حتى في الوقت الذي انسحبت فيه قواته في شرق أوكرانيا وسط حالة من الفوضى الأسبوع الماضي، فتح فلاديمير بوتين جبهة جديدة في حربه ضد الغرب: "معركة من أجل التفوق الثقافي". فقد أعلن الرئيس الروسي أنَّ هدف سياسته الخارجية سيكون عبر قيادة هجوم مضاد عالمي ضد "فرض وجهات نظر نيوليبرالية من قبل عدد من الدول".
زعم بوتين أنَّ روسيا مؤهلة بشكل فريد لهذه المهمة، لأنَّها يمكن أن تقدم للعالم بديلاً عن الليبرالية. وقال في بيان إنَّ "قروناً من التاريخ منحت روسيا تراثاً ثقافياً ثرياً وإمكانات روحية، وضعتها في موقع فريد لنشر القيم الأخلاقية والدينية الروسية التقليدية بنجاح".
سيبدو هذا الأمر مألوفاً إلى حد بعيد لأي قارئ للتاريخ الروسي الحديث. قبل مائة عام، أطلق قادة الاتحاد السوفيتي الجديد ادعاءات مماثلة حول وجهة نظر عالمية، تتمحور حول موسكو لتحدي الليبرالية. وباعتبارهم من الشيوعيين، قاموا بتأطير المنافسة في إطار اجتماعي واقتصادي؛ ولأنَّهم، كانوا يفاخرون بإلحادهم، لم يكن من المرجح أن يستحضروا قيماً دينية روسية. لذلك؛ لم ترتقِ تلك المحاولة إلى مستوى "معركة من أجل التفوق الثقافي".
يبدو أنَّ بوتين، الذي يميل للنظر إلى الحقبة السوفيتية عبر نظارات وردية، قد نسي سبب خسارة فريقه لتلك المعركة، والذي تمثل في عدم توفر أسلحة كافية. أما روسيا خاصته، فهي في الغالب، أقل استعداداً للقتال. وتذكيراً بما قاله أوسكار وايلد (أو شكسبير أو مارك توين)، يجب ألا تنخرط في معركة من أجل التفوق الثقافي عندما تكون غير مسلح.
الهند والتجربة السوفيتية
نظراً لنشأتي في الهند في سبعينيات القرن الماضي، كانت لدي رؤية واضحة للمنافسة، وأتذكر كيف ولماذا خسر السوفيت، برغم أنَّ الميدان كان يميل لمصلحتهم. فعلى الرغم من عدم انحياز نيودلهي اسمياً في الحرب الباردة لواشنطن أو لموسكو، لكنَّها كانت تميل بشدة إلى الجانب السوفيتي. وبعد كل شيء، دعم الاتحاد السوفيتي الهند في التنافس الإقليمي مع باكستان المدعومة من الولايات المتحدة، وقدّم لها الأسلحة والمعرفة الصناعية والتجارة بشروط مواتية، شجّعت الهنود على النظر إلى الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، بنوع من الريبة، بل حتى العداء، في حين كان يُنظر إلى الروس على أنَّهم أصدقاء.
أيضاً تم تشجيعنا على عدم استهلاك المنتجات الغربية، فقد أبقت قيود الاستيراد معظم العلامات التجارية الأميركية بعيدة المنال، وبالتالي؛ يشكل فقدان الميزة التنافسية في هذا المجال عائقاً كبيراً أمام السوفيت كما كان من الممكن أن يكون. لم نضطر يوماً إلى مقارنة سيارات "فورد" و"جنرال موتورز" بسيارات "لادا" وفولغا كلانكرز"، على سبيل المثال.
لكن عندما تعلق الأمر بالمنتجات الثقافية، لم يكن من الممكن إخفاء افتقاد السوفيت للتميز. فالهنود، لا سيما الهنود الشباب مثلي، تشرّبوا الأدب والموسيقى والسينما والأزياء من الغرب. وعلى الرغم من شحن موسكو كميات من الكتب إلى الهند - التي تُرجمت إلى اللغات الهندية وبيعت بأسعار مدعومة بشدة - لكنَّها لم تلق رواجاً كبيراً بين أقراني.
