رغم أن المناخ خارج عن سيطرة الجميع، سوف يمتد تأثير درجات الحرارة هذا الشتاء إلى كل سوق يمكن تصوره، من الوقود إلى أسواق الطعام، بما يترتب على ذلك من نتائج شديدة البرودة، إلى درجة تهدّد بتحويل شح الطاقة على مستوى العالم إلى أزمة متكاملة الأركان.
لم يحدث يوماً أن كان تأثير الأزمة أشد خطورة من الفترة الحالية. فإذا جاء الطقس بارداً وسيئاً، ربما تواجه العائلات والشركات في مختلف أنحاء العالم، ارتفاعاً باهظاً في تكاليف التدفئة يرهق كاهلها، وقد تحملت فعلاً أسعاراً للطاقة هي الأعلى منذ سنوات. وربما تفقد الحكومات تأييد شعوبها، وهي التي تحاول جاهدة تهدئة مخاوف ارتفاع التضخم. وقد تزداد الشكوك أكثر في إمكانية الانتقال إلى الطاقة النظيفة، التي تتعرض فعلاً لعاصفة من الهجوم، بعد أن أسهم انخفاض توليد الطاقة من الرياح، في حدوث أزمة شح الكهرباء في أوروبا.
إقرأ أيضاً: البلد الذي ينتج فطور العالم يقف عاجزاً أمام الحرائق والجفاف والصقيع
كيري يضغط على الصين لخفض المزيد من غازات الاحتباس الحراري بحلول عام 2030
تختلف كل توقعات خبراء الأرصاد الجوية طويلة الأجل فيما بينها اختلافاً يدعو إلى الإحباط، في ضوء صعوبة أن يتنبؤوا على نحو دقيق بقسوة الشتاء مباشرة بعد انتهاء فصل الصيف. غير أن توقعاتهم تشترك في بعض الأمور، منها أن عودة ظاهرة "لانينا" المناخية، قد تتسبب في برودة الطقس في شمال الولايات المتحدة، وبطقس أكثر اعتدالاً في جنوبها، بينما يصيب الجفاف مناطق أخرى من العالم. في الوقت ذاته، تظهر الدوامة القطبية التي تحتوي هواءً ثلجياً فوق القطب الشمالي، أضعف مما كانت عليه في العام الماضي، ومعنى ذلك زيادة فرصة انتقال البرد القارس بين الحين والآخر، من الدائرة القطبية الشمالية إلى المناطق المعتدلة في آسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا، وتسببه في موجات صقيع متقطعة على مدى فصل الشتاء.
يقول تود كروفورد، مدير الأرصاد الجوية لدى شركة "أتموسفيريك جي 2" (Atmospheric G2) التجارية للتنبؤ بأحوال الطقس: "نتوقع ’سندويتشاً دافئاً’ في الموسم الحالي يحيط مركزاً قد يكون قارس البرودة"، بمعنى أن بداية الشتاء ربما تأتي دافئة على غير العادة، تليها فترة شديدة البرودة حتى نهاية شهر يناير، ثم تأتي نهاية فصل الشتاء معتدلة حتى بداية الربيع. و"تلائم هذه التوقعات على نطاق واسع جميع المراكز الرئيسية للطلب على الطاقة في شرق الولايات المتحدة وغرب أوروبا وشمال شرق آسيا".
طبعاً، هذه مجرد توقعات لا أكثر، وفي وقت مبكر بالنسبة إلى هذا المجال. فهناك العديد من الأنماط المناخية وعوامل الطقس المتداخلة التي سوف تحدد مصير فصل الشتاء الحالي، ولا يتفق علماء المناخ حتى على أي من هذه العوامل سوف يلعب الدور الرئيسي.
في ما يلي بعض الظواهر الرئيسية التي يراقبها خبراء الأرصاد الجوية مراقبة دقيقة حتى يتوصلوا إلى تنبؤاتهم، مع نظرة على ما يلمّحون إليه حتى الآن.
