كان ردُّ الفعل العنيف في العام الماضي ضد " ليبرا" العملة الرقمية التي تخطط شركة "فيسبوك" لإطلاقها، بمثابة أسوأ كابوس يواجه الرؤساء التنفيذيين.
وتأهبت الحكومات، والجهات التنظيمية لصدِّ أيِّ تهديد محتمل للسيادة النقدية، والاستقرار المالي، وخصوصية البيانات.
ليست فكرة مثالية
وكلما حاول مارك زوكربرغ طمأنة السياسيين بالحديث عن الشمول المالي والابتكار ؛كان مثل رئيس شركة تبغ ينفي أنَّ السجائر تسبب الإدمان. حتى اعترف مارك بالمشكلة قائلاً: "أدركت أنني لستُ صاحب فكرة مثالية".
ولم تقف "العقبات" حائلاً دون طموح زوكربرغ. وفي ضوء ميله إلى إصدار اعتذارات فاترة قبل العودة إلى تخطي القواعد، فليس من المستغرب أنَّه يستعدُّ لمحاولة ثانية لإطلاق العملة الرقمية العام المقبل.
زوكربرغ لم يغيِّر اسم العملة فقط
إلَّا أنَّ زوكربرغ أحدث بعض التغييرات، فقد تحوَّل اسم ليبرا إلى " ديم" بمعنى:
" اغتنم اليوم" باللغة اللاتينية، ويرأس مجلس إدارة رابطة " ديم" ستيوارت ليفي، الذي اكتسب مزيجاً من الخبرة من عمله في وزارة الخزانة الأمريكية، وبنك" اتش اس بي سي هولدنجز بي إل سي". ولم يعد هناك حديث عن مكافآت للأعضاء في شكل "رموز استثمارية".
أما أكبر امتياز حصلت عليه الجهات التنظيمية، فهو أنَّ شركة " فيسبوك" لن تصدر عملة عالمية واحدة.
وبدلاً من إصدار عملة " ليبرا" الاصطناعية من سلة تضمُّ اليورو، والدولار، والين- مثل حقوق السحب الخاصة لدى صندوق النقد الدولي- ستتكوَّن "ديم" من عدة عملات مشفرة ثابتة أحادية العملة، ومربوطة بكل منها.
باي بال ولكن فيسبوك
وقد يكون تحويل الدولار أو اليورو إلى" ديم رقمي" في تعاملات مباشرة مع وجود فرصة ضئيلة لتقلب مستوى "بتكوين"، أو اضطراب للعملات الورقية بين عشية وضحاها .
حتى أنَّ" فيسبوك" تقترح أن تستخدم البنوك المركزية يوماً ما طريقة تشفير " ديم" لإصدار عملات رقمية، على غرار اختبار الصين لليوان الرقمي.
ويشير هذا النداء من أجل نيل قانونية إصدار عملة رقمية، إلى أنَّ " فيسبوك" تميل أكثر نحو نوع النقد الإلكتروني الذي تقدمه " باي بال "، و"علي بابا".
نظرياً يمكن أن يكون الدولار الرقمي القابل للتحويل في أيِّ مكان، وفي أي وقت عاملَ جذب للمستهلكين، حتى لو كان في الممارسة العملية حسب التنظيم، وليس وفق عامل التكنولوجيا، وهذا هو سبب بطء المعاملات.
ويعتقد " تيونيس بروسينز، كبير الاقتصاديين في "أي إن جي"، أنَّ "ديم" قد ينتهي بها الأمر لتكون على غرار محفظة "النقود الإلكترونية". وأطلق عليها خبير "بلوكتشين" ديفيد جيرارد اسم " باي بال ولكن فيسبوك".
حذر الحكومات
ستجعل عملة فيسبوك الحكومات تتوخى الحذر، وغالباً ما تكون شركات الأموال الإلكترونية شركات ناشئة ببطاقات فيزا، فمن شأن تجميع فيسبوك مع منصتي "واتس آب"، و"انستغرام"، جذب ثلاثة مليارات مستخدم شهرياً.
وإذا حقق كل تطبيق من التطبيقات الثلاثة 6 دولارات مبيعات؛ فإنَّ "ديم" ستحقق إيرادات بقيمة 18 مليار دولار بين عشية وضحاها.
وبعد أن اتَّهمت الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة خلال الشهر الجاري "فيسبوك" بإساءة استغلال قوتها السوقية بشكل غير عادل لاحتكار وسائل التواصل الاجتماعي، فهل ستتنافس بشكل عادل في هذه الساحة الجديدة أم تسحق المنافسة؟ تخيَّل لو كانت عقود إعلانات فيسبوك مرتبطة يوماً ما بـ "ديم"، أو إذا أساءت استخدام وصولها إلى البيانات المالية للعملاء.
التنظيم
لكنَّ إصدار عملة " ديم" سيحتاج مزيداً من التنظيم، فقد قال وزير المالية الألماني أولاف شولتز، في إشارة إلى تغيير اسم ليبرا إلى ديم : "لا يزال الذئب الذي يرتدي ثياب الحمل ذئباً ".
ويقول سايمون بولروت، رئيس مؤسسة "ايه دي ايه إن " غير الربحية لتطوير العملات المشفرة، إنَّ الخناق يضيق بالفعل حول مثل تلك العملات المشفرة، التي تحاول توفير استقرار السعر، وهي مدعومة بأصل احتياطي، مع فرض أوروبا المزيد من متطلبات رأس المال الشبيهة بالبنوك.
وفي حال إصدار تلك العملات المشفرة الثابتة، أو المستقرة، فقد ترغب الجهات التنظيمية أيضاً في معرفة كيفية إدارة " ديم" لاحتياطياتها النقدية.
اعرف عميلك
وأما ما يتعلق بمخاطر غسيل الأموال، فسيشترك زوكربرج بلا شك في قواعد "اعرف عميلك"، ولكن ما مدى فعالية تعامل "فيسبوك" مع العناصر السيئة؟ وهل ستطبق العقوبات التي تطبقها الولايات المتحدة خارج الحدود الإقليمية؟
وقد يتساءل المشرِّعون عما إذا كانت " فيسبوك" تحتاج إلى ترخيص مصرفي، وهو أمر لا يريده حقاً. لكن زوكربرج سيجادل، ويقول إنَّ "ديم" مستقلة عن إمبراطوريته، لكنَّها تشبه قرية "بوتيمكين"، بهدف أن تكون واجهة فقط، لشركات أنظمة المدفوعات، والمنظمات غير الربحية، وصناديق رأس المال المخاطر، ولا توجد بنوك، ولا أي من شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة الخمسة المشهورة باسم FAANGs. ولم تعد الشركات التي تركت " ليبرا" مثل "باي بال".
ولا ينبغي التقليل من تصميم زوكربرغ على إطلاق عملته المشفرة " ديم".
ولن يعود مؤسِّس "فيسبوك" للحصول على المزيد فقط، من أجل مواجهة الانتقادات الواسعة النطاق، لكنَّ كبير مسؤوليه للخدمات المالية ديفيد ماركوس يطلب من الجهات التنظيمية "تصديق كلامه". علماً أنَّ هذا النهج لا يصلح للعمل به في ورشة لتصليح السيارات، ناهيك عن البنوك.
ومع ذلك، لا تزال " فيسبوك" تستحق عقد جلسة استماع عادلة، نظراً لأنَّ زوكربرغ قد غيَّر رسالة العملة المشفرة" ليبرا". وفي حال تجاهل مطالب "فيسبوك"، أو عدم عقد جلسة استماع لها؛ فربما تكون المشكلة في " حامل الرسالة".