أصبحت فنزويلا أفقر دولة في أميركا الجنوبية وفي حالة يُرثى لها، بعدما كانت قوة عملاقة في إنتاج النفط.
لكن الدولة ترى الآن سبيلاً جديداً للنجاة الاقتصادية تحت مياه البحر الكاريبي الدافئة الزرقاء. فعلى بعد 50 كيلومتراً (30 ميلاً) فقط من سواحل كراكاس، يقبع ثاني أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي في نصف الكرة الغربي. مع ذلك، لم تُصدّر فنزويلا نقطة من هذا الوقود. وحالياً بعد تدهور قطاع النفط في البلد، يراهن الرئيس نيكولاس مادورو على فرصة بعيدة المنال لاستغلال تلك المخزونات الهائلة لإنعاش اقتصاد دمره التخلف عن سداد الديون، والتضخم المتفشي، والعقوبات الأميركية القاسية.
توصلت الحكومة إلى اتفاق مع شركتي "ربسول" (Repsol SA) الإسبانية و"إيني" (Eni SpA) الإيطالية لرفع إنتاج الغاز من عملياتهما في فنزويلا وتصدير الفائض إلى أوروبا، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر.
خلال الشهر الماضي، سافر وفد حكومي إلى لندن ليجتمع مع إحدى الشركات لمناقشة اعتماد حقول الغاز بالبلاد وفقاً للمعايير الدولية. كما يضغط المسؤولون لإنشاء خطوط أنابيب تصل إلى محطة تصدير في ترينيداد وتوباغو، واكتشاف طرق لاحتجاز معظم الغاز الذي تفرّغه فنزويلا في الهواء عبر الإشعال والتسربات.
أوروبا تساند طموحات فنزويلا
رفضت "إيني" و"ربسول" التعليق، ولم ترد وزارة النفط الفنزويلية على طلب للتعليق.
يوجد أسباب اقتصادية وراء تلك الطموحات، فهناك طلب كبير من الدول الأوروبية التي تبحث عن بديل للإمدادات الروسية، وما تهدره فنزويلا من الغاز، سواء بالإشعال أو التسريب، أكبر من المعدل السنوي لإنتاج المملكة المتحدة، إذ تُقدر قيمته بنحو مليار دولار سنوياً. كما قد توفر صادرات الغاز الدولار الثمين لاقتصاد انكمش بمقدار الثلثين منذ 2013 في ظل انهيار العملة.
ستكون تلك الإجراءات بمثابة تعهد بالغ الصعوبة في دولة شهدت فيها كبرى شركات الطاقة عمليات مصادرة استثمارات بمليارات الدولارات دون تعويض، حيث أفضت مواقف الحكومة المعارضة للديمقراطية إلى فرض عقوبات صارمة، كما تحتاج البنية التحتية لتحديثات ضخمة لتبدأ عملها مجدداً. فاستخراج الغاز من باطن الأرض فحسب يتطلب استثمارات تزيد عن 500 مليون دولار، حسب "آي بي دي لاتين أميركا" (IPD Latin America)، وهي مجموعة بحثية متخصصة في الطاقة.
كيف هزم مادورو منافسه غويدو وأميركا في أزمة فنزويلا؟
قال ديفيد فوغت، العضو المنتدب في "آي بي دي لاتين أميركا": "نظراً للمخاطرة والتعقيدات السياسية ذات الصلة، ستكون المفاوضات صعبة بشكل استثنائي".
أبدى مادورو رغبة محدودة في تقديم تنازلات سياسية قد تؤدي لتخفيف العقوبات، مثل السماح بإشراف المراقبين المستقلين على الانتخابات، أو إزالة العوائق أمام المرشحين المحظورين ليتمكنوا من الترشح للرئاسة. لكن مسؤولي الاتحاد الأوروبي الذين يبحثون عن مصدر جديد لإمدادات الغاز، أشاروا إلى مساندتهم لطموحات فنزويلا تأتي جزئياً بسبب المنافع البيئية الناتجة عن وقف إشعال الغاز وتسريبه. أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لترينيداد وتوباغو لبدء المحادثات مع مادورو فيما يخص اتفاق لتصدير الغاز الطبيعي إلى الخارج، في إطار السعي لتعزيز أمن الطاقة في منطقة الكاريبي.
ارتفاع الطلب الإقليمي والأوروبي
نظراً لأن أغلب شركات النفط والغاز الغربية ما كانت لتبرم اتفاقاً مع فنزويلا دون تأكيد أميركي على عدم تعرضها للعقوبات، قد ترغب إدارة بايدن في إعطاء الضوء الأخضر للتعاقدات بهدف ضمان أمن الطاقة الأوروبي. كما أن القانون الفنزويلي يسمح لشركات الغاز الأجنبية بالعمل بشكل مستقل في البلاد، ما يجعل قطاع الغاز أكثر جاذبية من النفط، الذي يُشترط فيه التشارك مع الشركات التي تملكها الدولة.
الصين تجدد علاقتها مع فنزويلا تحت أنظار أميركا
أدريان لارا، كبير محللي التنقيب والإنتاج في أميركا اللاتينية بشركة "وود مكنزي" (Wood Mackenzie) الاستشارية، قال: "في جميع أنحاء العالم، يوجد مستثمرون مهتمون بدخول فنزويلا أو العودة إليها، السؤال هنا هو بأي وتيرة سيحدد ذلك؟. فمسار تعافي قطاع الهيدروكربونات في فنزويلا لن يكون سريعاً، حتى لو تحسن المناخ السياسي وخففت الولايات المتحدة العقوبات".
