ستؤثر توقعات بلوغ النفط ذروته، والنهاية الوشيكة للوقود الأحفوري، على مصافي النفط الآسيوية بشكلٍ خاص، حيث إن المنطقة هي موطن لثلاث من أكبر أربع دول العالم استهلاكاً للنفط، وأكثر من ثلث قدرة معالجة النفط الخام العالمية أيضاً.
ومع ذلك، فإن مصافي التكرير الآسيوية تتوسع بوتيرة سريعة، حتى أنها تبني مصانعَ جديدة ضخمة مصممة للعمل لمدة نصف قرن على الأقل.
ما الذي يجري؟
بعد قرن من تشغيل المركبات في العالم، يتعين على مصافي النفط التخطيط لمستقبلٍ خالٍ من النفط في التنقل، حيث تبدأ السيارات في التحول إلى البطاريات الكهربائية، وتحرق السفن الغاز الطبيعي، كما يجلب الابتكار مصادر أخرى للطاقة مثل الهيدروجين.
وتتوقع مجموعة "غولدمان ساكس غروب" أن الطلب على النفط لوسائل النقل سيبلغ ذروته في وقت مبكر من عام 2026.
ومع ذلك، حتى مع إعلان عدد كبير من عناوين الصحف عن قيام شركة النفط البريطانية العملاقة "بريتش بتروليوم" ببيع حقولها الثمينة في ألاسكا أو شركة "رويال دتش شل" التي توقف المصافي من لويزيانا إلى الفلبين، فإن مصافي التكرير الكبيرة في آسيا تخطط لعملية تحول أطول بكثير.
وتضاعفت طاقة التكرير الصينية ثلاث مرات تقريباً منذ مطلع الألفية، وستنهي الصين أكثر من قرن من الهيمنة الأمريكية هذا العام. وستستمر قدرة الصين في الصعود حتى تصل إلى حوالي 20 مليون برميل يومياً بحلول عام 2025، من 17.4 مليون برميل في نهاية عام 2020.
كما تزداد قدرة معالجة الهند بسرعة، ويمكن أن تقفز بأكثر من النصف إلى 8 ملايين برميل يومياً في نفس الوقت.
تركز استهلاك الطاقة في آسيا
قال "جيريمي بينثام"، نائب رئيس بيئة الأعمال العالمية في شركة "رويال دتش شل": "ستكون آسيا مركزاً للنشاط العالمي، وبالتالي فإن الخيارات التي يجري اتخاذها في آسيا حول الريادة في تطوير التكنولوجيا الأنظف، أو لا، مهمة جداً".
وأضاف: "ستتمحور التنمية الاقتصادية حول آسيا، وبالتالي سيكون استهلاك الطاقة متمركزاً في آسيا، ومن ثم فإن الفرصة لأخذ زمام المبادرة في نشر التقنيات النظيفة موجودة".
بدأت شركات التكرير الطريق الطويل لإعادة اختراع أعمالها. كانت هناك موجة من الإعلانات من محطات المعالجات في كوريا الجنوبية والصين والهند في الأشهر القليلة الماضية حول أهداف "صافي انبعاثات صفري"، والتحول إلى الهيدروجين والتقاط الكربون. ولكن وراء تلك الوعود، هناك نموذج أعمال سيستمر في الاعتماد لعدة عقود على الطلب المتزايد على وقود المركبات التقليدي وحتى النمو الأسرع في استخدام البتروكيماويات والبلاستيك.
قال"سوشانت جوبتا"، مدير الأبحاث في آسيا والمحيط الهادئ لأسواق التكرير والنفط في شركة "وود ماكينزي": "يحدث تحول الطاقة بعدة طرق بالفعل، لكن في آسيا، على مدى العقدين المقبلين، ما زلنا نرى طلباً على وقود النقل، وسيكون أبطأ، لكنه سيظل موجوداً".
هنا، إذن، هي خارطة طريق لمصافي النفط الآسيوية للوصول إلى عام 2100 من خلال تكييف أعمالهم على مراحل.
1. استمر في صنع البنزين
قد يكون البنزين والديزل للمركبات، أول منطقة إنتاج رئيسية تختفي من المصافي، ولكن من غير المرجح أن يحدث ذلك قريباً في آسيا. ويتوقع مستشار القطاع في شركة "فاكتس غلوبال إنرجي" (FGE) أن يجري وقف حوالي 3.5 مليون برميل يومياً من الطاقة العالمية بحلول نهاية عام 2023 – وهو يزيد بنحو مليون برميل عما جرى الإعلان عنه بالفعل. لكن مصافي التكرير الكبيرة والجديدة في آسيا تتمتع بميزة المرافق الحديثة التي تقع بالقرب من الأسواق النامية.
