سطع نجم نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس نهاية الشهر الماضي، بعدما حطت طائرتها الرئاسية في ولاية جورجيا، حيث استهلت حقبة جديدة في مسيرتها. فقد تمكنت من استقطاب جمهور أكبر مما احتشد للرئيس جو بايدن فيما انقضى من هذا العام، وكان ذلك استعراض قوة في ولاية جنوبية تمكنت من استعادتها.
أطلت نائبة الرئيس في أتلانتا مرتدية بزة زرقاء زاهية على ياقتها دبوس مألوف على شكل علم الولايات المتحدة، واعتلت المنصة برفقة مغنية الراب ميغان ذا ستاليون في ختام أسبوع نجحت خلاله بجمع تبرعات قياسية مذهلة، وهناك تهكمت على منافسها الرئيس السابق دونالد ترمب وسط هتافات الجمهور، ثمّ توقفت لتحذره قائلةً: "يا أصدقائي لنكن واضحين، نحن من سنقلب الموازين في هذا السباق".
حلة جديدة؟
بهذا أعادت استهلال السباق نحو البيت الأبيض، ليصبح التنافس فيه بين ترمب وهاريس، التي تسعى مجدداً لطرح نفسها بصورة جديدة، فقد سبق أن عملت مدعية عامة، ثمّ أصبحت نائبةً عامةً لولاية كاليفورنيا مستفيدة من سمعتها كسياسية ديمقراطية صارمة في مكافحة الجريمة. انتقلت بعدها إلى اليسار كعضو في مجلس الشيوخ ومرشحة رئاسية، ثم خاضت تحولاً آخر نحو الوسط هذه المرة كنائبة مخلصة لرئيس معتدل.
تستخدم هاريس هذا الغموض الذي يلف شخصيتها كأداة استراتيجية مع اقتراب موعد التصويت المبكر في سبتمبر، واشتداد هجمات الجمهوريين ضدها. فهي تخوض حملتها الانتخابية بناء على رصيد إدارة بايدن–هاريس، فيما تحافظ على شيء من البعد عن الإدارة الحالية، في انتخابات سيحظى متصدرها بحق النقض خلال تعديل قانون الضرائب العام المقبل.
لقد أصبح مستقبل الديمقراطيين بين أيدي مرشحة شابة غامضة، ارتقت ثم هوت لتعود وتنهض مجدداً. إنها مرشحة تجعل حتى مساعديها يحاولون جاهدين الإجابة على سؤال محوري: ما هو شكل النسخة الرابعة من كامالا هاريس؟
يقول حلفاء هاريس إنها متمسكة بنهجها الحالي أكثر من مواقفها السابقة الأشد ليبرالية. إلا أن ترمب يتعامل مع صورتها القديمة، فيصفها بـ"الليبرالية الخطرة" رغم أن حملتها تتبنى رسالةً أكثر اعتدالاً. وكان ترمب وهاريس اتفقا على التواجه في مناظرة في سبتمبر.
اختارت هاريس في 6 أغسطس حاكم ولاية مينيسوتا تيم والز كمرشح لمنصب نائب الرئيس، في مؤشر جديد إلى اعتزامها طرح خطة اقتصادية تركز على المواطن العادي، ربما ستراعي التقدميين أكثر من جماعات الضغط في قطاع الأعمال.
تركيز على المؤسسات الصغيرة
فيما ركز بايدن على قطاع الصناعة، فإن التركيز الاقتصادي لهاريس ينصب على المؤسسات الصغيرة ورواد الأعمال والإسكان والحدّ من الرسوم غير الضرورية وقضايا العدالة.
وقد كانت تلعب أحياناً دور همزة وصل بين الشركات والإدارة الأميركية. كانت إحدى أولى مهامها كنائبة للرئيس في فبراير 2021 الاتصال مع رئيس "جيه بي مورغان تشيس" جيمي ديمون ونظيره في "بنك أوف أميركا" براين موينيهان، لحثهما على تسريع تقديم قروض في إطار برنامج حماية الرواتب، بالأخص في المجتمعات المهمشة.
