الحقائق الجيوسياسية اليوم أكثر فوضوية مما كانت عليه إبان الحرب الباردة

لماذا تسعى دول للنأي بنفسها عن الحرب الباردة الجديدة؟

الأمم المتحدة - المصدر: بلومبرغ
الأمم المتحدة - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

قال الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطابه عن حالة الاتحاد، إن "الديمقراطيات ترتقي لمستوى المسؤولية" فيما يشن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرباً شرسة على أوكرانيا. يقود فرانسيس فوكوياما مجموعة معلقين يزعمون عودة "روح 1989" وأننا على وشك أن نشهد "ولادة جديدة للحرية" عالمياً.

يردد مثل هذا الخطاب الخطير عادةً أشخاص عايشوا الأيام الأخيرة العنيدة من الحرب الباردة، وقد يجعل الدول الغربية تسيء مجدداً قراءتها للعالم وقدرتها على تشكيله.

إن الحقائق الجيوسياسية اليوم أكثر فوضوية مما كانت عليه إبان الحرب الباردة بشكل يطمس التباين الأخلاقي بين الديمقراطية والاستبداد.

لماذا تحجم إسرائيل عن تزويد أوكرانيا بمنظومة القبة الحديدية؟

إنّ توجّه الولايات المتحدة إلى فنزويلا، وربما إلى إيران، بغرض تخفيف الضغط الدافع لصعود أسعار النفط يهدّد بتفريغ "تحالفها من الديمقراطيات".

كما يبدو أن الصين، التي كانت شريكاً موثوقاً به ضد الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي، قد خلصت إلى أن الارتباط الوثيق مع الغرب ليس مرغوباً به أو قابلاً للتطبيق، إنها تضخم حالياً الدعاية الروسية، وتسكت الأصوات المناهضة لبوتين.

يبدو أن الأهم من ذلك هو أن مجموعة كبيرة من الدول تبدو مستعدة للنأي بنفسها عن الحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب الذي توحد في عجالة.

انسلاخ وعدم انحياز

قال الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، إن بلاده "لن تنحاز لأي جانب"، وكانت جنوب أفريقيا أكبر 17 دولة أفريقية امتنعت عن التصويت على قرار للأمم المتحدة يدين غزو روسيا أوكرانيا، فيما تنتمي الأرجنتين وتركيا والمكسيك وإندونيسيا إلى غالبية عظمى من دول رفضت فرض عقوبات على روسيا.

كانت الهند الأبرز بين الدول التي لم تعلن موقفاً، رغم أنها من ناحية نظرية على الأقل أكبر ديمقراطيات العالم، وتقيم نيودلهي علاقات منذ فترة طويلة مع موسكو، حيث تلبي روسيا حوالي نصف احتياجات الهند من المعدات العسكرية، ما يفسر جزئياً رفض الهند الوقوف مع شركائها الأمريكيين والأستراليين واليابانيين في ما يسمى "الرباعية".

الهند تدرس طرقاً للالتفاف على العقوبات والاستفادة من النفط الروسي الرخيص

حالها حال حكومات عديدة حول العالم تكافح تضخماً خطراً سياسياً، حيث إنّ إدارة رئيس الوزراء ناريندرا مودي قلقة حيال ارتفاع أسعار الصادرات الرئيسية الروسية، وهي النفط والقمح والأسمدة. كما يثمن مودي بالتأكيد دعم روسيا المستمر لإلغاء الهند وضع الحكم الذاتي الدستوري لولاية كشمير.

لن تحيد الهند، لكل هذه الأسباب وأكثر منها، عن إستراتيجيتها الجيوسياسية الأساسية لعدم الانحياز، أو قدرتها على تحريك قوة ضد أخرى مع الحصول على التزامات مادية ودبلوماسية من كلتيهما.

معنا أو علينا

لم تقيّم أطراف الحرب الباردة، التي تصر على مبدأ "إما معنا أو علينا"، حقاً العلاقات التبادلية والمتغيرة في ظل عدم الانحياز. كما لا تسعى لفهم مدى حذر وخوف دول العالم الأكثر اكتظاظاً بالسكان إزاء تعاونها مع نظام دولي يهيمن عليه الغرب.