دخل مصنع شركة "رونغ شنغ بتروكيميكال كو" الذي تبلغ طاقته الإنتاجية 800 ألف برميل يومياً، في منطقة "تشوشان" حيز التشغيل الكامل هذا العام، وسيخصص طاقته الإنتاجية بنسبة 30% تقريباً، لإنتاج وقود النقل، معظمه من البنزين والديزل، و70% لإنتاج البتروكيماويات.
وبدأت شركة "هينغلي بتروكيميكال" في تشغيل مصفاة تكريرها البالغة 400 ألف برميل يومياً في شمال شرق الصين في أواخر عام 2018، والتي يمكن أن تنتج ما يقرب من 10 ملايين طن سنوياً من البنزين والديزل ووقود الطائرات.
بينما تنتج المصافي الآسيوية المزيد من وقود المركبات، ومن المرجح أن تشهد محطات معالجة النفط في الأسواق الغربية الناضجة ذروة الطلب في وقت أقرب، حيث يتحول صانعو السيارات إلى الدفع الكهربائي.
بالفعل، بالنسبة لمنشأة تابعة لشركة "شل" في ولاية لويزيانا الأمريكية وثلاثة مصانع تابعة لشركة "ماراثون بتروليوم كورب" واثنين لشركة "فيليبس 66" فإنه يجري إغلاقها أو تحويلها إلى محطات نفط أو مصانع وقود حيوي بسبب القلق من أن الطلب على البنزين لن يتعافى أبداً من الركود الناجم عن وباء فيروس كورونا.
وما يقرب من 80% من إنتاج المصافي الأمريكية في المتوسط عبارة عن بنزين أو نواتج التقطير المتوسطة، وهي فئة تتكون في الغالب من الديزل، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
وقال "جوبتا": "ستكون هناك إغلاقات وسيكون هناك تغير في مصافي التكرير الحالية لتحويل العائدات من وقود النقل إلى البتروكيماويات". ومع ذلك، يتوقع أن تنخفض عائدات البنزين والديزل على مستوى العالم بنسبة 2.5% إلى 3% فقط بحلول عام 2040.
ستستمر بعض أسواق الوقود لفترة أطول من غيرها. في حين أن الغاز الطبيعي والبدائل أصبحت وقوداً مهماً بشكل متزايد للسفن الكبيرة، فسيستغرق الأمر عقوداً لفطام أسطول العبَّارات وسفن الصيد والمراكب الصغيرة عن الديزل البحري.
ومن المحتمل أن يظل الكيروسين النفاث (وقود الطائرات النفاث) هو وقود دفع المحرك الوحيد الملائم للطائرات الكبيرة حتى النصف الثاني من القرن الحالي.
2. إنتاج المزيد من البلاستيك
يمكن تحويل المزيد من السعة الإنتاجية، إلى البلاستيك ومادة البوليمرات بسهولة نسبياً، باستخدام المصانع الموجودة حالياً. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن تشكل البتروكيماويات أكثر من ثلث نمو الطلب العالمي على النفط حتى عام 2030 وما يقرب من النصف حتى عام 2050.
حتى لو انتعش الحافز للتخلص من المواد البلاستيكية ذات الاستخدام للمرة الواحدة في عالم ما بعد انتهاء مرض كوفيد، فمن المتوقع أن يستمر ارتفاع الطلب على المنتجات البتروكيماوية الأخرى، والتي تشمل كل شيء بداية من أنابيب المياه وصولا إلى طلاء الأظافر.
وستؤدي الطبقة الوسطى الآخذة في التوسع في آسيا إلى زيادة الطلب على السلع الاستهلاكية والمواد البلاستيكية المستخدمة في المباني والتغليف. ومن المفارقات أنه حتى مصنعي السيارات والطائرات سيستخدمون المزيد من البلاستيك؛ حيث يسعون جاهدين لتخفيف وزن المركبات للوفاء بمعايير الانبعاثات، وفقا لشركة "أف جي إي".
والنتيجة الإجمالية هي أن الاستهلاك العالمي للبلاستيك سيرتفع بأكثر من 60% عن مستويات 2019، ليقترب من 600 مليون طن بحلول عام 2050، مما يتطلب من المصافي إنتاج 7 ملايين برميل إضافية يومياً من المادة الخام الأولية، حسبما قالت مجموعة "أف جي إي".
