مع اقتراب انعقاد دورة الألعاب الأولمبية هذا العام، تبقى ذكرى أولمبياد طوكيو لعام 1964، خالدة في أذهان سكان المدينة. فبداية من القطار الشهير إلى طريق المتروبوليتان السريع، ومساحات حديقة "يويوغي"، فإن إرث الأولمبياد، لا يزال حاضراً في كل مكان بالمدينة.
وكانت هذه المشاريع الطموحة تعكس روح العصر آنذاك، فضلاً عن أن التخطيط الحضري كان جزءاً من جهود التجديد غير المسبوقة في اليابان. وعلى نفس المنوال تقريباً، فإن الاستعدادات الأكثر تواضعاً لدورة ألعاب طوكيو 2020 (احتفظت الدورة باسمها رغم تأجيلها بسبب الوباء)، تعد انعكاساً للواقع الاقتصادي الحالي في البلاد.
اليابان بعد الحرب
شكّلت أولمبياد 1964 فرصة نادرة للمسؤولين حينها، لتنفيذ التغييرات السريعة والشاملة، والتي عادة ما تعرقل الحياة في المدينة وتتطلب تقديم العديد من التضحيات الثقافية. وكانت النتيجة، أنه عند توجّه الزوار لحضور دورة الألعاب في طوكيو، لم يجدوا أمامهم مدينة مزقتها الحرب، بل رأوا مدينة حديثة، ذات وسائل نقل متطورة. بداية من مطار رائع تم تحديثه وفنادق جديدة ذكية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحولت الآثار القديمة للمنشآت العسكرية في جنوب غرب طوكيو هي أيضاً، لتصبح مراكز اقتصادية وثقافية جديدة للمدينة، ولتمثل بذلك رمزاً لمستقبل سلمي ومزدهر.
عن ذلك، تقول شونيا يوشيمي، أستاذة علم الاجتماع والدراسات الثقافية والإعلام بـ"جامعة طوكيو"، إن "شعار أولمبياد 1964 كان: أسرع، أعلى، أقوى". ويوشيمي هي مؤلفة كتاب "الألعاب الأولمبية وما بعد الحرب".
وأضافت يوشيمي: "شعار الأولمبياد هذا، أصبح شعاراً للحكومة اليابانية، والتي سعت لتكون طوكيو بحد ذاتها مدينة أسرع وأعلى وأقوى".
وتيرة متسارعة
عندما فازت اليابان باستضافة دورة الألعاب الأولمبية في عام 1959، كانت البلاد في بداية توجهها نحو الازدهار الاقتصادي، وكانت طوكيو لا تزال عالقة بين الدمار والتعافي.
حيث كانت أنظمة الصرف الصحي السيئة تلوّث الأنهار، مع سوء أنظمة مياه الشرب، وانخفاض جودة الهواء. في نفس الوقت، كانت شبكة الطرق سيئة، بينما يرتفع مستوى الاعتماد على السيارات، وهو ما يعني مزيداً من الطرق المزدحمة. وتزامن هذا مع ارتفاع الكثافة السكانية في البلاد من 3.49 مليون نسمة فقط في عام 1945، ليصل إلى 10 ملايين بحلول عام 1963. وهو ما أثر بدوره على مشاريع الإسكان التي حاولت مواكبة هذا النمو.
وكانت السمة العامة للمدينة تتضمن "زحفا عمرانيا من المنازل الخشبية المتهالكة" و"الأكواخ البسيطة". وذلك حسبما كتب الصحفي روبرت وايتنغ، في سيرته الذاتية "طوكيو جنكي"، والذي وصل للمدينة في عام 1962 بصفته جندياً أمريكياً.
وكان يُنظر لفكرة التعبئة العمرانية السابقة للألعاب الأولمبية آنذاك، ربما بشكل أقل تشككاً مما هو عليه اليوم، حيث كانت تمثل فرصة للتنمية قبل كل شيء. وفي ظل اقتراب دورة الألعاب المقبلة، ارتفعت وتيرة البناء المحمومة بالفعل بشكل أكبر.
فرصة للتنمية
في ذلك الوقت، سرّعت الحكومة العمل على المشاريع الطرق، مثل طريق ميتروبوليتان السريع، الذي يمر بين المباني وفوق الأنهار وتحت الأرض، في طريقة بناء هي أرخص وأسرع من شراء الأراضي الخاصة والبناء عليها. كما عملت الحكومة أيضاً على تحسين شبكات المياه ووسعت مترو الأنفاق.