كانت هاريس من أبرز داعمي إلغاء ديون القروض الطلابية في الإدارة الحالية، وساندت تدابير أخرى مثل زيادة الحسوم الضريبية لمن لديهم أطفال، واتخذت خطوات لتقييد تضمين الديون الطبية في التاريخ الائتماني للمواطنين.
كما أعلنت عن مبادرات ضخمة، منها "التحالف الاقتصادي للفرص" الذي حشد التزامات تمويلية من البنوك الكبرى لدعم مؤسسات الإقراض الصغيرة وتلك المخصصة للأقليات. ومنها أيضاً الشراكة بين القطاعين العام والخاص الهادفة لتعزيز النمو في أميركا الوسطى. كما خطبن في 16 أغسطس بمدينة رايلي في نورث كارولينا حول "خطتها لخفض تكاليف عيش العائلات متوسطة الدخل ومواجهة تلاعب الشركات بالأسعار"، وفقاً لحملتها.
كانت هاريس قد اتخذت براين نِلسون، المسؤول رفيع المستوى في وزارة الخزانة، مستشاراً إلى جانب تعاونها مع حلفاء قدامى مثل مسؤولة السياسات السابقة روهيني كوسوغلو. كما تعمل مع ثلاثة استشاريين من خارج الإدارة، هم مايك بايل، أول مستشار اقتصادي لها كنائبة للرئيس، وبراين ديس، وبھارات رامامورتي، مساعدا بايدن السابقان في المجال الاقتصادي، لمعاونتها على صقل خطة اقتصادية جديدة تستند إلى إنجازات إدارة بايدن-هاريس، حسب أشخاص مطّلعين على خططها.
سياسات ليست جديدة
تستعد هاريس لإعادة تقديم نفسها، مركّزة على أهم ما حققته من إنجازات، مع بعض التعديلات، بدل أن تطرح مقترحات جديدة بالكامل، على الرغم من أن خططها قابلة للتغير في أي وقت. فقد تعهدت بإعادة بناء الطبقة الوسطى، كما تستند حملتها إلى بعض إنجازات الإدارة الحالية، مثل تحديد سقف لأسعار بعض أدوية الأنسولين عند 35 دولاراً في الشهر، سائرة بذلك على خطى بايدن.
بعد أيام من التجمع الانتخابي في أتلانتا، تعهدت هاريس خلال تجمع ضخم آخر في ويسكونسون بمحاربة "التلاعب غير القانوني بالأسعار"، والحد من زيادة الإيجارات التي تفرضها الشركات الكبرى المالكة للعقارات، والتصدي لشركات الأدوية العملاقة، وتوسيع المستفيدين من تحديد السعر الأقصى لبعض الأدوية المباعة بوصفة طبية ليشمل مزيداً من الأميركيين، وهي جميعها من ركائز حملة بادين الانتخابية.
قالت: "سيكون تعزيز اقتصادنا وبناء الطبقة الوسطى هدفاً أساسياً لرئاستنا. عندما تكون الطبقة الوسطى في أميركا قوية، تكون أميركا قوية".
تدعم هاريس أيضاً زيادة الضرائب على الشركات إلى 28% من 21%، حسب الأشخاص المطلعين، وهذا يتماشى مع آخر اقتراحات بايدن المتعلقة بالموازنة، وهو اقتراح يدعو أيضاً لفرض ضرائب على أثرياء العملات المشفرة.
قال الأشخاص المطلعون إن حملة هاريس لا تعتزم الإعلان عن سياسات جديدة بالكامل فيما يخص أموراً مثل العملات المشفرة. يبدو أن التوجه العام يشير إلى أنها تنوي استخدام مقاربة تعايش مع وول ستريت، مع الالتزام بمكافحة الاحتكار والحرص على تنفيذ القوانين بما يتماشى مع تراثها كمدعية عامة.