قد يكون هذا الوقت الأنسب لزيادة فنزويلا إمداداتها من الغاز. فالطلب في أميركا اللاتينية سيرتفع 1.4% سنوياً على مدى العقد المقبل، في حين أن الإنتاج الإقليمي سينخفض 5.6% سنوياً، وفقاً لتوقعات "وود مكنزي". يُتوقع أن تتعطش دول مثل ترينيداد وتوباغو، وكولومبيا، وبوليفيا، بشكل خاص لإمدادات الغاز. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تعاني الحكومات الأوروبية من نقص الغاز الروسي، وتركز على ملء مواقع التخزين إلى مستوى 90% من سعتها قبل الشتاء المقبل.
صراع سلطة ومليارات مفقودة تعكر صفو النخبة الحاكمة في فنزويلا
كما أن السوق المحلية متعطشة أيضاً للإمدادات، بعدما تفاقمت شدة نقص الغاز في فنزويلا لدرجة أن جزءاً كبيراً من السكان أصبح مُجبراً على إعداد وجباته على نيران الحطب.
3 مشروعات أساسية
مع ذلك، لا توجد طريقة يمكن لفنزويلا من خلالها اتخاذ خطوات كبيرة في صادرات الغاز دون العثور على الشركات الراغبة في الاستثمار. ورغم أن احتياطيات الغاز هائلة في البلاد، إلا أن مسؤولي الحكومة يجرون محادثات مع شركة "جيو إكس إم سي جي" (Geoex MCG) لتقديم بيانات قطاع الطاقة، ومقرها في لندن، حتى تتمكن الدولة من وضع خريطة لحقول الغاز واعتماد إنتاجيتها. والخطة المستهدفة هي عرض البيانات للبيع إلى شركات الإنتاج المحتملة بحلول العام المقبل.
تملك فنزويلا أكبر احتياطي مسجل من النفط في العالم، وفي مرحلة ما ضخت 3 ملايين برميل يومياً. لكن بعد سنوات من سوء الإدارة الاقتصادية، وعدم الكفاءة في شركات النفط التي تملكها الدولة، والعقوبات، لا تنتج الدولة حالياً إلا 730 ألف برميل يومياً فقط، وفقاً للبيانات التي جمعتها منظمة "أوبك".
يركز المسؤولون الفنزويليون على 3 مشروعات أساسية لبدء تحقيق طموحاتهم في قطاع الغاز. الأول هو اتفاق وساطة مع "ربسول" و"إيني" لبدء التصدير من مشروع "كاردون 4" قبالة سواحل البحر الكاريبي، ما سيكلل جهود الشركتين التي امتدت نحو 17 عاماً بالنجاح، حيث بدأت الشركتان التنقيب في فنزويلا في 2006، واكتشفتا الغاز في 2009.
المشروع الثاني هو احتجاز الغاز الذي تشعله فنزويلا -أو تحرقه- لعدم امتلاكها عدد كافٍ من منشآت المعالجة، ما يجعلها ثامن أكثر الدول تسبباً في التلوث على مستوى العالم من حيث انبعاثات الميثان، وفقاً لتقرير "وكالة الطاقة الدولية" لعام 2022.
يطالب مادورو "ربسول" و"موريل إي بروم" (Maurel et Prom) الفرنسية بتوقع عقود لإصلاح محطات الضغط المتهالكة لاحتجاز الغاز، وفقاً لأشخاص مطلعين على الوضع.
أما المشروع الثالث، فهو إبرام اتفاقية مع ترينيداد وتوباغو لشحن الغاز من فنزويلا إلى الخارج، ما سيمكن شركة "أتلانتيك إل إن جي" (Atlantic LNG) التي تملكها حكومة ترينيداد، من معالجة نحو 8.4 مليون متر مكعب (295 مليون قدم مكعب) من الغاز يومياً في مشروعين مشتركين مع شركتي "بي بي" و"شل"، ثم تصديره إلى دول الكاريبي وأوروبا. حُفرت 4 آبار، لكن التكلفة المتوقعة لاستكمال خط الأنابيب ومرافق البنية التحتية الأخرى تبلغ 200 مليون دولار. يتوقع لارا أن تبدأ الصادرات خلال 4 إلى 7 سنوات، حال التوصل إلى اتفاق.
كما أصبح الوقت مواتٍ لمحاولة انتهاز هذه الفرصة في الغاز الطبيعي، حسب فرانسيسكو مونالدي، زميل سياسة الطاقة في أميركا اللاتينية بمعهد بيكر للسياسات العامة في جامعة رايس.
وزير النفط الفنزويلي يستقيل من منصبه وسط تحقيقات بمزاعم فساد
وقال: "المشروعات المقامة قبالة سواحل فنزويلا على البحر الكاريبي توفر فرصاً لتصدير الغاز الطبيعي مقابل تطوير سيمتد لأكثر من عقد. البديل أمام فنزويلا هو عدم فعل أي شيء وعدم تحقيق أي دخل من أي مصدر لعدة سنوات؛ عندها ستفقد فنزويلا فرصة عظيمة للحصول على استثمارات بمليارات الدولارات".