هناك حالة لابد أن تُعتبر واحدة من أكثر الأمثلة العبثية في السياسة العملية. فبعد ما يقارب ثلاث سنوات من إصدار فلاديمير بوتين أوامر غزو أوكرانيا، لا تزال أوروبا تواصل شراء الغاز الطبيعي الروسي بمليارات اليوروهات. والمفارقة تكمن في أن هذا الغاز يتدفق إلى القارة عبر أنبوب أوكراني. وربما الأكثر سخرية هو أن كييف، التي تعتبر موسكو عدوها اللدود، تتقاضى رسوم عبور من روسيا مقابل استخدام هذا الأنبوب، حيث يدفع الكرملين الفاتورة السنوية التي تبلغ 800 مليون يورو بكل أريحية وسط الحرب.
هذا المشهد العبثي، الذي يتحدى الواقع السياسي المألوف، يعكس كيف أن أوروبا لا تستطيع العيش بدون الغاز الروسي. لكن لا تذكر ذلك بصوت عالٍ، لأن لا أحد يريد سماعه.
صحيح أن أوروبا أصبحت أقل اعتماداً على روسيا مما كانت عليه سابقاً. فقبل الحرب، كانت روسيا تشكل 45% من واردات الغاز الأوروبية، لكن حصتها في السوق انخفضت العام الماضي إلى 15%. المقلق في الأمر أن هذا الانخفاض توقف، بل وبدأ الاعتماد على موسكو في الارتفاع قليلاً. فمنذ بداية العام وحتى الآن، شكلت روسيا نحو 20% من إجمالي واردات الغاز الأوروبية.
لا ألوم المشككين على ادعائهم انتهاء اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، لأنه إذا اعترفنا بعدم انتهائه، فالعواقب واضحة: تدفع أوروبا لروسيا مقابل الغاز، وتستخدم روسيا هذه الأموال لشن الحرب على أوكرانيا، بينما تدفع أوروبا في المقابل أموالاً لأوكرانيا لوقف روسيا. وهكذا، تُمَوِّل القارة طرفي الصراع.
يتدفق الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ثلاثة مسارات رئيسية. الأول والثاني عبر خطوط أنابيب، حيث يمر أحدهما عبر أوكرانيا إلى سلوفاكيا، والآخر عبر تركيا إلى بلغاريا. أما المسار الثالث، فهو من خلال الغاز الطبيعي المسال، وهو منتج يتم تبريده بشكل فائق ليتم تحميله على ناقلات وشحنه حول العالم، تماماً مثل النفط.
اختبار لأوروبا
سيُختبر اعتماد سوق الطاقة الأوروبي على الغاز الروسي مع انتهاء العقد الذي ينظم تدفق الغاز عبر خط الأنابيب الممتد من روسيا إلى أوكرانيا في الأول من يناير 2025. من غير المرجح أن يتم تجديد هذا الاتفاق بصيغته الحالية، حيث ترفض كييف، وبشكل مفهوم، الجلوس مع موسكو للتفاوض من جديد. وتعقد الأمر أكثر أن نقطة دخول خط الأنابيب من الجانب الروسي تقع في بلدة تسمى سودجا، وهي الآن تحت السيطرة الأوكرانية بعد توغل كييف في المنطقة هذا الصيف. ومع ذلك، هناك محاولات جارية لتمديد الاتفاق أو الوصول إلى اتفاق جديد يراعي الوضع السياسي الحالي.
يعد خط الأنابيب الأوكراني محورياً لأوروبا الشرقية والوسطى، خاصةً بالنسبة لسلوفاكيا والنمسا. كما تستفيد إيطاليا، التشيك، والمجر من كميات معينة من الغاز. في وقت سابق من هذا العام، حذرت الحكومة النمساوية من "خطر كبير" على أمنها الطاقي في حال توقف تدفق الغاز. تحتفظ فيينا بواحدة من أقدم وأعمق العلاقات الأوروبية مع الطاقة الروسية، وحتى اليوم تعتمد على روسيا في أكثر من 80% من وارداتها من الغاز.
الحل لاستمرار التدفق عبر أوكرانيا يتطلب تدخل أذربيجان ومستوى عالٍ من البراعة في تداول السلع. الحل السياسي الأنسب يتطلب أن تتولى الدولة الواقعة في وسط آسيا عقد الغاز بين أوكرانيا وروسيا إلى أوروبا. لكن هناك عقبة، وهي أن أذربيجان بالفعل تضخ أقصى ما تستطيع من الغاز، ولتوفير كميات إضافية لأوروبا، سيكون عليها مقايضة الغاز مع روسيا. وهكذا نعود إلى النقطة التي بدأنا منها.
ورغم أنه ليس الخيار الأمثل، فإنه قد يكون الأقل سوءاً إذا تجنبنا التوقف الكامل للتدفق. الأهم أن مفوضة الطاقة في الاتحاد الأوروبي، كادري سيمسون، حذرت هذا الشهر من هذه المناورات، قائلة: "لا توجد أعذار، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يعيش بدون هذا الغاز الروسي". و"هذا قرار سياسي، وخطير".
