُمانع في استغلال الشركات التي حقق مُعظمها أداءً جيداً جرّاء الوباء، ووضع بعض الأموال الإضافية في أيدي المواطنين الذين أصبحوا أكثر فقراً وإنهاكاً. لكن المُشكلة تكمن في أن عمالقة التكنولوجيا دأبت على نقل أرباحها إلى الدول التي تفرض ضرائب أقل عليها، لذلك يجب أن تكون هناك طريقة أفضل لاستعادة هذه الأموال منهم.
قدمت ورقة بحثية حديثة للأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا "كاثرينا بيستور"، أحد أقوى الاقتراحات لمعالجة هذا الأمر، وقالت فيها إنه سيكون من غير المجدي لنا نحنُ كمُنتجي المعلومات، الحصول على حقوق التأليف لبياناتنا الشخصية الأولية، حيث إن هذه البيانات ذات قيمة زهيدة، لكن عندما تحلل الخوارزميات مليارات من نقاط البيانات، فإنها تستخلص رؤى حول سلوكنا. وتتشارك عمالقة التكنولوجيا المعلومات الاستخباراتية لتحقيق الربح من مُزودي السلع والخدمات، الذين يستخدمون هذه المعرفة بعد ذلك للتأثير على اختياراتنا كمُستهلكين وتحقيق مكاسب أخرى.
وبدلاً من أن نشارك في سوق حُرّة، فإن لعبة القوة هذه تجعلنا ضحايا مرتين. حيث لا يمكن لأي قانون خُصوصية للإشعار والموافقة أو لوائح مُكافحة الاحتكار تحسين وضعنا التفاوضي، لذلك فإننا بحاجة إلى ملكية جزئية ليس للبيانات، ولكن لقواعد البيانات. أي بعبارة أخرى، إذا كانت التكنولوجيا قد جعلت مصيرنا "محكوماً بالبيانات"، فيجب أن يكون لدينا "حقوق في صندوق إيداع البيانات"، بحيث سيكون له حصة بأرباح الشركة المُستمدة من البيانات، وأن يتولى مُهمة توجيه هذه الأرباح إلى مُنتجي البيانات ويمارس الصندوق أيضاً حقوق التصويت نيابةً عنهم.
ويتوقف الجدال عند فضح أسطورة شائعة: حيث تقول الأستاذة "بيستور" إن بصماتنا المعلوماتية ليست نفطاً، أو أي شيء يُشبه سلعة أو أصولاً اعتياديةً. وبالإضافة إلى طلب الحماية من القرصنة، لم تعتمد صناعة التكنولوجيا على الحماية القانونية لتأكيد حقوق الملكية الخاصة بها.
الملكية
لقد استحوذت هذه الصناعة ببساطة على البيانات على أنها "أشياء لا قيمة لها" أو حيوانات برية، وتمتعت بأرباح غير عادية. لقد حان الوقت لإنهاء الغموض الذي يكتنف الملكية، ومنح البيانات حالة "ملكية المُجتمع". وهذا ما يُمكن لصندوق "إيداع البيانات" تحقيقه.
من المؤكد أن أي حكومة لم تفكر في هذا الأمر حتى الآن، لكن تخيل التغيير الذي من الممكن أن يطرأ على سُلطة شركات التكنولوجيا الكبيرة وشعور الناس بالملكية في المُجتمع في حال حاولت السُلطات السياسية حل ما يراه "كريستيان فوكس" وهو عالم الاجتماع في جامعة "وستمنستر": "عداءً ماركسياً بين المشاعات الرقمية والسلع الرقمية".
ويوجد نوعان من الأسئلة:
أولاً، كيف ستمرر هذه الوديعة الأرباح المُقسمة التي تتلقاها من أرباح المُنتجين؟
ثانياً، هل ستوافق الصين على الخطة، أم أن تقاسُم الأرباح هذا سينتهي به الأمر إلى أن يصبح عائقاً دائماً على التكنولوجيا الغربية فقط؟
وقد تكون الإجابات مُترابطة، حيث كان إلغاء الاكتتاب العام الأولي لشركة "آنت" في اللحظة الأخيرة وتوجيهات الجهة التنظيمية لشركة التكنولوجيا المالية العملاقة إلى جذورها كمزود لخدمات الدفع أقوى إشارة حتى الآن على نية بكين في كبح جماح القوة المُتزايدة لقياصرة البيانات لديها.
لكن هذا ليس نهاية الأمر. ففي نهاية المطاف، ستُصدر جميع البنوك المركزية الكُبرى عُملات رقمية يتم توزيعها على نطاق واسع، لتُحاكي تجربة جارية بالفعل في الصين.
الهوية النقدية
إن إخفاء الهوية النقدية سيختفي في وقت ما خلال هذا العقد. لذلك، من المُتصور أن أرباح صندوق البيانات يمكن أن تصلنا ببساطة عبر محافظ العُملات الرقمية الرسمية على هواتفنا المحمولة. وفي عملية الإنفاق، سنترك أثراً لبياناتنا للبنوك المركزية.
وتعرّضت أوروبا بعد الطاعون الأسود لموجة من النزعة الاستهلاكية من منطلق أن "الحياة قصيرة". وبعد صدمة هذا العام، نتوق أيضاً إلى اللقاح وإلى عام قادم أكثر راحة. ولكن هل يمُكننا، كمُنتجين ومُستهلكين وأفراد، التخلص تماماً من تلك الجراح؟
حتى لو أردنا أن ننسى، هل ستسمح لنا الحكومات بالتخلي عن حذرنا؟ لقد قدم لنا ظهور تتبع جهات الاتصال أثناء الوباء، طوعاً أو غير ذلك، فكرة مفادها أن هواتفنا الذكية يمكن أن تُحافظ على سلامتنا - من خلال التجسس علينا.
إن التضحية بالمزيد من حُريتنا للُمراقبة الأبدية من قبل الدولة، يُمكن أن تصبح صفقة مع الشيطان الذي معرفتنا به لازالت قيد التطور. سنأخذ هذه الصفقة، ولكن فقط إذا أعطتنا التكنولوجيا حصة حقيقية في المُقابل من رأسمالية القرن الحادي والعشرين.