جعبة خاوية
لم يكن لدى السوفيت ما يضاهي مجموعة كتب "هاردي بويز" (Hardy Boys) أو "بيتي وفيرونيكا" (Betty and Veronica). حتى أولئك الذين يميلون إلى الأدب الأكثر جدية، وجدوا أنَّ المؤلفات السوفيتية تميل إلى الإسفاف بحدة، بخلاف أعمال بوشكين وتشيكوف. (مع ذلك، قرأنا للمؤلفين الروس المحظورين في موسكو، مثل ألكسندر سولغينتسين).
لم يكن ضمن مجموعتي من ألبومات موسيقى الروك والبوب، أي شيء يخص السوفيت، كما لم يكن هناك شيء كزوج رائع من الأحذية الرياضية السوفيتية مثلاً. وعلى الرغم من أنَّ القناة التلفزيونية الحكومية الهندية كانت تبث أفلاماً سوفيتية بدافع من تحسسها بالواجب؛ فإنَّ قاعات السينما المحلية عرضت أفلام هوليوود الأكثر شهرة. وكنتيجة لهذا التعرض للثقافة الغربية؛ أُعجبنا عموماً بأنماط الحياة الغربية المليئة بالقيم الليبرالية.
كل هذا ساعد الغرب، وخصوصاً أميركا، على ممارسة القوة الناعمة في الهند التي لا يمكن أن تضاهيها أسراب من طائرات "ميغ 21" أو تكنولوجيا التصنيع السوفيتية. وفي مسقط رأسي، مدينة فيساخاباتنام الساحلية، لم يغب عن انتباهنا أنَّ المهندسين السوفييت المعارين إلى مصنع الصلب المحلي، كانوا متحمسين مثلنا تماماً لألبومات موسيقى الروك الأميركية والجينز الأزرق.
منافسة من جانب واحد
إذا كان التنافس الثقافي قد بدا في ذلك الوقت أنَّه من جانب واحد، فهو اليوم كذلك أيضاً، وبشكل سخيف. أنتجت روسيا بقيادة بوتين القليل من المؤلفات الثقافية الجديرة بالملاحظة، هذا إن وجدت أصلاً. في عالم أكثر تقبلاً للترفيه بلغات غير الإنجليزية، لا توجد مسلسلات تلفزيونية روسية شهيرة، وليس هناك جنون بموسيقى بوب روسية، كما لا توجد "هوليوود" روسية. هناك فقط قناة "روسيا اليوم" (RT)، وقناة الكرملين "الإخبارية". وبرغم أنَّها تعمل على مدار الساعة، لتقدم لمشاهديها ومستمعيها عالماً موازياً من نظريات المؤامرة والأكاذيب، لكنَّها لم تكتسب سوى القليل من الزخم.
إن لم يكن لدى روسيا ما تنافس به كوريا الجنوبية أو تركيا في المجال الثقافي؛ فإنَّ موسكو ليس لديها الكثير لتقدمه خارجها. وعلى عكس القادة السوفييت الذين يقدسهم، ليس لدى بوتين إيديولوجية اجتماعية اقتصادية لإثارة إعجاب العالم بأسره. وبخلاف المعدات العسكرية؛ لا يرغب أي شخص في أي منتجات أو خدمات روسية. (كما أنَّ الأضرار التي تحدثها المعدات العسكرية الخاصة بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، قللت أيضاً من جاذبية الأسلحة الروسية). قد يكون الهنود سعداء بشراء النفط الروسي بسعر مخفض، لكنَّهم مؤيدون للغرب أكثر من أولئك الذين نشأوا في حقبة السبعينيات.
غياب القوة الناعمة
إنَّ القوة الناعمة القليلة التي كانت تمتلكها روسيا - في الغالب من نتاج اللغة والتاريخ المشتركين، والتي تقتصر بالضرورة على جيرانها المباشرين - جرى تقويضها إلى حد كبير بسبب غزو بوتين لأوكرانيا، كما جعلت الحرب عملية استحضار القيم الأخلاقية الروسية، أمراً أجوف وبلا قيمة.
بغض النظر عن نقل المعركة إلى الغرب؛ لن يتمكن بوتين حتى من الفوز في المنافسة ثقافياً في حديقته الخلفية. ومن الجدير بالذكر أنَّ مغني الراب ورجل الأعمال الموالي لبوتين الذي تولى إدارة شبكة مقاهي "ستاربكس"، لم يقم قام باستبدالها من خلال مقاهٍ روسية صغيرة فقط، وإنما بنسخة رخيصة من النسخة الأصلية.