سيمسون محقة في أن الاعتماد على روسيا خيار خطير، يتطلب الكثير من المناورات السياسية. فالغاز يمثل سلاحاً دبلوماسياً بيد الكرملين. لكنها مخطئة عندما تجادل بأن أوروبا يمكنها العيش بدون هذا مصدر الطاقة هذا. أو على الأقل، مخطئة في افتراض أن أوروبا يمكنها الاستغناء عنه دون تكبد تكاليف اقتصادية كبيرة. ورسمياً، لا يهدف الاتحاد الأوروبي إلى إنهاء شراء الغاز الروسي قبل عام 2027. وفي نهاية المطاف، نادراً ما يتم الحديث عن هذا الموعد، في إشارة إلى أن الالتزام بهذا التاريخ مهدد.
لقد ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا بالفعل إلى أكثر من 40 يورو لكل ميغاواط/ ساعة، وهو أعلى مستوى في 10 أشهر، بزيادة 77% عن أدنى نقطة وصلت إليها الأسعار في فبراير. لذا، تحتاج القارة إلى توخي الحذر لتجنب ارتفاع آخر في الأسعار.
خيارات أوروبا محدودة في الغاز
يحظى الغاز الروسي المتدفق عبر أوكرانيا بالكثير من الاهتمام، لكن الأهم من ذلك هو تدفق الغاز الطبيعي المسال (LNG). وهنا، تتظاهر معظم الدول الأوروبية بأن هذا الأمر ليس مشكلة. ففي حال غياب هذا المنتج، ستضطر الدول الأوروبية لشراء المزيد من مصادر أخرى مثل الولايات المتحدة وقطر وأستراليا ونيجيريا، مما سيضعها في منافسة مع المستوردين الآسيويين على إمدادات محدودة. والنتيجة ستكون تشديداً في السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال وارتفاعاً أكبر في الأسعار.
أصبح الغاز الطبيعي المسال الروسي بالغ الأهمية لبعض الدول الأوروبية. فعلى سبيل المثال، تتزايد واردات إسبانيا منه بشكل كبير. فقد انتقلت مدريد من شبه عدم استيراد أي غاز روسي إلى أن أصبح ثاني أكبر مصدر لوارداتها بعد الجزائر. هذا التطور يمثل حرجاً كبيراً لتيريزا ريبيرا، السياسية الإسبانية التي من المتوقع أن تصبح أكبر مسؤول في المفوضية الأوروبية مسؤول عن التحول في مجال الطاقة. وتقوم فرنسا وبلجيكا أيضاً باستيراد كميات شبه قياسية من الغاز الطبيعي المسال الروسي. ولكن اللافت في هذا السياق هو أن جزءاً كبيراً من هذه الإمدادات يجد طريقه إلى سوق معروف: ألمانيا.
خيارات أوروبا محدودة. هناك بالفعل حجة تدعو إلى استمرار شراء الغاز الروسي. فاعتماد القارة على روسيا أصبح أقل بكثير مما كان عليه قبل الحرب، وبالتالي لم يعد بإمكان موسكو استخدام سلاح الطاقة بنفس الفعالية السابقة. الأموال المتداولة أصبحت أقل أيضاً، مما يقلل من الدعم الذي يحصل عليه الكرملين. أما تكلفة التوقف التام عن استخدام الغاز الروسي الآن فهي مرتفعة للغاية؛ حيث ستؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار. من الناحية الاقتصادية والسياسية، يبدو هذا معقولاً. أما من الناحية الأخلاقية، فالأمر بطبيعة الحال بغيض.
البدائل المتاحة
ما الخيارات الأخرى المتاحة؟ تقليص الطلب الأوروبي صعب للغاية. استهلاك الصناعة للغاز في أدنى مستوياته، لكن هذا يأتي بتكلفة عالية، حيث يؤثر على النشاط الصناعي في المنطقة وربما يتسبب في ضرر دائم. يمكن للسياسيين الأوروبيين تحفيز الإنتاج المحلي، لكن العكس يحدث في الواقع. بينما لا تزال أوروبا تشتري الغاز الروسي، ينشغل العديد من السياسيين الإقليميين بمهاجمة صناعة الغاز في بحر الشمال. وعلى أي حال، لن يساعد الإنتاج المحلي هذا الشتاء، إذ يحتاج إلى وقت. وينطبق الأمر نفسه على مصادر الطاقة المتجددة.
إذا كانت أوروبا تريد الحفاظ على استقرار الأسعار، فلا بد لها من دفع الثمن الأخلاقي. إنه أمر مؤسف للغاية، لكن الحرب كذلك. وعلى الأقل، يجب على السياسيين الاعتراف بذلك.