لست من المعجبين بالحرب الدائرة حالياً على "المعلومات المضللة" –وإن كنت أشعر بشيء في هذا الشأن، فهو تأنيب الضمير- وأحد الأسباب يكمن في أصل هذا المصطلح. على الرغم من أنَّ النحوي المتعصب في داخلي يعترف بحرية أنَّ الكلمة جيدة تماماً، إلا أنَّ الجهود التي يبذلها القطاعان العام والخاص على حدٍّ سواء، لتعقُّب المخادعين لمنعهم من تضليل الجمهور؛ تمثِّل عودة إلى الأيام الخوالي السيئة التي كان يتمُّ فيها معارضة الليبرالية بطريقة معقولة.
أولاً، في ما يتعلَّق بالكلمة ذاتها.
يتتبَّع قاموس أوكسفورد الإنجليزي تعبير "المعلومات المضللة (misinformation) بمعناه الحالي إلى أواخر القرن السادس عشر. في عام 1786، أثناء عمله سفيراً في فرنسا، استخدم توماس جيفرسون هذه الكلمة للتهكم على الادعاء أنَّ الكونغرس الأمريكي عقد جلسة في هارتفورد، بولاية كونيتيكت عام 1817، وهو ما يعرفه كل طلاب القانون في السنة الجامعية الأولى. واستخدمت المحكمة الأمريكية العليا هذه الكلمة كجزء من الجهد الضئيل لتعريف الاحتيال. وفي الفترة التي سبقت الحرب الأهلية، شجب أنصار الحزب الجمهوري المشكَّل حديثاً حينها، الفكرة القائلة بأنَّ لديهم "أهدافاً معادية ضد الجنوب"، ووصفوها بأنَّها معلومات مضللة.
أًصل المصطلح
اعتماداً على السياق، يمكن للكلمة أن تحمل نوعاً من الغطرسة. يكتشف السير هوغو لاتيمر، البطل في مسرحية الكاتب "نويل كوارد" التراجيدية "أغنية عند الشفق" (A Song at twilight)، أنَّ حبيبته السابقة كارلوتا تعتقد أنَّ لديها الحق القانوني في نشر رسائله إلى بيري، حبيبة هوغو السابقة. يقول المتغطرس هوغو: "أخشى أن يكون قد جرى تضليلك." (ظلَّ الكتاب يقلِّدون وينسجون على هذا المنوال منذ ذلك الحين).
هكذا هو الأمر. و وفقاً لموقع متعقّب الاقتباسات "كوت إنفيستيغاتور" (Quote Investigator) الممتاز دائماً؛ فإنَّ مقولة ""مارك توين" الشهيرة حول أنَّ طريقة قراءة الأخبار تجعلك مضللاً، لا تعدو أن تكون أمراً ملفَّقاً. ويذكِّرنا موقع "كوت إنفيستيغاتور" مع ذلك أنَّ هناك تاريخاً طويلاً للكتاب والسياسيين الذين يستخدمون الوصف على أنَّه توبيخ. وهذا يقودنا إلى معضلة اشتقاق المصطلح.
من المحتمل أنَّك لم تسمع من قبل عن وكالة "فيدراتيد برس" (Federated Press) القديمة. تأسست في عام 1918 كمنافس ذي ميول يسارية لوكالة الصحافة الأمريكية "أسوشيتد برس"، وتوقَّفت للأبد بعد 30 عاماً، وهجرها مئات العملاء بعد أن أعلن الكونغرس الأمريكي أنَّها مصدر لـ"المعلومات المضللة".
الترجمة هي: الكونغرس لم تعجبه وجهة نظرها.
لكنَّ وكالة "فيدراتيد برس" لم تكن وحدها. بالنسبة إلى الصيادين الحمر في عصر مكارثي، أصبحت "المعلومات المضللة" مصطلحاً شائعاً للسخرية. في وقت مبكر من عام 1945، اشتكى كاتب العمود النقابي صاحب الميول اليمينية بول مالون من أنَّ "الجناح اليساري" ينشر "بشكل جليّ" "معلومات مضللة حول السياسة الخارجية الأمريكية" - والأسوأ من ذلك، أنَّ الآخرين "يتأثَّرون تدريجياً بتفكيرهم".
في جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1953 حول "التسلل الشيوعي إلى الجيش" -نعم، هذا ما سميت به جلسة الاستماع- أكَّد المنشق السوفيتي إيغور بوغوليبوف (المشهور بين أتباع المكارثيين) لأعضاء اللجنة المتحمسين، أنَّ كتيِّباً عن سيبيريا وزَّعه الجيش، يحتوي على "الكثير من المعلومات المضلِّلة المتعمَّدة التي تخدم مصلحة القضية الشيوعية".
