توجهت روبيرتا بيرازيني إلى منطقة الأركتيك لأداء مهمة لم يسبق لأحد أن قام بها من قبل، وهي إطلاق طائرة "درون" من دون طيار في سماء المنطقة المجاورة للقطب الشمالي.
وخلال هذه المهمة، ستتمكن أجهزة الاستشعار المركبة على الطائرة من قياس أشعة الشمس المنعكسة على الثلج، حيث تعتبر "انعكاسية السطح" أساسية لتقييم كمية أشعة الشمس التي تمتصها الأرض والكمية التي تعيد عكسها إلى الغلاف الجوي. ومن شأن حلّ هذا اللغز العلمي أن يساعد على تحديد سرعة ذوبان الجليد.
إلا أن إطلاق "درون" في أقصى شمال الكرة الأرضية ليس بالمهمة السهلة، فقد أمضت بيرزاني وزميلتها هينا ريتا هانولا أشهراً في دراسة تقنيات الطيران في معهد الأرصاد الجوية الفنلندي، حيث تعملان كعالمتين، في حين تمكّن التقنيون من تصميم وبناء نظام ملاحة قادر على تحمّل الظروف المناخية القاسية هناك.
وفي هذه الرحلة التي طال انتظارها والتخطيط لها، انضمت العالمتان مع طائرتيهما بدون طيار، إلى أكبر بعثة علمية تتجه نحو القطب الشمالي في التاريخ. وكانت وسيلة النقل للجميع كاسحة الجليد "بولارسترن" التي حملت عشرات الباحثين في مهمة استغرقت سنة كاملة. وكان من ضمن أمتعة العالمتين طائرة صغيرة بدون طيار، لتتدربا عليها في داخل مقصورتهما على متن السفينة، حيث كانت الطريقة الوحيدة لتحافظا على مهاراتهما خلال الرحلة التي استمرت أسابيع قبل أن تحط البعثة على الجليد.
في البداية، واجهت بيرازيني المشاكل نفسها التي هزمت أهمّ مستكشفي القطب الشمالي على مدى قرنين من الزمن، وهي ظروف الملاحة الغدارة والتكنولوجيا التي تتعطل كونها لا تحتمل البرد القارس.
فطائرات الـ"درون" والمروحيات تتعرض لخلل في القطب الشمالي لأن الأقمار الصناعية الخاصة بنظام التموضع العالمي تعاني من بعض الشوائب عند خطوط العرض في أقصى الشمال. ويزداد اضطراب نظام الملاحة كلّما اقترب الطيار إلى القطب الشمالي، مع العلم أن طائرات العالمتين تهدف للاقتراب من القطب الشمالي أكثر من أي طائرة أخرى في السابق.
وكان هذا الكابوس الملاحي قد قضى على طائرة بدون طيار في مرحلة سابقة من عمل البعثة، وذلك بعد أن انطلقت من السفينة، وخرجت تماماً عن السيطرة، ثمّ تحطمت. وقد أثار الحادث مخاوف بيرازيني التي خشت أن تلقى طائرتها التي تقيس انعكاسية السطح مصيراً مماثلاً، ويبدو أن مخاوفها قد تأكدت بمجرد أن داست قدماها الجليد. فنظام الملاحة في طائرة الـ"درون" الأساسي توقف عن العمل، ما يعني أنها وزميلتها هانولا اضطرتا لاحتساب المسافات والاتجاه والارتفاع وسرعة الرياح يدوياً.
وقالت بيرازيني بصوت مرتجف في اتصال عبر الأقمار الصناعية في خلال رحلة العودة على متن الـ"بولارسترن" في أكتوبر الماضي: "كانت الأحوال الجوية شديدة البرودة عدوّنا الرئيسي، وأنا لا أعني فقط الجليد المتجمع في شفرات النظام الدوار للطائرة، ولكن أيضاً أعني بين أصابعنا." وتابعت "يجب أن تتحلّى بكثير من الدقة وتقوم بحركات متأنية حين تشغّل طائرة الدرون"، ثمّ أضافت شارحة "حين تكون يداك متجمدتين، تفقد الإحساس، ولا تعد أصابعك قادرة على التحكم بالوظائف".