يتذكر الإندونيسيون الانهيار المالي في 1998 بجنوب شرق آسيا ويلومون المستثمرين الغربيين على التسبب به، كما يستذكر القوميون الصينيون دوماًِ قصف حلف شمال الأطلسي "الناتو" لسفارة بلادهم في بلغراد في 1999، كما أن ذكريات غزو العراق في 2003 والتدخل الغربي الكارثي في ليبيا ما تزال مهيمنة في آسيا وأفريقيا.

ما دافع أكراد العراق لهجر وطنهم الآمن؟

لا يبدو بوتين منتهكاً للقانون الدولي بلا مثيل في نظر عديد من الآسيويين والأمريكيين اللاتينيين والأفارقة، بل إن خطابه المعادي للغرب يلقى آذاناً صاغية، وتشهد على ذلك شعبيته بصفته الشخصية في دول مثل الهند وإندونيسيا.

يقابل عدم الثقة بين القوى الإقليمية القوية مثل روسيا والصين وتركيا وإيران، شكوك بأن الولايات المتحدة قوة عظمى ضعيفة بشكل كبير وغير مستقرة للغاية، تأكدت هذه الهواجس بقوة خلال رئاسة دونالد ترمب، ولم تتبدد بسبب استمرار تأثيره وتظاهرات توجهاته على السياسة الأمريكية.

أنانية زمن الوباء

لقد ساعدت الاستجابة الأوروبية والأمريكية الأنانية إبان الوباء بزيادة مشاعر الاستياء تجاه الغرب، الذي سيزداد بالتأكيد في ظل تصرفات متهورة مثل إلغاء ليتوانيا لشحنة لقاحات كوفيد-19 إلى بنغلاديش بسبب رفض الأخيرة إدانة روسيا في الأمم المتحدة.

كما تعيد دول في شتى أرجاء العالم النظر باعتمادها على السلع والتقنيات والتمويل وأنظمة الدفع الغربية بعد تجميد الولايات المتحدة لاحتياطيات الدولار للبنك المركزي الروسي، وتخارج شركات بارزة تقدم منتجات للمستهلكين الشهيرة مثل "أبل" و" أمريكان إكسبريس" و"ماكدونالدز"، من روسيا بشكل مفاجئ.

بعد أسبوعين من غزو أوكرانيا.. الاقتصاد الروسي يتجه لأسوأ أداء في 20 عاماً

كانت الصين، الغاضبة من خنق ترامب لشركة "هواوي تكنولوجيز" والتهديد بشطب الشركات الصينية من وول ستريت، تسعى منذ فترة طويلة للاستقلال في مجالات التمويل والتقنية المهمة للغاية، وتحاول إيجاد طرق لتحدي هيمنة الدولار العالمية.

كما ستسرع الجهود الوطنية الأخرى الرامية للتمتين الاقتصادي وتنويع سلاسل التوريد بدءاً بلقاحات كوفيد ووصولاً لأشباه الموصلات.

ستتضاءل أفاق الديمقراطية بشكل أسرع مع تفكك العولمة، رغم الخطاب حول ولادة الحرية الجديدة.

تبني الأنظمة الاستبدادية حول العالم حصوناً رقميةً عاليةً لحجب المعارضة. إن سحب الخدمات التي تقدمها شركات الإعلام في وادي السليكون سيعينها على الحفاظ على احتكارها للمعلومات المضللة.

سنفتقد العولمة لدى زوالها

ستتعاظم التوجهات التالية بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا: عدم الانحياز بطابع انتهازي، وتفكيك الديمقراطية، وفك الارتباط بين الدولار والنظام المالي الدولي، ونزع هيمنة أمريكا عن العالم.

انتهت الحرب الباردة في 1989 بكثير من الأوهام حول المكانة الأخلاقية للعالم الحر وقدرته الجيوسياسية. إن الحرب الباردة الثانية التي تبدأ بمزيد من هذه الأوهام تتجه نحو طريق مسدود مدمر، إن لم يكن هزيمةً واضحةً.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات