نفس السؤال الذي يخيم على الديمقراطية الأميركية يلقي بظلاله على جميع الجوانب السياسية في العالم: ماذا لو عاد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في 2025؟
قد يفوز بالرئاسة أو لا يفوز، لكن إذا فاز فسيشعر بالتحرر حتى من الأغلال القليلة التي قيدته خلال ولايته الأولى، وسيحاول إخضاع كل أفرع الحكومة الفيدرالية لسيطرته الشخصية لملاحقة خصومه المحليين.
وبالقدر ذاته من الخطر، سيعود ترمب إلى سياسته الخارجية الفوضوية، مدفوعاً بالغرائز والعقد، عوضاً عن المصالح والمبادئ. وصف جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترمب، تلك النتيجة بأنها أرخبيل من النقاط لا تربط بينها حبال المنطق.
مصير أوكرانيا بين يدَي ترمب
ينتشر في أرجاء العالم طائشون سيبتهجون بفوزه، مثل الشعبويين وأصحاب النفوذ والحكام المستبدين، وهم من النوع الذي يصادقه ترمب، ويعجب ويقتدي به. واحد منهم هو فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر الصديق المقرب لحركة "لنُعِد العظمة لأميركا" (MAGA) اليمينية في الولايات المتحدة. أيضاً بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي حذا حذو ترمب بتحويل مؤسسات الديمقراطية إلى سلاح للحصول على نفوذ شخصي، والإفلات من السجن.
مع ذلك، فأشد المعجبين الأجانب شرّاً هو فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي الذي أيّد ترمب في انتخابات 2016، وأذِن بحملات التأثير الروسية لصالحه في انتخابات 2020، الذي يتوق إلى عقد اتفاق معه في 2025 لتقسيم أوكرانيا، وأمور كثيرة غيرها. لذلك تتوقع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حالياً أن يواصل بوتين هجومه الدموي المتعثر على أوكرانيا حتى إجراء الانتخابات الأميركية على الأقل.
للسبب ذاته تشعر أوكرانيا بالرعب من فوز ترمب بولاية رئاسية ثانية، علماً بأن محور المحاولة الأولى لعزل ترمب كان منعه المساعدات عن كييف للضغط عليها لملاحقة عائلة بايدن. يرى ترمب أن الحرب العدوانية التي شنّها بوتين ليست إلا نزاعاً إقليمياً خطره محدود على الولايات المتحدة وحلفائها. وبينما وحّد بايدن الغرب لدعم كييف، فالأرجح أن ترمب سيتخلى عن الأوكرانيين ويتركهم لملاقاة مصيرهم، أو سيجبرهم على الدخول في مفاوضات رغماً عنهم.
قلق الحلفاء
يثير هذا الاحتمال خوف شركاء الولايات المتحدة، فخلال ولايته الأولى أوضح ترمب مدى استخفافه بالحلفاء، بل حتى بـ"حلف شمال الأطلسي" (ناتو)، تكتُّل الدفاع المشترك الذي ردع الكرملين منذ 1949. فشكّك في عزم أميركا على التزام المادة الخامسة من ميثاق الناتو، التي تنصّ على أن الهجوم على إحدى دوله يُعَدّ هجوماً على دول الحلف كلها، وهدّد بالانسحاب من الحلف نهائياً، ما قد يفعله إذا فاز بولاية رئاسية ثانية.
فاز بالرئاسة أو لم يفز، فمجرد الاحتمال يقلق أعضاء الناتو، مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا الدول السوفييتية السابقة، وتشعر بأنها الأكثر عرضة لخطر روسيا حال نجاحها في أوكرانيا. كما يقلق الحلفاء من خارج الناتو، مثل كوريا الجنوبية واليابان. ففي الاجتماع مع بايدن في كامب ديفيد الأسبوع الماضي، اتخذ قادة الدول الثلاث (الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان) أول خطوة تجاه تشكيل حلف مصغر على غرار الناتو في شرق آسيا لردع الصين. ومع وصول ترمب إلى البيت الأبيض، قد يخلُص قائدا كوريا الجنوبية واليابان إلى أنه لا يمكن الوثوق بالوعود الأميركية، وتلك الفكرة بحد ذاتها قد تغري الصين بمهاجمة تايوان أو الاستيلاء على مساحة أكبر في بحر الصين الجنوبي.
على مستوى أكثر عمومية، سيمحو ترمب ما تبقى من فكرة أن أميركا، القوة الكبيرة الآفلة التي رغم ذلك هي أقرب ما في العالم لمفهوم الهيمنة، يجب أن تقود على المستوى العالمي للحفاظ على النظام. وعوضاً عن المبادئ، سيضع ترمب السياسات وفق نظرية المعاملات القاسية والانتهازية: عقد صفقة تجارية هنا وشن حرب تجارية هناك، وفرصة لالتقاط صورة مع ديكتاتور هنا وازدراء حليف هناك...
