إنّ الخوف من أن تؤدي جهود الصين الرامية إلى تفريغ الفقاعة العقارية عندها إلى أزمة تلحق أضراراً بالاقتصاد، بل ويمتد تأثيرها حتى تهديد انتعاش الاقتصاد العالمي، ينطوي على مفارقة ربما رصدها القراء الواعوان مباشرة.
فإذا أدرك زعماء البلاد أن نتائج تطبيق إجراءات صارمة في سوق العقارات مدمرة إلى هذه الدرجة، فإنهم يستطيعون دائماً أن يتخذوا قراراً بألا يفعلوا.
شدٌ وجذب
في واقع الأمر، كان هذا دائماً تاريخ حملة الصين لكبح جماح الزيادة التي لا تنتهي في أسعار المنازل، فكانت تشتد تارة وتهدأ تارة، على الأقل منذ انتقال كاتب هذه السطور إلى شنغهاي عام 2004 وبقائه هناك لمدة 5 أعوام.
اشترى مراسلكم وحدة سكنية في المدينة في أوائل عام 2005، قبل أن يعلن المسؤولون مباشرة عدداً من الإجراءات لمواجهة المضاربة، ما تسبب في ذلك الانزعاج الذي يصاحب الشراء للمرة الأولى.
نصحني أحد المستثمرين الأكثر خبرة في شنغهاي قائلا: "لا تنزعج من ذلك، فقد خبرت كل هذه الأمور من قبل". وكان على حق.
كانت عملية نمطية، ما إن تتوقف حتى تبدأ من جديد. في البداية، تؤثر سلسلة من الإجراءات الإدارية –مثل زيادة أسعار فائدة الرهن العقاري، أو فرض قيود على بيع الوحدات، أو فرض ضرائب أرباح رأسمالية– بعض التأثير، فتكبح زيادة الطلب وحركة الأسعار، لكنها لا تغير الاتجاه طويل المدى.
وما إن يضعف النمو الاقتصادي وتتدفق الأموال من الصنابير حتى تتبدل الأولوية السياسية إلى دعم التوسع، وتنسى مؤقتاً ضرورة تهدئة أسعار المنازل.
أرباح سهلة وآمنة
في نهاية المطاف يعلو نمو الائتمان فوق السياسات الجزئية، فقد يتمنى المسؤولون أن توجه القروض نحو مجالات إنتاجية أكثر استحقاقاً لها مثل الشركات الصناعية الصغيرة أو المشروعات التكنولوجية الناشئة، غير أن النقود بطريقة أو بأخرى تكتشف مسارها نحو الأرباح الأسهل والأكثر أماناً في مجال الاستثمار العقاري.
بدرجة ما ولكل هذه الأسباب يصعب أن نستوعب المخاوف من إجراءات الصين للسيطرة على السوق العقارية. هذه الإجراءات قد تكون "لحظة فولكر" الصينية التي تشير إلى تباطؤ اقتصادي أسوأ كثيراً من التوقعات، وعجز عن سداد القروض والسندات، وأزمة محتملة في أسواق الأسهم، حسب اقتصاديين لدى بنك "نومورا هولدينغز".
ويرى "بنك أوف أميركا" أن شح الائتمان "شديد بلا ضرورة تستدعي ذلك"، وقد يشكل عبئاً على الطلب الصناعي والاستهلاكي.
وقد تندلع أزمة إذا انخفضت أسعار المنازل إلى مستوى يقل عن قيمة الرهن العقاري، كما ورد في تصريح للاقتصادي لي يانغ المقرب من الدولة.
موقف مختلف
بمعنى آخر، هذه المرة مختلفة، وهي عبارة تعرف أحياناً بأنها أخطر كلمات في المجال المالي.
ليس لدى بنك "نومورا" أدنى شك، "فهذه المرة مختلفة" كما يقول، وقد كرر هذه العبارة في تقريره ثلاث مرات.
كشفت بكين عن "إصرار غير مسبوق" على تطبيق سياسة متشددة على قطاع العقارات وعلى تهدئة الأسعار. ويرتبط هذا الإصرار برغبتها في تحقيق ثلاثة أهداف طويلة الأجل، كما يوضح "نومورا"، وهي: تخفيض الاعتماد على السلع الأجنبية عالية التكنولوجيا، ورفع معدل المواليد، وتخفيف مشكلة عدم المساواة في الثروة.