في الوقت نفسه، بدأت تتسارع وتيرة انتشار المباني والفنادق الفاخرة مثل فندق "نيو أوتاني" المكون من 17 طابقاً. الذي كان أكبر مبنى يشيد في اليابان لاستيعاب الزوار الأجانب. وجرى أيضاً تطوير المراحيض ذات الطراز الغربي، التي كانت غير شائعة في البلاد خلال ذلك الوقت.
وبينما، كانت طوكيو لا تزال تضم العديد من معسكرات الجيش الأمريكي، منحت الأولمبياد القادة اليابانيين فرصة للضغط من أجل استعادة المزيد من الأراضي. وجاءت هذه الضغوط في مرحلة كانت فيها الولايات المتحدة على استعداد للحد من وجودها في البلاد.
مواقع تاريخية
واستهدف منظمو الأولمبياد اليابانيون كذللك، معسكر "دريك" ذو المساحات الشاسعة، الواقع في أقصى شمال غرب المدينة. في حين عرضت الولايات المتحدة إعادة "مرتفعات واشنطن"، الذي كان معسكر أصغر حجماً، يقع في مكان متميز بجوار ضريح الإمبراطور ميجي، مؤسس اليابان الحديثة. وقد عارض المنظمون في البداية فكرة بناء مرافق رياضية في مثل هذه المواقع العقارية ذات الشعبية. لكن ذلك كان قبل أن تصبح المنطقة في النهاية موطناً للقرية الأولمبية والصالة الرياضية الوطنية. وسمح التصميم الرائد للسقف المعلق الشهير للمهندس المعماري كينزو تانغ, للمبنى بالاستغناء عن الأعمدة وتوفير مساحة كبيرة تحت السقف المنبسط.
وكتب تاكاشي ماتشيمورا، أستاذ علم الاجتماع في "جامعة هيتوتسوباشي": "تحويل المرافق الإمبراطورية والعسكرية التي تتركز في غرب طوكيو إلى بنية تحتية جديدة، أمراً عزز التطوير الحضري لهذه المناطق، وسط فجوة الفوارق بينها وبين المركز التقليدي للمدينة في الشرق".
مركز شبابي جديد
جذبت الألعاب الرياضية الشباب إلى أحياء شيبويا ويويوغي وهاراجوكو، وهي أحياء لا تزال تمثل حتى اليوم نقطة هامة لثقافة الشباب الياباني. كما أنها حثت هيئة الاذاعة اليابانية على بناء مقر جديد بالقرب منها، وجذبت شبكات البث والشركات والمتاجر الأخرى.
وفي النهاية، تم تحويل القرية الأولمبية إلى حديقة "يويوغي"، وهي واحدة من حدائق المدينة الكبيرة القليلة المناسبة لأنشطة مثل الركض والتنزه، وتحظى بشعبية كبيرة لقربها من مناطق شيبويا وهاراجوكو. كما أسهمت الفنادق الفاخرة في تحويل المنطقة إلى وجهة للمسافرين بغرض الترفيه والعمل.
في هذا الصدد، كتب كريستيان تاغولد، الأستاذ في قسم اليابان الحديثة في "جامعة هاينرش هاينه" في دوسلدورف: "إذا نظرنا إلى الأراضي التي استحوذت عليها أولمبياد طوكيو عام 1964، يمكن للمرء أن يرى أن الألعاب قد حلت محل التاريخ ووضعت في سياق تاريخي بسبب قربها من ضريح ميجي".
فشل في تحقيق الأهداف
في عام 1964، عزمت اليابان على استخدام الألعاب الأولمبية لإثبات براعتها الاقتصادية والتكنولوجية. لكنها لم تستطع الحفاظ على روح مشابهة في ألعاب طوكيو 2020، حيث كانت هذه المرة، أجندة التخطيط الحضري أقل طموحاً بكثير من حيث التصميم.
