تلقت طموحات كوريا الجنوبية الممتدة لفترة طويلة بتصدير تقنياتها المتعلقة بالطاقة النووية دفعة كبيرة هذا الأسبوع، حيث تم اختيار شركة"كوريا هيدرو آند نيوكلير باور" (Korea Hydro & Nuclear Power) المملوكة للدولة لبناء مفاعلين بتكلفة مليارات الدولارات في جمهورية التشيك، متفوقة بذلك على منافسيها، وهو ما قد يمهد الطريق أمام الشركات الكورية لاقتناص سلسلة من الصفقات في جميع أنحاء القارة الأوروبية.
قال وزير التجارة والصناعة والطاقة الكوري، أهن دوك غون، بعد الفوز بالصفقة: "تم الآن وضع نقطة الانطلاق لتصدير الطاقة النووية إلى أوروبا".
وبعد إتمام المشروع، يمكن أن تحتل كوريا الجنوبية مركز الصدارة لبناء المفاعلات في أوروبا، حيث تعود القارة العجوز مرة أخرى إلى الطاقة النووية لتقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري المكلف، مع تحقيق أهدافها الطموحة في خفض الانبعاثات.
كوريا تتفوق على المنافسين
بفضل تنافسيتها من ناحية التكلفة واستراتيجية التصدير المتقنة على مدى عقود، تتفوق كوريا على منافسيها الذين يعانون من ارتفاع التكاليف وتأخيرات في التنفيذ أو توترات جيوسياسية وتجارية.
تقوم شركة "كوريا هيدرو آند نيوكلير باور" بدراسة جدوى لمحطة نووية في هولندا، بينما تدرس شركة "فاتينفول إيه بي" (Vattenfall AB) السويدية استخدام التكنولوجيا الكورية. كما تجري كوريا الجنوبية محادثات لتزويد المملكة المتحدة وبولندا وسلوفينيا بالمفاعلات، ما يضع البلاد على مسار تنفيذ تعهد الحكومة بتصدير عشرة وحدات للطاقة النووية بحلول 2030.
مع ذلك، لن تكون مساعي كوريا الجنوبية لتصدير طاقتها النووية بدون منافسة، حيث وقع الرئيس الأميركي جو بايدن، هذا الأسبوع على مشروع قانون يعد بإحياء الصناعة النووية الأميركية، كما سهَّل تصدير تقنياتها. ورفعت شركة "ويستينغهاوس إلكتريك" (Westinghouse Electric) دعوى قضائية تتهم فيها كوريا الجنوبية باستخدام ملكيتها الفكرية، وطالبت بمنعها من مشاركتها. كما حذرت الشركة الأميركية من أنها قد ترفع دعوى قضائية لعرقلة الصفقة التشيكية.
حزم نووية كورية شاملة
يعود صعود كوريا الجنوبية في مجال تصدير التكنولوجيا النووية إلى قدرتها على تقديم المفاعلات كحزم شاملة؛ تتضمن المعدات والبناء وتوريد الوقود، إضافةً إلى التشغيل والصيانة، بل حتى التمويل، مع التزامها بالجدول الزمني والتحكم في التكاليف بشكل كبير.
قال مارك نيلسون، المدير الإداري في المجموعة الاستشارية "راديانت إنيرجي" (RadiantEnergy)، "محطة الطاقة النووية هي أكبر بكثير من مجرد مفاعل. فهي تشمل الهندسة المدنية والمخطوطات ومشغلو الرافعات". وأضاف: "كوريا تمتلك كل هذا، ويمكنها تقديم الحزمة الأكثر تنافسية". وتم اختيار كوريا الجنوبية لبناء المفاعلات في جمهورية التشيك بتكلفة 400 مليار كرونة تشيكية (17.3مليار دولار).
على النقيض من ذلك، ذكرت شركة الكهرباء الفرنسية (Electricite de France) في وقت سابق من هذا العام أن تكلفة بناء مفاعلين في محطة هينكلي بوينت في المملكة المتحدة قد تصل إلى 35 مليار جنيه إسترليني وفق أسعار عام 2015، وهو ما يعادل 45 مليار دولار بأسعار الصرف الحالية، وستستغرق سنوات أطول من المخطط لها. وفي الولايات المتحدة، تجاوزت تكلفة منشأة الطاقة النووية "فوغتل" (Vogtle) التي تقوم ببنائها شركة "سوثيرن" (Southern Co) الميزانية بأكثر من 16مليار دولار، كما تأخر الانتهاء منها سبع سنوات عن الجدول الزمني.
استراتيجية التصدير النووي لسيؤول تعود إلى عقود مضت. ففي عام1987، وافقت الشركة التابعة للحكومة على نقل التكنولوجيا النووية من شركة "كومباسشن إنجنيرينغ" (Combustion Engineering) الأميركية، ثم طورت التصميم لإنشاء مفاعلها المحلي. ومنذ ذلك الحين، بنت كوريا 28 مفاعلاً محلياً، إضافةً إلى أربعة مفاعلات أخرى من المقرر تشغيلها قبل 2040.
التصدير الأول إلى الإمارات
شهد عام 2009 أول تصدير للمفاعلات الكورية، وكان ذلك إلى الإمارات التي بنت وقتها أول محطة نووية تجارية في العالم العربي. وواجهت عملية بناء المحطة تأخيرات عن الجدول الزمني، كما ارتفعت تكلفتها بنسبة 25% عن الميزانية المخطط لها. رغم ذلك، لم توقف هذه المحاولة مساعي كوريا الجنوبية لتصدير تكنولوجيتها النووية مجدداً.
قال جيرمي جوردون، مستشار مستقل في مجال الطاقة النووية: "تمتلك كوريا سلسلة توريد محلية ذات خبرة كبيرة". وأضاف: "صناعتها تحظى بضمان حكومة ملتزمة بالطاقة النووية لأسباب استراتيجية تتعلق بأمن الطاقة والاقتصاد والمناخ، مما يمنح النظام النووي الكوري بأكمله الثقة للاستثمار".
لهذه الأسباب، تحتل كوريا الجنوبية موقعاً جيداً لاقتناص الفرص مع عودة العالم إلى الطاقة النووية بعد أن تم تجاهلها لعقود بعد أسوأ حادث نووي في التاريخ في منشأة تشيرنوبيل. لكن الحرب الروسية على أوكرانيا كانت بمثابة دعوة لتنبيه قادة أوروبا بتقليل اعتمادهم على الغاز المستورد، وحددت 25 دولة، بما في ذلك أكثر من عشر دول في أوروبا، هدفاً لمضاعفة القدرات النووية العالمية ثلاث مرات بحلول عام 2050.
لكن هناك عدداً قليلاً من بناة المفاعلات النووية على الساحة. فالشركات الغربية تكافح لتسليم مشاريعها في الوقت المحدد وضمن الميزانيات الموضوعة. كما تتردد الحكومات الأوروبية في الموافقة على مشاريع مع الشركات العملاقة المملوكة للحكومتين الروسية والصينية، واللتين تهيمنان حالياً على مجال بناء المفاعلات العالمية، ويرجع ذلك لمخاوف أمنية، حيث تُعتبر المحطات النووية أجزاءً حساسة للغاية في البنى التحتية.
قال مات بوان، كبير الباحثين في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا: "إذا نجحت كوريا الجنوبية في بناء هذه المفاعلات في جمهورية التشيك على نحو معقول على الأقل، فلن أفاجأ إذا قاموا ببيع المزيد لدول أخرى. وبعد ذلك، ستزداد أهمية كوريا الجنوبية في ما يخص إمداد العالم بالطاقة النووية".