تركيز على المواطن العادي
يقول بايل إن الأسس الاقتصادية التي تنطلق منها هاريس تشمل مساعدة أسر الطبقة العاملة، بالأخص التي لديها أطفال، مع إيلاء اهتمام للمواطن العادي والمؤسسات الصغيرة وريادة الأعمال.
وأشار إلى أنها ترى في حملتها الانتخابية "فرصة لتسليط الضوء على القيم التي حركتها طوال الثلاث سنوات ونصف السنة الماضية التي قضتها كنائبة للرئيس". واعتبر أن هاريس التي ما يزال قلبها ينبض بروح نائبة عامة، لا تتوانى في تطبيق القوانين، لكنها حريصة على مساعدة كافة الأطراف المعنية. قال: "لقد أثبتت كفاءتها في التعامل مع قطاع الأعمال، وكذلك استعدادها لتحميل الجميع مسؤولياتهم".
يتذكر بايل مثالاً على ذلك عندما قادت هاريس، بصفتها نائبة عامة، قضية ضد البنوك بخصوص ممارسات تسييل أصول الرهون العقارية، انتهت بتسوية قدرها حوالي 20 مليار دولار لصالح كاليفورنيا في 2012. كما أن لديها تاريخاً حافلاً في التصدي لشركات النفط الكبرى، ومن المحتمل أن تكون رئاسة هاريس أكثر حزماً من رئاسة بايدن في مواجهة شركات النفط بشأن ما تسببت به من تلوث في الماضي.
تبدو بعض أهداف هاريس واضحة. ففي اجتماع مغلق عقدته قبل فترة قصيرة مع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، فاجأته بسؤال حول رأي الكنديين بتطبيق "تيك توك". تعارض هاريس حظر التطبيق، وهي تستخدمه، لكنها تدعم إجبار الشركة المالكة على بيعه للتقليل من تأثير الصين على خوارزمياته والحد من وصولها إلى بيانات المستخدمين.
دعم قطاع الأعمال
في هذه الأثناء، يستعد الجمهوريون للمعركة. إذ قال السيناتور الجمهوري جون باراسو، الذي يحتل المركز الثالث بين الجمهوريين في مجلس الشيوخ، إن "كامالا هاريس كانت تدعم بشدة انطلاقاً من منصبها كنائبة للرئيس، الأسعار المرتفعة والحدود المفتوحة".
خلف الكواليس، تعمل هاريس بلا كلل وتضع معايير صارمة. يقول طاقم مساعديها إنها تطالبهم بأداء متميز، وهذا نابع جزئياً من اعتقادها بأن الأنظار موجهة إليها أكثر لأنها مرشحة تتخطى العوائق. كما أنها حذرة وتفضل عدم الخروج عن النص.
مدّت هاريس غصن زيتون إلى الشركات في وقت سابق هذا العام، فعقدت اجتماعات منتظمة مع كبار الرؤساء التنفيذيين منهم ديمون، والرئيس التنفيذي لشركة "فيزا" رايان مكينيرني، ورئيسة شركة "تينيو" (Teneo) أورسولا بيرنز، والرئيس التنفيذي السابق لشركة "أميركان إكسبريس" كين تشينولت. كما عززت علاقاتها مع رئيس البنك الدولي أجاي بانغا ورئيس "مايكروسوفت" براد سميث، الذي دعم مبادرة هاريس المتعلقة بأميركا الوسطى وساهم في جمع التبرعات لحملتها.
في 31 يوليو، أعلن أكثر من 200 مستثمر رأسمالي دعمهم لترشح هاريس إلى البيت الأبيض، مشيرين إلى أن وادي السيليكون وغيره من القطاعات سينهار بغياب "مؤسسات قوية وموثوقة". وضمّ الموقعون على تعهد "مستثمرون رأسماليون داعمون لكامالا" المليارديرات مارك كيوبان وريد هوفمان وفينود خوسلا.