بدأ تقرير صادر عن اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ بعد ثلاث سنوات بقوله: "المواطن الأمريكي العادي ليس على دراية بكمية المعلومات المضلِّلة حول الحزب الشيوعي، والولايات المتحدة الأمريكية، التي تظهر في الصحافة العامة، وفي الكتب وفي أقوال المتحدّثين العامين". ثم يقدِّم التقرير قائمة بالمجموعات الموجودة "لغرض نشر الأفكار الشيوعية والمعلومات المضلِّلة في مجرى الدم للرأي العام". جاء في المرتبة الثانية للقائمة وكالة "فيدراتيد برس" (التي كانت تحتضر في ذلك الوقت).
في عام 1957، أكَّد المستشار الرئيسي للجنة الفرعية في مجلس الشيوخ للأعضاء أنَّ "المعلومات المضلِّلة" التي وزَّعها "بعض مسؤولي وزارة الخارجية"، "أثبتت أنَّها مفيدة للقضية الشيوعية، وضارَّة بقضية الولايات المتحدة".
الشيوعية والستينيات
استمرت هذه العادة في فترة الستينيات، عندما -حتى لا ننسى- كان الرئيس جون أف. كينيدي وكتابه "رجل الحدود الجديد" (New Frontiersman)، في حالة إصرار على الحاجة إلى مكافحة التهديد الشيوعي. حذَّرت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في مقال افتتاحي عام 1961 قائلة: "تبذل الشيوعية الدولية جهوداً كبيرة لنشر معلومات مضللة عن الولايات المتحدة بين الأشخاص غير المطَّلعين في جميع أنحاء العالم". في العام التالي، ألقى المدَّعي العام روبرت كينيدي خطاباً مهماً، قال فيه، إنَّ النكسات الإيديولوجية الأمريكية في الخارج كانت نتيجة – لقد خمَّنت ذلك على نحوٍ صحيح - "معلومات مضللة" شيوعية.
أنا لا أقترح أنَّ "المعلومات المضللة" هي مصطلح غير مفيد دائماً. نقطتي هي أنَّه بالنسبة إلى أيِّ شخص يأخذ التاريخ على محمل الجد؛ فإنَّ مشهد السياسيين، ورجال الأعمال الأقوياء، وهم ينضوون في إطار حملة لمطاردة المعلومات المضللة من النقاشات والحوارات العلنية، يستحضر صوراً شريرة للتجاوز الإيديولوجي الذي دمَّر الحياة، وسبل العيش.
لقد كتبت هنا من قبل عن التدمير المتعمد للحكومة الفيدرالية لمسيرة عمي الأكبر ألفاوس هونتون المهنية، استناداً إلى دوره كوصي في مؤتمر الحقوق المدنية، وهي مجموعة وصفها مجلس الشيوخ بأنَّها - لقد خمَّنت ذلك على نحو صحيح - متعهِّد "المعلومات المضللة".
لذا سامحني لأني مازلت أقاوم هذه الحرب المزدهرة على المعلومات المضللة. لقد سلكت أمريكا هذا الطريق من قبل، وكانت النتائج بشعة. أنا من الطراز القديم بما يكفي للاعتقاد بأنَّ حريتك في إعلاء الصوت بما أعتبره أنا من الكذب، هي أفضل حماية لحريتي في إعلاء صوتي بما أعتبره صحيحاً. لن أنكر نوعاً من الرعشة الممتعة لأنَّ الحق انحرف قبل ما كان في يوم من الأيام سلاحه المفضل. وأنا أدرك تماماً أنَّ الأكاذيب، إذا جرى تصديقها على نطاق واسع، يمكن أن تؤدي إلى نتائج سيئة. ومع ذلك، أشعر بالرعب من فكرة أنَّ تيار اليسار يريد العودة إلى عصر تجري فيه الإشادة بمن هم في السلطة، لتحديد الآراء التي تشكِّل معلومات مضللة.
لذا، إذا كانت البدائل عبارة عن نقاش عام صاخب وغير منضبط -إذ يؤمن الناس أحياناً بالأكاذيب- و نقاش عام منظَّم بشكل جيد، حيث تخضع القدرة على توضيح وجهة نظر المرء بشكل فعَّال لأهواء من يقول الحقيقة من المعيّنين رسمياً، يكون الاختيار سهلاً: سأقف مع الصخب الجامح في كلِّ مرة.