بعد أن تبوأت عرش صناعة النفط عالمياً لعقود، تبحث المملكة العربية السعودية عن مصادر جديدة، تمكّنها من المحافظة على مكانتها في عالم صناعة الطاقة، بالتزامن مع تحقيق مستهدفها بالوصول إلى انبعاثات صفرية بحلول 2060.
التحول من مصدّر للبترول إلى مصدر للطاقة، محور تصريحات المسؤولين المعنيين في الآونة الأخيرة، وأحدثها قول وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد قبل أيام في الرياض، إن "السعودية تريد أن تمد العالم بكافة أنواع الطاقة سواء كانت هيدروجينية أو نووية. فنحن نريد مدّ العالم بالطاقة أيّاً كان نوعها".
هذا التوجه نحو أنواع الطاقة الجديدة يشهد الكثير من الاستثمارات في الطاقات المعروفة مثل الشمسية والرياح، لكنه لا يغفل أيضاً الاستثمار في أفكار غير تقليدية، ولا تزال ناشئة، والتي قد تحمل في طياتها الكثير من الفرص مستقبلاً حال نجاحها، على غرار الطاقة الشمسية الفضائية.
ماهية الطاقة الفضائية
تقوم الطاقة الشمسية الفضائية على إطلاق أقمار اصطناعية في المدارات الأرضية، ما يجعلها عرضةً بشكلٍ دائم ومن دون انقطاع لأشعة الشمس، ثم نقلها إلى كوكب الأرض، عبر موجات ميكروويف أو لايزر، لتتلقاها مستقبلات على الأرض تحوّلها إلى طاقة جاهزة للاستخدام.
ظهر الاهتمام السعودي بهذه التقنية للمرة الأولى إلى العلن مطلع 2023، عندما نشرت الحكومة البريطانية بياناً أفاد بأن غرانت شابس، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الدولة لوزارة أمن الطاقة البريطانية، بحث مع وزير الاتصالات وتقنية المعلومات السعودي عبدالله السواحه، "خططاً طموحة" للتعاون في مجال الفضاء والابتكار، بما في ذلك إمكانية الاستثمار في تطوير الطاقة الشمسية الفضائية.
اقرأ أيضاً: السعودية تقود زيادة الاستثمار العالمي بالهيدروجين في 2023
وذكر البيان آنذاك، أن التعاون بين شركة "سبايس سولار" البريطانية و"نيوم"، يمكن أن يشهد التزام كل جهة باستثمارات كبيرة في تطوير الطاقة الشمسية الفضائية خلال السنوات المقبلة.
تقنية "سبايس سولار"
يشرح سام أدلين المدير التنفيذي لشركة "سبايس سولار" التي تتخذ في بريطانيا مقراً وتعتبر من الشركات القليلة العاملة في هذا المجال، أن الطاقة الشمسية لطالما اعتبرت المصدر المثالي للطاقة النظيفة، ولكن إمداداتها غير مستقرة.
أدلين، الذي رفض بمقابلة مع "الشرق" الخوض في تفاصيل تطور المحادثات مع السعودية، باعتبارها "محادثات بين حكومتين"، نوّه في المقابل بأنه "يبدو أن هناك تقدماً في هذا الشأن.. ومرد اهتمام الرياض بهذه التقنية أنها تتماشى بقوة مع رؤية 2030"، مع وصف كثيرين لها بأنها "الحل الأمثل" لتوليد الطاقات المتجددة.
وأشار أدلين، الذي زار السعودية مؤخراً لحضور مؤتمر "ليب 2024"، إلى أن العديد من الحكومات مهتمة بهذه التقنية نظراً إلى أن تكلفة إنتاج الطاقة من خلالها "مقنعة فعلاً".
بدوره، يرى الرئيس التنفيذي لوكالة الفضاء السعودية محمد التميمي أن هذه التقنية "تعطي تفاؤلاً كبيراً بشأن استخدام الطاقة النظيفة في الأرض".
التميمي شرح بمقابلة مع "الشرق"، على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد مطلع الأسبوع في الرياض، أن الطاقة الشمسية الفضائية "توفر طاقة نظيفة ومستدامة، وقد تعمل على تغيير قواعد اللعبة في سوق الطاقة الشمسية على الأرض".
اقرأ أيضاً: السعودية تستعد لاقتحام صناعة أشباه الموصلات باستثمارات ضخمة
كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أطلق عام 2021 "مبادرة السعودية الخضراء"، التي تستهدف ضخ استثمارات بنحو 266 مليار دولار لتوليد طاقة نظيفة، بموازاة خفض انبعاثات الكربون بمقدار 278 مليار طن سنوياً حتى 2030.