ماذا سيفعل الحلفاء؟
كيف يستعد حلفاء أميركا؟ سيكون الاستنتاج المنطقي للتكتلات، مثل الاتحاد الأوروبي، في نهاية المطاف هو جمع القوة العسكرية في صورة جيش أوروبي قادر على ردع العدوان، حتى دون قوة أميركا الجبارة. لا بد أن يؤيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا المسار، إذ يفضّل أن يتحدث عن "استقلالية أوروبا"، بل حتى سيضع ترسانة دولته النووية تحت تصرف الاتحاد الأوروبي بأكمله.
من الناحية العملية، لن يفعل ماكرون ذلك، ولن يعوض الاتحاد الأوروبي، التكتل المنقسم، انسحاب أميركا عبر التحول إلى الولايات المتحدة الأوروبية. النتيجة المرجَّحة للانعزالية الترمبية هي انفصال القوى الإقليمية الأوروبية مرة أخرى. قد تغازل الأقطاب، إذا ما كانت حكوماتها الشعبية لا تزال في السلطة، ترمب مقابل صفقات خاصة. قد يعود الألمان إلى مسارهم التاريخي ويتفاوضون مع الكرملين على رؤوس جيرانهم الشرقيين، وسيحاول الفرنسيون البقاء بمعزل في غطرستهم الديغولية (نسبة إلى شارل ديغول).
سيظهر هذا التشرذم والفوضى في مناطق أخرى، فالسياسة الدولية فوضوية بطبيعتها، وتحتاج إلى هيمنة أو إلى توازن القوى للحفاظ على النظام. من دون الهيمنة التي اتخذت صورة السلام الأميركي (Pax Americana) منذ الحرب العالمية الثانية، سيعود العالم للبحث عن توازن القوى على الأرجح. الأغلب أن يمر ذلك المسار بسلسة من الحروب، لا سيما أن الصين ستنافس الولايات المتحدة على الهيمنة في النظام العالمي الوليد.
بصيص من الأمل
حلفاء أميركا على دراية تامة بتلك السيناريوهات، لذا سألت مايكل لينك، منسق العلاقات عبر الأطلسي بوزارة الخارجية الألمانية، عن كيفية استعدادهم، فرد عليّ برسالة إلكترونية مفادها أن على ألمانيا وشركائها الأوروبيين استغلال الوقت المتاح حتى الانتخابات لعقد أكبر قدر ممكن من الاتفاقات مع إدارة بايدن. في الوقت ذاته، على الدول الأوروبية بناء علاقات جيدة وقوية مع الجمهوريين في الكونغرس الأميركي وغيره، فإذا حاول ترمب الانسحاب من الناتو أو إغلاق القواعد الأميركية في ألمانيا، يمكن لحلفاء أميركا استخدام تلك العلاقات للالتفاف على ترمب.
سامحني، أهذا كل ما ستفعلونه؟ نعم، هو ذلك، فلا أوروبا ولا شرق آسيا أو أي إقليم آخر في العالم يعرف كيف يواجه تحدي الولاية الرئاسية الثانية لترمب وخسارة الريادة الأميركية المترتبة على ذلك، أفضل ما في جعبتهم هو الحديث إلى جمهوريين آخرين، والأمل في أن ينقذ أصحاب الأخلاق في الحزب الجمهوري العالم من كارثة.
يوجد أمل في أن ذوي الأخلاق لا يزالون في حزب "أبراهام" لينكولن سابقاً. فالمناظرة بين منافسي ترمب على ترشيح الحزب الجمهوري، التي تجاهلها، قد تقدم بعض الأدلة. جاء أول بصيص من التفاؤل من مجلس الشيوخ في الشهر الماضي، عندما أقر مشروع قانون مشترك بين الحزبين يمنع أي رئيس من الانسحاب من الناتو دون موافقة ثلثي المجلس أو إصدار قانون من الكونغرس. مع ذلك فإن إقناع الجمهوريين بإقرار ذلك القانون بمجلس النواب سيكون أصعب.
تقريباً، لم تحدّد السياسة الخارجية نتيجة الانتخابات الأميركية قط، لكن الناخبين الأميركيين، لا سيما الجمهوريون، لا بد أن يدركوا أن ما على المحك في 2024 هو مستقبل، لا الدولة وحدها، بل العالم أيضاً، فعدم انتشار الأسلحة النووية، والمعركة ضد تغير المناخ، وصور التعاون الدولي الأخرى، إلى جانب الصراع بين الاستبداد والديمقراطية، والفوضى والنظام، ستكون كلها موجودة على بطاقة الاقتراع.
هل سيعود ترمب إلى البيت الأبيض؟ أعداء أميركا يتمنون ذلك، أما أصدقاؤها فيدْعون ألا يعود.