ظاهرة "لانينا" والمحيط الهادئ
تهدد ظاهرة "لانينا" التي تتسبب في تغيير الطقس وتحويل الأنماط المناخية بأن تفرض وجودها للسنة الثانية على التوالي.
تحدث الظاهرة عندما تتحول المنطقة الاستوائية بالمحيط الهادئ إلى البرودة، وينتج عنها سلسلة من التفاعلات المناخية التي قد تقلب أنماط العواصف رأساً على عقب في جميع أنحاء أمريكا الشمالية، وتتسبب في برودة الطقس في منطقة "شمال غرب المحيط الهادئ" في الولايات المتحدة وفي أعالى "السهول العظمى"، بينما تجلب الجفاف إلى الجزء الجنوبي من البلاد مع درجة حرارة دافئة. وتترافق هذه العوامل معاً حتى تغير ظواهر الطقس في مختلف أنحاء العالم، وربما تسبب برداً قارساً في اليابان وكوريا، وجفافاً في البرازيل والأرجنتين وفي بعض مناطق الصين. وتبلغ هذه الظاهرة من الضخامة حداً يجعلها تلعب دوراً أساسياً في جميع التنبؤات الموسمية. ويتوقع "مركز التنبؤ بأحوال الطقس" (Climate Prediction Center) في الولايات المتحدة بنسبة تزيد على 70%، أن تتسبب المياه الباردة في المنطقة الاستوائية بالمحيط الهادئ في وقوع هذه الظاهرة.
تعاقب ظاهرة "لانينا" ليس نادر الحدوث -فقد تكرر ثماني مرات منذ عام 1950. وتكمن المشكلة بالنسبة إلى خبراء الأرصاد في أنها لا تؤثر على المناخ بالطريقة ذاتها في كل مرة. ففي العام الماضي، تسببت "لانينا" في اعتدال الطقس نسبياً في فصل الشتاء في منطقة نصف الكرة الشمالي، لكن تأثيرها في العام الحالي قد يأتي مختلفاً.
ليست ظاهرة "لانينا" هي المشكلة الوحيدة التي تلفت الأنظار في أكبر محيطات العالم، حيث تمتد كتلة كبيرة من المياه الدافئة إلى الغرب من منطقة كولومبيا البريطانية عبر المحيط الهادئ تسمى -دون مزاح- "الفقاعة". وتحبذ كل من ظاهرة "لانينا" و"الفقاعة" أن يضرب الجفاف الولايات الغربية، وهو أمر فظيع كما تقول جنيفر فرانسيس، عالمة أولى في الأرصاد لدى "مركز وودويل لأبحاث المناخ" (Woodwell Climate Research Center)، التي أضافت أن معنى ذلك "احتمال نشوب الحرائق والجفاف الممتد".
اضطراب الدوامة القطبية
في فصل الشتاء، يتراكم مخزون من أشد هواء الأرض برودة في منطقة القطب الشمالي التي تبتعد عن دفء حرارة الشمس على مدى شهور عديدة. ويتشكل نطاق من الرياح التي تسمى الدوامة القطبية في حركة دائرية سريعة حول قمة الكرة الأرضية، فتحتجز كتل الهواء الباردة بداخلها وتلفها بإحكام. فإذا أفلتت هذه الدوامة من حدود المنطقة القطبية الشمالية، سوف تلفح موجات البرد القارس مناطق في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، وتؤدي إلى إرتفاع الطلب على لوازم التدفئة.