القدرة التوليدية
بلغت القدرة الإنتاجية من الطاقة المتجددة في السعودية عام 2023 نحو 2.2 غيغاواط، في حين هناك مشاريع بقدرة إجمالية تفوق 8 غيغاواط قيد البناء، وتخطط الحكومة لطرح عطاءات لنحو 20 غيغاواط خلال 2024.
نهاية العام الماضي، أفصح وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان أن المملكة تستهدف إضافة 20 غيغاواط سنوياً من الطاقة المتجددة، لتصل إلى قدرة إجمالية بنحو 130 غيغاواط بحلول 2030.
ويوضح أدلين أن القمر الاصطناعي الواحد يستطيع توليد ما يصل إلى 1.4 غيغاواط، بما يعادل تقريباً محطة طاقة نووية تقليدية، تكفي لتزويد مليون منزل بالكهرباء.
عقبة الكلفة
لكن هذه التقنية تصطدم بعقبات عدة، في مقدمتها الكلفة، إذ يبلغ سعر النظام الواحد نحو ملياري دولار، 60% من هذا المبلغ يتمثل بكلفة إطلاق القمر الاصطناعي، وفق أدلين.
ويعتبر فادي قماطي، الذي يقود قسم الاستراتيجيات الإلكترونية والتكنولوجية بشركة الاستشارات "بي دبليو سي الشرق الأوسط"، أن الكلفة الرئيسية لهذه التقنية، سواء التي تطورها "سبايس سولار" أو غيرها، تتركز في إرسال البنية التحتية اللازمة إلى الفضاء. لكنه يؤكد أن التطور التكنولوجي وما يتبعه من ابتكار وتطوير للبنية، "سيخفض كلفة المكوّنات، وبالتالي كلفة التقنية بشكل عام".
دور إيلون ماسك
هناك لاعب رئيسي من شأنه أن يسهم بخفض هذه الكلفة، وهو إيلون ماسك. فمن خلال إطلاق شركته "سبايس إكس" الصواريخ متعددة الاستخدام، انخفضت كلفة نقل المعدات إلى الفضاء والمدارات الأرضية بشكل كبير.
ومنذ بدء "سبايس إكس" باستخدام صواريخ "فالكون 9" عام 2009، انخفضت كلفة الشحن إلى الفضاء من حوالى 10 آلاف دولار لكل كيلوغرام، إلى حوالي 1520 دولاراً حالياً، في حين أن استخدام الصواريخ الأكبر حجماً، يمكن أن يخفض الكلفة بمقدار 40% إضافية.
ويلفت التميمي إلى أنه خلال الأعوام الأربعة الماضية، زاد حجم الاستثمار بقطاع الفضاء أكثر من 30% سنوياً، وترافق ذلك مع انخفاض تكلفة إطلاق الأقمار الاصطناعية، وهبوط كلفة تصنيعها بنحو 70% خلال تلك الآونة.
أما بالنسبة لتقنية توليد الطاقة الشمسية الفضائية تحديداً، ورغم أنها في بداياتها، فإن تكلفتها منافسة لمصادر طاقة نظيفة أخرى. فوفق دراسة أعدتها إدارة معلومات الطاقة الأميركية، بلغت تكلفة بناء مفاعل نووي بقوة 2 غيغاواط قرابة 14 مليار دولار في 2022.
من التجربة إلى الإنتاج التجاري
في المقابل، فإن من العوامل التي قد تؤثر في ضخ استثمارات سعودية وفيرة في "سبايس سولار"، أن الشركة لم تبدأ بعد بإنتاج الطاقة على نطاق تجاري واسع، إذ تخطط خلال السنوات الثلاث المقبلة لوضع أول نظام لها في الفضاء.
وفي حين أفاد أدلين "الشرق" أن النظام سيكون بمثابة "تجربة"، أوضح أن الشركة أجرت تجارباً على التقنية، وهي "تؤدي بشكل جيد جداً"، لكن الفترة المقبلة ستشهد تركيزاً على "تعظيم حجم الطاقة".
وبرأي القماطي، من "بي دبليو سي الشرق الأوسط"، فإن عدم إرسال الشركة لأي قمر اصطناعي حتى الآن لا يعني أن التقنية غير مجربة، إذ أنها "مثبتة عملياً ومختبرة، حتى أن محطة الفضاء الدولية تستخدمها منذ فترة". لكنه اعتبر أن استخدامها على نطاق ضخم وتجاري، وضمان آلية إرسال هذه الطاقة إلى الأرض، هي "أمور تحتاج إلى المزيد من الأبحاث والاستثمارات".