وحتى تستطيع مواجهة الانتقادات المتزايدة حول تكلفة الأولمبياد وتأثيراتها السلبية، كانت اللجنة الأولمبية الدولية حريصة على إظهار أن المدن الناضجة يمكنها أيضاً استضافة الحدث بأقل قدر من الاضطرابات. وفي عام 2013، قدمت طوكيو عرضها لاستضافة أولمبياد "مُحكمة"، حيث تبقى الملاعب الرئيسية على بعد ثماني كيلومترات من القرية الأولمبية. لكن مشاريع المدينة أخفقت بشكل كبير ، حتى في تحقيق هذه الأهداف المتواضعة.
مشاريع متوقفة
تم إلغاء مخطط لإعادة بناء الملعب الوطني القديم، نظراً لحالة الذعر التي أثيرت بسبب كلفة التجديد البالغة 2 مليار دولار، فضلاً عن تقاطعه مع منطقة ميجي جينغو غايين التاريخية المحيطة به. لذلك شُيد هيكل أكثر تواضعاً في عام 2019، لكن تلك الخلافات نجحت بإخماد شعور الحماس تجاه الألعاب الأولمبية. وفي الوقت نفسه، أسهمت الجهود المبذولة لخفض تكاليف استضافة الأولمبياد الضخمة، من خلال استخدام المرافق الرياضية الحالية، الواقعة بعيداً، في تقويض هدف خطة الأراضي المحدودة للأولمبياد الحالية.
كما فشل تطورير "طوكيو باي" الواقع جنوب شرق المدينة في جذب الانتباه الوطني. وتعرضت القرية الأولمبية العاملة بالهيدروجين في جزيرة هارومي للتأخير بسبب تفشي وباء كورونا. لذلك تبقى هارومي فارغة، وهي التي كان يُفترض بها بأن تكون حالياً مشروعاً سكنياً متكاملاً. بينما تقف الآن كمدينة أشباح مغلقة أمام الجمهور حتى يصل الرياضيون إلى طوكيو.
وعلى الصعيد الإيجابي، طورت الحكومة تسهيلات لمستخدمي الكراسي المتحركة وغيرهم، في جميع أنحاء المدينة. لكن معظم جهود طوكيو يُنظر إليها باعتبارها جهود انتهازية في مجال العقارات التجارية، على عكس جهود التجديد في مدن استضافت الألعاب الأولمبية، مثل لندن التي استضافتها في عام 2012.
وفي الواقع، شهد "حي شيبوبا" عمليات التطوير الأكثر إثارة في طوكيو، حيث كانت تلك التطورات مدفوعة أساساً من قبل الشركات الخاصة المنجذبة إلى الأولوية الاقتصادية والثقافية للمنطقة، والتي تعد الإرث الرئيسي الذي خلفته أولمبياد 1964.
ماذا عن الدورة الحالية؟
حالياً، تشمل المشاريع إقامة مرافق تجارية متعددة الاستخدامات حول المحطة، مثل مركز التسوق "شيبويا هيكاري" ومجمع "شيبويا سكرامبل". وهما مبنيان يزيد ارتفاع كل منهما عن الـ 30 طابقاً. كما تمت إعادة توجيه نهر شيبويا وتشييد ممشى. وأصبح منتزه مياشيتا، الذي كان يُعرف سابقاً بسكانه من المشردين، مركزاً تجارياً بمساحات خضراء تمتد على سقفه.
ولا شك بأن، التحول الحضري غير المسبوق لطوكيو في الفترة السابقة لعام 1964، قدم خارطة طريق للمدن الصاعدة، مثل سول وبكين. اللتين استضافتا الأولمبياد في عامي 1988 و2008 على التوالي. وقد سعت المدينتان لاستضافة الألعاب لتحقيق منافع اقتصادية وللظهور على المسرح العالمي.
وفي ظل تصاعد الانتقادات حول أعمال التطوير المتعلقة بالأولمبياد، بداية من التكاليف إلى أعمال البناء التطوير، يبحث المنظمون عن نموذج جديد. إذ يبدو أن العاصمة اليابانية أضاعت فرصتها في تقديم تلك الرؤية هذه المرة، وأثارت تساؤلات حول قيمة الألعاب الأولمبية بالنسبة للمدن الناضجة.
وتقول أستاذة علم الاجتماع يوشيمي: "نحن بحاجة إلى تغيير فكرتنا عن المدن، من فكرة أسرع وأعلى وأقوى، إلى أكثر متعة ومرونة واستدامة"، وأضافت: "الألعاب الأولمبية لا تخدم بالضرورة هذا الغرض".