ونتيجة البرد القارس، يتحوّل الضباب إلى جليد حول شفرات الطائرة، كما يؤدي هبوب الرياح بقوة تتجاوز الثمانية أمتار في الساعة إلى سقوط الطائرة. مع ذلك، تمكنت العالمتان من إطلاق 18 رحلة جوية في غضون ثلاثة أسابيع. وسيتم الآن تحليل مستويات انعكاسية السطح التي سجلتها بيرازيني البالغة من العمر 49 عاماً وهانولا البالغة من العمر 33 عاماً، وذلك ضمن إطار الجهود متعددة الجنسيات الرامية لفهم كيفية تأثير ارتفاع درجات حرارة الأرض على القطب الشمالي من ضمن السباق العالمي لمواجهة التغير المناخي.
ويشهد الغطاء الجليدي الشمالي للكرة الأرضية ارتفاعاً بدرجات الحرارة أسرع بثلاث مرّات من المناطق الأخرى على كوكب الأرض، ما يهدد النظام البيئي الهشّ هناك. وكان الجليد البحري في القطب الشمالي الذي يذوب في الصيف ويتجمد في أشهر الشتاء، قد تقلّص إلى ثاني أدنى معدّل له في شهر سبتمبر، وهو الشهر الذي عادةً ما يكون فيه الغطاء الجليدي في أدنى مستوياته. وكان أدنى معدّل للغطاء الجليدي البحري في القطب الشمالي قد سُجّل في عام 2012.
وفي سبتمبر حدث ذلك إثر موجة حرّ أدت إلى ظروف جوية دافئة بشكل خارج عن المألوف في منطقة سيبيريا في القطب الشمالي، ما صعّب إعادة تشكّل الجليد. وفي أكتوبر، سجل الجليد البحري في القطب الشمالي أدنى مستوى له لهذا الوقت من العام، منذ بدء المراقبة بواسطة الأقمار الاصطناعية في عام 1979. حيث تراجع بنسبة 37% بالمقارنة مع مستواه التاريخي.
وقالت سمانثا بورغيس، نائبة مدير هيئة كوبرنيكوس للتغير المناخي في أوروبا إنه "في هذا الوقت سنة 2012، كان الجليد قد بدأ بإعادة التشكل" وأردفت "لا يزال من المبكر معرفة عواقب هذا الأمر على ما تبقى من الفصل، ولكن ذلك سيؤثر على الأرجح على شبكة الغذاء البحرية".
حين بدأت بيرازيني بإطلاق طائرات الدرون في أغسطس، كان الجليد البحري في القطب الشمالي قد تراجع إلى أدنى مستوى تاريخي مسجّل له لذلك الشهر. وقد مكّن انخفاض مستوى الجليد المقلق سفينة الـ"بولارستيرن" من الوصول إلى القطب الشمالي عبر مضيق فرام في النرويج في غضون ستة أيام فقط. وقالت بيرازيني "كانت هناك مساحات من المياه المفتوحة في كلّ مكان، وكان الوصول سهلاً جداً". وأضافت "هذا ليس بالأمر الجيد بالنسبة لمستقبل القطب الشمالي، فهذه بيئة هشة جداً وهي تتغير بدون عودة".
ويكتسب قياس انعكاسية السطح أهمية إضافية في ظلّ تقلّص الغطاء الجليدي. فالأسطح البيضاء في القطب الشمالي تعكس الترددات الشمسية إلى الغلاف الجوي، فيما تمتص الأسطح الزرقاء للمحيطات هذه الترددات. ولكن لا تعكس كلّ مناطق الجليد الترددات الشمسية بالمستوى عينه، لذا يحاول العلماء تبيان كمية الأشعة الشمسية التي يمتصها الجليد الموجود تحت المياه السطحية الناتجة عن الذوبان بشكل خاص، والتي تتوسع أكثر فأكثر مع ارتفاع درجات الحرارة.