وقال مصرف "غولدمان ساكس" الشهر الماضي: "ستصبح البتروكيماويات هي المصدر الأساسي الجديد للطلب على النفط، مدفوعة بالنمو الاقتصادي وزيادة الاستهلاك خاصة في الأسواق الناشئة".
تقود الصين، أكبر سوق، عملية التحول. ويمكن للمصافي الضخمة الجديدة في البلاد تحويل ما يصل إلى نصف النفط الخام إلى بتروكيماويات، وهو أكثر بكثير من المعدل التقليدي للإنتاجية الذي يتراوح بين 10% و15% لمعظم محطات المعالجة.
في كوريا الجنوبية، وهي موطن لثلاثة من أكبر 10 مجمعات تكرير في العالم، ستبدأ أربع وحدات تكسير بخارية جديدة على مدى 4-5 سنوات قادمة لتصنيع الإيثيلين، وهي حجر الأساس لتصنيع البلاستيك، وفقا لـ "جوبتا".
وتخطط شركة "ريلاينس إندستريز ليمتد" الهندية، التي تمتلك أكبر مجمع تكرير في العالم، لاستبدال مبيعات وقود الطرق مثل الديزل والبنزين، لتنتج في النهاية وقود الطائرات والبتروكيماويات فقط، كجزء من خطة للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2035.
وتهدف شركة "ريفال إنديان أويل كورب"، أكبر شركة تكرير في البلاد، إلى مضاعفة إنتاج البتروكيماويات من مصافيها التسعة.
3. التحول إلى الهيدروجين
في نهاية المطاف، ستجف أسواق وقود النقل التقليدي، وبدأت المصافي بالفعل في العمل على إيجاد البدائل. وربما يكون الهيدروجين هو الأفضل كبديل مبشر بالخير من وجهة نظر نموذج الأعمال التقليدي، وهو وقود قابل للاحتراق والتخزين والنقل ويمكنه تشغيل المركبات من جميع الأحجام والأنواع، مثل البنزين.
قال "إس إس راماكومارا"، مدير البحث والتطوير في شركة "إنديان أويل"، التي تدير مشروعاً تجريبياً في نيودلهي لتشغيل الحافلات باستخدام الهيدروجين المضاف له غاز طبيعي: "الهيدروجين هو الخيار الأخضر المطلق، ولكن هناك رحلة سيجريها الهيدروجين للوصول إلى هذا الوضع كمصدر رئيسي للطاقة".
روجت أكبر شركة تكرير في الصين، "تشاينا بتروليوم آند كيميكال كورب"، والمعروفة باسم "سينوبك"، للهيدروجين، في بث على التلفزيون الحكومي مؤخراً، واختارته اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، وهي أعلى هيئة تخطيط في البلاد، كواحدة من "الصناعات المستقبلية في البلاد".
وقالت الشركة خلال اللقاء: "تمتلك (سينوبك) حوالي 27 محطة تجريبية للتزود بالوقود بالهيدروجين وتخطط لتوسيع الشبكة إلى حوالي ألف محطة بحلول عام 2025".
وقال "بينثام" من شركة "شل": "في بعض الحالات سيكون الهيدروجين غازاً أو في شكل سائل وفي بعض الحالات يبحث الناس عن ناقلات الهيدروجين مثل الأمونيا ربما كوقود للمركبات البحرية".
تعد المصافي بالفعل من بين أكبر منتجي الهيدروجين لأنها تستخدمه لإزالة الكبريت من الوقود وزيادة إنتاج البنزين وأنواع الوقود الأخف. ومع الحاجة إلى كمية أقل من البنزين، يمكن تحويل بعض هذا الهيدروجين لوقود.
لكن الإنتاج الحالي من الغاز يجري الحصول عليه إلى حد كبير باستخدام مصادر أحفورية، مع توليد كل كيلوغرام من الهيدروجين حوالي 10 كيلوغرامات من ثاني أكسيد الكربون، وفقا "لراماكومارا".
مثل معظم الشركات التي تدرس الهيدروجين، تعتمد شركة "إنديان أويل" في النهاية على استخدام الكهرباء المولدة من الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المائية لإنتاج الهيدروجين الخالي من الكربون عن طريق التحليل الكهربائي، ولكنها تبحث أيضاً في صنع الوقود من الغاز الحيوي المضغوط.
بغض النظر عن طريقة الإنتاج، يجب أن تنخفض تكلفة إنتاج الهيدروجين بشكل كبير إذا كانت ستتنافس تجارياً مع الغاز الطبيعي. قد يعني ذلك العثور على أماكن ذات طاقة متجددة رخيصة، مثل تشيلي والمملكة العربية السعودية، أو الاعتماد على التكنولوجيا المحسنة.
وبموجب "خارطة طريق الطاقة الهيدروجينية الوطنية" في الهند، يمكن للبلاد استخدام مصادر الطاقة المتجددة لإنتاج بعض من أرخص أنواع الهيدروجين في العالم، وفقاً لـ "بلومبرغ إن إي أف".
4. صنع الوقود الحيوي
الهيدروجين ليس الخيار الوحيد. البديل الشائع في دول مثل إندونيسيا وماليزيا التي تنتج زيت النخيل هو تعديل المصافي لتكون ملائمة لإنتاج الوقود الحيوي.
وقال "بينثام" من شركة "شل": "هناك قيود على كمية النباتات والأراضي المتاحة لتطوير هذه الأنواع من الوقود، لكنها موجودة وستلعب دوراً".
تخطط إندونيسيا، أكبر منتج لزيت النخيل في العالم، لإنتاج المزيد من الوقود الحيوي في مصافي النفط القائمة، وكذلك إنشاء مصافي مخصصة لتحويل زيت النخيل إلى وقود حيوي. وزادت إندونيسيا المزيج المطلوب من وقود الديزل الحيوي للنخيل إلى 30% العام الماضي.
تعمل شركة "ماراثون بتروليوم كورب"، أكبر شركة تكرير في الولايات المتحدة على تحويل مصنع في مدينة "ديكنسون" بولاية "نورث داكوتا" لإنتاج الديزل المتجدد، المصنوع من مواد غير بترولية، بينما ستنتج مصفاة "روديو" التابعة لشركة "فيليبس 66" بالقرب من سان فرانسيسكو الوقود من زيت الطهي المستخدم، والدهون الأخرى.
تستثمر المصافي في آسيا وفي جميع أنحاء العالم أيضاً في مجموعة من التقنيات في مصادر الطاقة المتجددة وتخزين الطاقة وأنواع الوقود البديلة الأخرى.
وتقيم شركة "إنديان أويل" بطاريات النماذج الأولية القائمة على تكنولوجيا الألومنيوم والهواء مع شركة "فينريجي" الإسرائيلية.
وقال "راماكومار" إن التجارب قد تستغرق من ستة أشهر إلى عام، وإذا نجحت، فإنها ستؤدي في النهاية إلى منشأة تصنيع بنطاق جيجاوات.
5. التقاط الكربون
حتى مع التحول إلى البلاستيك والهيدروجين، فإن المصافي وأنواع الوقود التي تصنعها ستظل تنتج الغازات الدفيئة، لذلك يجب أن يتضمن الجزء الثالث من الخطة طُرقاً لالتقاط تلك الغازات وتخزينها أو إعادة استخدامها.
كانت طرق القيام بذلك باهظة الثمن بشكلٍ عام بحيث لا يمكن أن تكون تجارية، ولكن من المرجح أن يحدث توازن في المعادلة نتيجة تزايد العقوبات المفروضة على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من جهة وزيادة الإنفاق على التكنولوجيا من جهة أخرى.
تهدف شركة "سينوبك" الصينية إلى تشغيل مشروع لالتقاط وتخزين مليون طن من الكربون بحلول عام 2025، بينما تخطط شركة "إنديان أويل" الهندية لتحويل أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون إلى إيثانول في مصفاة "بانيبات" التابعة لها.
ولجعل التكنولوجيا تنجح، تتعاون بعض الشركات مع الشركات الناشئة المبتكرة. انضمت شركة "إس كيه أنوفيشن كو"، أكبر شركة تكرير في كوريا الجنوبية، إلى مشروع بحثي لالتقاط الكربون وتخزينه بقيادة شركة "سينتك" ومقرها النرويج.
6. القيام به على نحو صحيح
يتسبب الاعتماد السريع لتقنيات مثل السيارات الكهربائية في إحداث أكبر صدمة لصناعة النفط منذ نصف قرن، ولن يكون من السهل التنقل عبر التغييرات التي بدأت بالفعل. ومن المحتمل أن يكون هناك عدد أقل بكثير من مصافي النفط في النصف الثاني من القرن، وستحتاج المصافي التي ستبقى إلى التكيف بسرعة واحتضان أسواق جديدة وأنظمة إنتاج جديدة.
قال "جوبتا" من شركة "وود ماكينزي": "لم يعد بإمكان المصافي تجاهل هذه التقنيات الناشئة، ولم يعد بإمكانهم الاعتماد فقط على التكرير التقليدي".
وأضاف: "الطرق غير التقليدية ستصبح أكثر تقليدية (قديمة)".