تحت رئاسة هاريس، يُتوقع أن تظل قائمة المرشحين لمنصب وزير الخزانة كما كانت في عهد بايدن. وتشمل، وفقاً للأشخاص المطلعين، مديرة المجلس الاقتصادي الوطني لايل برينارد، ووزيرة التجارة جينا ريموندو، ونائب وزير الخزانة والي أدييمو، وكبير الموظفين جيف زينتس. سبق أن عملت هاريس مع أدييمو على مبادرات اقتصادية مثل دعم مقرضي أبناء الأقليات.
ضغوط للتخلي عن خان
تسود أيضاً تساؤلات حول ما إذا كانت هاريس ستخضع للضغوط التي تطالبها بتغيير مواقفها بشأن بعض القضايا. منها مثلاً مطالبة المتبرعين لصالح حملتها الانتخابية باستبدال رئيسة لجنة التجارة الفيدرالية لينا خان، التي تتزعم مكافحة الاحتكار وتحولت إلى بطلة في نظر التقدميين. إلا أن هاريس لم تبد أي تململ من خان، وقد رفضت حملتها التطرق إلى المسؤولين. قال بايل رداً على سؤال حول تنفيذ قوانين مكافحة الاحتكار: "لدى الإدارة سجل حافل بالإنجازات على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة، ونائبة الرئيس فخورة بذلك، وسترونها تسلط الضوء على هذا الرصيد".
برغم الحماسة الكبيرة التي تحيط بترشح هاريس، إلا أنها تواجه تحديات كبرى كما لو أنها طيار يعاد بناء طائرته بعد إقلاعها. فقد جاء إعلان بايدن مفاجئاً لدرجة أنها لم تتمكن حتى من الاتصال بزوجها دوغ إمهوف بعد أن انتهى من صف اللياقة البدنية "سول سايكل" في لوس أنجلوس.
في ذلك اليوم، تمكنت هاريس خلال تواجدها في مكان الإقامة المخصص لنائبة الرئيس سريعاً من استقطاب التأييد، إذ اتصلت بحوالي 100 من المشرعين وقادة الحزب الديمقراطي. كانت ترتدي سترة جامعة هاورد وطلبت يومها بيتزا لفريق عملها، واختارت سمك الأنشوجة على فطيرتها.
لم تحجز الحملة الجديدة لهاريس أي إعلانات تلفزيونية في أسبوعها الأول، فيما سارع ترمب إلى تصويرها كـ"ليبرالية متطرفة". وكان استطلاع رأي أجرته بلومبرغ نيوز و"مورنينغ كونسلت" في يوليو أظهر أن هاريس تمكنت من وقف تقدم ترمب، إلا أن السباق ما يزال متقارباً جداً.
أركان حملتها
في غضون ذلك، أجرت هاريس تعديلات طفيفة على طاقم حملتها الانتخابية، مستعينة بوجوه مألوفة من فريق الرئيس السابق باراك أوباما، مثل ديفيد بلاوف. أمّا المرشح لمنصب نائب الرئيس تيم والز، فكان قد بدأ مسيرته السياسية كعضو معتدل في الكونغرس، وعاد ليتبنى لاحقاً مبادئ تقدمية، مثل توسيع دعم الأقساط التعليمية والحسومات الضريبية لذوي الاطفال والعطل العائلية.
حقق والز الكثير كحاكم بأغلبية ديمقراطية ضئيلة، بينما كانت هاريس الصوت الحاسم في تمرير مشاريع قوانين رئيسية لبايدن، منها قانون خفض التضخم، الذي بات يشكل نقطة ضعف لها حالياً. بعبارة أخرى، أثبت كل منهما قدرة على الدفع قدماً بالأولويات الديمقراطية في ظلّ أغلبية ضئيلة. ومن المتوقع أن يستمرا في ذلك. إن هاريس هي النجمة الآن.