"لحظة فولكر"
يُنسب مصطلح "لحظة فولكر" إلى بول فولكر، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سابقاً، الذي رفع سعر الفائدة بالولايات المتحدة إلى 20% في أوائل ثمانينيات القرن العشرين لمكافحة التضخم والقضاء عليه.
وكانت النتيجة المتوقعة هي الركود العميق في الاقتصاد، رغم أنه ركود وضع الأساس لما أعقبه من نمو اقتصادي طويل الأجل بالولايات المتحدة. ومن وجهة نظر اقتصاديي بنك "نومورا"، يبدو أن بكين كذلك "مستعدة للتضحية ببعض الاستقرار في نموها الاقتصادي" من أجل تحقيق أهدافها طويلة الأجل.
أزمة ديون وركود
هناك بعض جوانب الاختلاف، أحدها أن الولايات المتحدة لم تكن نائمة على فقاعة ائتمانية عملاقة عندما بدأ فولكر في زيادة أسعار الفائدة. وكان الركود الذي أطلق شرارته ركوداً عنيفاً ولكنه قصير الأجل.
وإذا انخفضت أسعار العقارات في الصين انخفاضاً كبيراً فسوف يتسبب ذلك في أزمة ديون وركود ناتجة عن ضعف الإنفاق، قد تكون أطول أمداً بكثير.
وربما كانت المقارنة مع انفجار فقاعة الأصول في اليابان في نهاية ثمانينيات القرن العشرين أقرب من المقارنة مع "لحظة فولكر"، فقد دفع انفجار الفقاعة الاقتصاد الياباني في ذعر استمر عقوداً.
مخاطر كارثية
حقيقة الأمر أن قطاع العقارات في الصين من الضخامة والأهمية الاقتصادية والمغالاة في الأسعار ما يجعل من الصعب إعادة هيكلته دون المخاطرة بعواقب غير محسوبة قد تكون كارثية.
يقول المحللون إن استمرار الإجراءات الصارمة في سوق العقارات ينطوي ضمنياً على رهان على قدرة بكين على ضبط هذه العملية، فتختار درجة التأثير السلبي التي تكون مستعدة لتحملها في مقابل أن يصغر حجم هذا القطاع وألا يبالغ في تمدده وتوسعه.
فإذا تمكن المسؤولون الصينيون من تحقيق ذلك فسيكون ذلك عملاً من أعمال الإدارة الاقتصادية رائعاً ومثيراً للإعجاب.
"الرخاء المشترك"
تخفف السياسة من حدة أي تحوّل جذري في المدى القريب. سوف يسعى الرئيس شي جين بينغ إلى ولاية رئاسية ثالثة خلال مؤتمر الحزب الشيوعي في العام القادم، وأي اضطرابات تحدث قبل ذلك التاريخ سوف تكون ضارة.
يلعب خطاب "الرخاء المشترك" دوراً جيداً وسط أولئك الذين لم تشملهم معجزة الصين الاقتصادية. كانت العقارات إحدى الروافع الرئيسية لمشكلة عدم المساواة، لذلك سوف يسعدهم أن تنخفض أسعار المنازل، غير أن البلاد يوجد بها حالياً مئات الملايين من ملاك العقارات، فكيف يكون شعورهم إذا انخفضت قيمة وحداتهم بنسبة 30% أو 50% أو 70%؟
إذا تراكمت الدلائل على شروخ خطيرة أو أزمات اقتصادية فسوف تزداد احتمالات أن يغير صناع السياسة مسارها وأن يخففوا من صرامتها، كما فعلوا ذلك في الماضي.
وقد تنتظر قطاعَ العقارات في الصين أزمةٌ هائلة كما يقول جورج سوروس، لكن يُحتمل أن تكون أزمة ناتجة عن صدفة تعتري السوق أكثر منها نتيجة سياسة تختارها الحكومة عمداً. فلا تزال لحظة "ليمان براذرز" في الصين هي اللحظة التي يجب مراقبتها.