علماء الأرصاد الجوية، الذين يدرسون احتمال أن تضعف قبضة الدوامة القطبية فتترك الهواء البارد يتدفق خارجها، يراقبون مؤشرات عدة، مثل تراكم جليد البحار وارتفاع درجة الحرارة المفاجئ في طبقات الجو العليا، وهي إشارات أولية على احتمال وقوع الاضطرابات المناخية. وتقول كروفورد، إن ارتفاع درجة الحرارة فوق القطب الشمالي في طبقة الستراتوسفير -وهي طبقة من الغلاف الجوي تمتد من 5 أميال إلى 30 ميلاً (8 إلى 48 كيلومتراً) فوق سطح الأرض- يحدث في 55% إلى 60% من فصول الشتاء، وقد تترتب عليه نتائج كارثية، حيث أفضى ارتفاع مفاجئ في حرارة الستراتوسفير في يناير الماضي إلى موجة شديدة البرودة أغلقت جنوب الولايات المتحدة في الشهر التالي، وعطلت شبكة توزيع الكهرباء في تكساس، وأدت إلى وفاة 210 أشخاص على الأقل.
إذا تدفق الهواء البارد من منطقة القطب الشمالي، يصبح السؤال الكبير هو إلى أين سيتجه؟ ذلك أنه لايمكن أن ينشر برداً شديداً في كامل منطقة نصف الكرة الشمالية مرة واحدة. وغالباً يكون تذبذب شمال الأطلسي عاملاً رئيسياً، وهو عبارة عن تغير أنماط الضغط الجوي بين الارتفاع تارة والانخفاض أخرى فوق منطقة غرينلاند والمحيط. فإذا كان التذبذب في مرحلته السلبية، تتراكم كتل الضغط المرتفع فوق غرينلاند، فيمنع التدفق المناخي من أمريكا الشمالية، بما يتسبب غالباً في طقس بارد -وأحيانا عاصف- في شمال شرق الولايات المتحدة.
قد يغير أيضاً مسار العاصفة على أوروبا نحو الجنوب، تاركا وراءه منطقة شمال غرب أوروبا باردة تماماً، كما يقول تايلور رويز، خبير الأرصاد الجوية لدى شركة "أكيو ويذر" (AccuWeather). وكلما زاد البرد في أوروبا، كانت أزمة الطاقة فيها أشد عنفاً.
إذا تكونت ما تسمى بظاهرة الاحتجاز فوق خليج ألاسكا، فقد تضخ هواءً بارداً إلى قلب الولايات المتحدة، حسب جيم رويلر، خبير أرصاد أول لدى شركة التنبؤ بأحوال الطقس التجارية "إنيرجي ويذر غروب" (Energy Weather Group).
سيبيريا والأورال
تعد ثلوج سيبيريا أحد المؤشرات التي تستحق المراقبة الدقيقة، من وجهة نظر جوده كوهين، مدير توقعات الفصول لدى "الأبحاث المناخية والبيئية" (Atmospheric and Environmental Research)، وهي جزء من شركة تحليل المخاطر "فيريسك" (Verisk). وفي حين أن جميع المعلقين لا يتشاركون هذه النظرية، يعتقد كوهين بأن الثلوج إذا تراكمت بسرعة في مختلف أرجاء سيبيريا خلال شهر أكتوبر، فقد ينتج عنها حالة مناخية تسبب اضطراباً في الدوامة القطبية الشمالية. وسوف يجمع العلماء مزيداً من المعلومات بشأن كيفية تشكل هذه الظاهرة في نهاية الشهر الحالي.
يراقب كوهين أيضاً، تطور مناطق الضغط المرتفع في منطقة الأورال الإسكندنافية مراقبة حثيثة كمؤشر آخر، موضحاً أن استمرار هذه الظاهرة "وامتدادها في شهر نوفمبر، ثم ديسمبر على وجه الخصوص، سوف يؤدي حتماً إلى ارتباك كبير في الدوامة القطبية هذا الشتاء".
فرانسيس من شركة "وودويل"، تراقب المنطقة ذاتها، بحثاً عن إشارات، وتوضح "أن بعض نماذج التوقعات يشير إلى احتمال وجود دوامة قطبية في نهاية الأسبوع، والتي غالباً ما تفتح باب الثلاجة، وتسمح بتدفق الهواء البارد نحو الجنوب أعلى أمريكا الشمالية ومنطقة أوراسيا. وإذا حدث ذلك، يكون الشتاء قد بدأ مبكراً عند كثير من الناس".