وعلى الرغم من إمكانية مراقبة منطقة الجليد البحري بواسطة الأقمار الصناعية، إلا أن القياسات الأخرى الضرورية من أجل تبيان سرعة ذوبان الجليد، لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الاقتراب من الأرض. فهذه البيانات التفصيلية الدقيقة أساسية من أجل اكتشاف الأسباب الأخرى المؤدية للتغير المناخي، من ضمنها كيفية انتقال الحرارة داخل الجليد وإلى الغلاف الجوي والمياه.
كان العلماء يستخدمون في السابق الطائرات والمروحيات لقياس انعكاسية السطح، إلا أن طائرات الـ"درون" أقل تكلفة، ويمكن أن تحلّق في ظلّ أحوال جوية سيئة وحتى تحت السحب المنخفضة. وقد حلقت طائرات بيرازيني على ارتفاع يتراوح بين خمسة و30 متراً فوق الجليد"، وقالت: "تحقق تقنية الطائرات بدون طيار تطوراً جديداً كلّ شهر وكلّ يوم"، وأضافت "نحن لا نزال في بداية الطريق، وأعتقد أن هذا المجال سيتوسع أكثر لأن هذه القياسات فريدة من نوعها وضرورية".
ويعتري إطلاق طائرات "درون" في القطب الشمالي الكثير من المخاطر، فقد تعيّن على بيرازيني وهانولا اجتياز تصدّع في الجليد على متن مركب طواف خاص. حتى أنه في أحد الأوقات، اضطرت بيرازيني أن تجثو فوق المركب على مياه البحر الجليدية وهي تمسك بطائرتها المغلفة بإحكام، فيما كانت هانولا تستخدم عصا طويلة لتساعدها على التمكّن من الرسو بالطوف بأمان.
هذا وأثبتت الطائرات بدون طيار مرونتها تجاه الظروف الجوية القاسية في القطب الشمالي أكثر من بعض الأجسام الطائرة الأخرى التي كانت بحوزة البعثة. فالمنطادان المربوطان بحبل، واللذان أطلق عليهما اسم "بيلوغا" و"ميس بيغي" كانت تتم حمايتهما من الظروف المناخية القاسية داخل خيمة برتقالية اللون، أطلق عليها اسم "بلدة المناطيد".
وقالت بيرازيني ضاحكة: "في بعض الأحيان، كان منطاد "ميس بيغي" يسيء التصرف، ويحلّق على ارتفاع منخفض جداً". وأضافت أنه حين يحصل ذلك "يجب أن نتأكد بأن طائرة الـ"درون" غير موجودة على مقربة منه".
وتضمنت البعثة العلمية بين تجهيزاتها على متن سفينة "بولارسترن"، مروحية والعديد من المناطيد الأخرى المجهزة بنظام راديو لجمع ونقل البيانات عن الحرارة والرطوبة واتجاه الرياح وسرعتها.
وقد تم إطلاق 1544 منطاداً بشكل إجمالي، بمعدّل ثمانية في اليوم في خلال 12 شهراً، والتي غالباً ما زينها العلماء بأسماء ورسائل لمناسبات وأعياد ميلاد أفراد عائلاتهم.
كان مئات العلماء من عشرين دولة مختلفة قد تناوبوا على متن سفينة "بولارسترن" في إطار بعثة "مرصد دراسة المناخ في القطب الشمالي" (MOSAIC). وتعتبر هذه البعثة التي يقودها معهد "ألفرد فيغنر للبحوث القطبية والبحرية" الأولى من نوعها في التاريخ الحديث، من حيث مكثها شتاءً كاملاً على مقربة من القطب الشمالي. وانتهت مهمة البعثة التي تبلغ ميزانيتها أكثر من 140 مليون يورو (165 مليون دولار) في 12 أكتوبر، وذلك بعد 386 يوماً في البحر.
وقالت بيرازيني: "قد يجبرنا التغير المناخي على تنظيم المزيد من البعثات المشابهة، لأنه سيكون من الضروري التصرف لفهم عواقب ما يجري". وتابعت: "رسمت هذه البعثة مساراً جديداً للبحوث، وأشعر أن من مسؤوليتي الحرص على الاستفادة منها قدر المستطاع".