تحديات إضافية
فكرة شركة "سبايس سولار" ليست فريدة من نوعها، إذ تعود الأسس التي قامت عليها هذه التقنية إلى رواية "السبب" للكاتب الأميركي إسحق عظيموف الصادرة عام 1942، والتي كانت تصنف آنذاك خيالاً علمياً.
بعد 53 عاماً، أجرت "ناسا" ووزاة الطاقة الأميركية أول دراسة علمية حول هذه التقنية، والتي خلصت آنذاك إلى أنه من الضروري الاستثمار في تكنولوجيا إطلاق الصواريخ إلى الفضاء لخفض التكلفة، ما يمكن أن يساهم في تنفيذ هذه التقنية على أرض الواقع.
في يناير من العام الماضي، خلصت دراسة من "ناسا" إلى مجموعة تحديات أخرى تشهدها هذه التقنية، على غرار إيجاد طرق لتجميع وصيانة أنظمة كبيرة في المدار، وتمكين هذه الأنظمة من العمل بشكل مستقل، وتطوير حزم طاقة فعالة لجلب الطاقة إلى الأرض.
وأضافت أن هذه الأنظمة قد تحتاج إلى العمل في مدار ثابت بالنسبة للأرض، أعلى من مسارات المدار الأرضي المنخفض التي تستخدمها العديد من الأقمار الاصطناعية اليوم، الأمر الذي قد يحمل تحديات إضافية.
كما افترضت الدراسة إمكانية وجود نظام طاقة شمسية فضائي يمكن أن يبدأ العمل عام 2050. وبناءً على هذا الجدول الزمني، وجد التقرير أن الطاقة الشمسية الفضائية ستكون أكثر تكلفة من البدائل الأرضية المستدامة، رغم أن هذه التكاليف يمكن أن تنخفض إذا تمت معالجة الفجوات الحالية في القدرات.
طموح فضائي
يصبّ الاهتمام السعودي بالطاقة الشمسية الفضائية ضمن إطار رؤية جديدة لقطاع الفضاء ككل، إذ أعلنت المملكة في يونيو الماضي تحويل "الهيئة السعودية للفضاء" إلى "وكالة الفضاء السعودية"، بهدف "التركيز على صناعة سوق الفضاء وتحفيز البحث والابتكار فيه"، كما يبحث "صندوق الاستثمارات العامة" ضخ مبالغ ضخمة في صناعات الفضاء، وفقاً لما أكده وزير الاتصالات عبدالله السواحه في تصريحات لـ"بلومبرغ"، مشدداً على أن اقتصاد الفضاء هو الفرصة المقبلة البالغة قيمتها تريليون دولار.
بينما يتوقع الرئيس التنفيذي لوكالة الفضاء السعودية محمد التميمي أن يتجاوز نمو قطاع الفضاء محلياً المعدلات العالمية، لتصل الزيادة السنوية المركبة إلى ما بين 11 و13% حتى 2035 مقارنةً بـ9% عالمياً.
ويرى قماطي من (PWC) في مقابلته مع "الشرق" أن السعودية التي أرسلت أول رائد فضاء عام 1986، ثم أرسلت رائدي فضاء إلى محطة الفضاء الدولية في مايو الماضي أي بعد حوالى 37 سنة، "لم تستثمر الكثير في هذا القطاع خلال السنوات الماضية، لكن هذا يمكن أن يشكل ميزة، لأنه يتيح للبلاد بناء القطاع من الصفر، وتفادي الأخطاء التي وقع فيها الآخرون خلال رحلة تطويرهم لهذه الصناعة". مستطرداً: "لن أستغرب إذا رأينا منصة إطلاق صواريخ إلى الفضاء قريباً في المملكة".
اقرأ أيضاً: السعودية بصدد إرسال أول رائدي فضاء على متن كبسولة من "سبيس إكس"
السعودية التي تعتبر لاعباً رئيسياً في مجال النفط والغاز، أبدت بمناسبات عدّة طموحها في أن تصبح لاعباً رئيسياً بمجال الطاقة المتجددة وتقنياتها الجديدة، ما يجعل من تقنية الطاقة الشمسية الفضائية خياراً استثمارياً متاحاً للدخول إليه في وقتٍ مبكر والرهان على جدواها المستقبلية، رغم أنها لا تزال في طور التشكل.