تابع سكان كييف القذائف وهي تنهمر على مدينتهم، تماماً كما كانوا فعلوا عام 1941 في بداية حرب وحشية تحمَّلت خلالها أوكرانيا معاناة لا توصف. وفيما ترد صور لعائلات تختبئ في الأقبية ومحطات قطارات الأنفاق بحثاً عن الأمان، بينما تنير الضربات الصاروخية السماء، من الصعب ألا نقارن بين الأمس واليوم. لكن هذه المرّة التهديد يأتي من الشرق.
ربما المقارنة غير مثالية، ولكنها حيّة جداً في قلوب الكثيرين من الأوكرانيين، وهي تتعارض بشكل صارخ مع مزاعم فلاديمير بوتين المستهجنة بأنه "يكافح النازية" في أوكرانيا. بغضّ النظر عن أن سرديته تجاهلت التفصيل المزعج المتعلق بالاتفاق النازي - السوفياتي، فقد اعتبر أن أحداث عام 1941 حجة للغزو في مسعى لتفادي تكرار خطأ "استرضاء" الآخرين. وقال في خطاب متلفز يوم الخميس: "لن نرتكب هذا الخطأ مرّة ثانية".
اقرأ أيضاً: ما هي العقوبات التي ستكون أكثر إيلاماً بالنسبة للرئيس بوتين؟
لن يكون الكرملين حكيماً في تجاهل هذه المقارنة، حتى في حالته الواهمة الحالية. ربما تبدو الحرب الخاطفة فكرة جيدة في نظر المخططين لها، ولكنها نادراً ما تكون مقتضبة أو غير مؤلمة على أرض الواقع، حتى بالنسبة إلى الدول القوية التي تملك التفوق العسكري. قد تتمكن القوات الروسية من السيطرة على العاصمة الأوكرانية، ولكن المحافظة على هذه السيطرة في وجه قوات دفاع محفزة وسكان معادين، أو حتى تحقيق أهداف بوتين طويلة الأمد بتغيير النظام أو ترسيخ الأمن، أمر مختلف تماماً.
اقرأ المزيد: بوتين قادر على قمع الروس المعارضين للحرب.. لكن ليس إلى الأبد
تجدر الإشارة إلى أن أوكرانيا تمكنت بالفعل من التصدي لروسيا بشكل فعّال أكثر ممّا كان يتوقعه كثيرون. لا نزال في الأيام الأولى، إلا أن الهجوم الروسي لم يكن جراحياً، ولم نشهد استخدام تكتيكات متطورة بشكل لافت. في معركة خارج كييف يوم الخميس، هاجمت قوات روسية مجوقلة المطار، وأفيد لاحقاً بأن الجانب الأوكراني تمكن من إعادة السيطرة عليه.
بين الهجوم والدفاع
ثم تبرز مسألة الأعداد. تشير النظريات القتالية إلى أن المهاجمين بحاجة إلى نسبة ثلاثة مقاتلين لواحد من أجل الانتصار على المدافعين في المواجهة الأولى، وهذا الأمر لا يزال ينطبق على الأعمال القتالية في عالم اليوم، في ظل التقنيات الحديثة والأنظمة المؤتمتة، بحسب ما قاله لي ميك راين، الخبير الإستراتيجي والجنرال المتقاعد في الجيش الأسترالي. في غضون ذلك، يواجه ما يقدّر بـ190 ألف جندي روسي متمركزين في داخل المنطقة الحدودية وحولها، قوة من 205 آلاف جندي أوكراني نشط. وبحسب راين، القتال على الأرض غالباً ما تكون نتيجته غير مؤكدة وغير متوقعة، وربما تكون موسكو قد أساءت تقدير الصعوبات التي ستواجهها.
بالطبع، تملك روسيا عدداً أكبر يمكنها أن تنشرهم. فقد حذر المسؤولون الاستخباراتيون الغربيون من أن موسكو تخطط للسيطرة على كييف باستخدام "قوة اكتساحية". وأفادت وسائل الإعلام الأوكرانية بأن روسيا تخطط لاحتلال كييف والسيطرة على الحكومة من خلال هجمات سيبرانية وقوات مجوقلة ومخربين يقومون بإشعال الحرائق وأعمال تخريبية، ما سيؤدي إلى الفرار بحالة ذعر، وهو أمر سيكون من الصعب التصدي له في حال استخدمت روسيا عدداً كبيراً. ولكن في أحسن الأحوال سوف تربح موسكو معركة، ولكنها لن تحقق انتصاراً شاملاً، ناهيك عن تحقيق نجاح طويل الأمد وفق شروط بوتين بما يؤمِّن ولاء أوكرانيا لروسيا.
جهوزية عالية.. ولكن
الجيش الروسي مدرّب ومجهّز اليوم بشكل أفضل بكثير ممّا كان عليه حين كنت معهم في غروزني. فقد أنفقت موسكو مبالغ طائلة على إصلاح قواتها المسلحة تمهيداً لهذه اللحظة بالذات. القادة العسكريون جاهزون، وأيضاً المجندون التابعون لهم. مع ذلك، يهاجم الروس دولة جارة تربط بين الكثير منهم وأبناء الشعب الأوكراني أواصر عائلية، وهم على عكس الأوكرانيين، لا يدافعون عن مصدر رزقهم ومنازلهم وعائلاتهم وقيمهم السامية التي تمنحهم التحفيز، مثل الديمقراطية والحرية.
لكن ثمّة سؤال أساسي أكثر يتمثل في ما إذا كان النصر الذي يتخيله بوتين، القائم على إنشاء حكومة صديقة لروسيا ووقف جنوح أوكرانيا نحو الغرب، قابل للتحقيق في ظلّ الإستراتيجية الحالية. هذا الأمر مشكوك فيه، لا بل يبدو أن الكرملين يقوم بالعكس.
يقول الكرملين إنه يريد أن يحرر أوكرانيا لا أن يحتلها. يريد أن يطيح برئيس البلاد ويستبدله بآخر صديق لروسيا. لكن أوكرانيا، على الرغم من كلّ مشاكلها، هي دولة ديمقراطية وليست استبدادية، وبالتالي لا يمكن تغيير قيادتها ببساطة من خلال الإطاحة بالرئيس الحالي فولوديمير زيلينسكي. وفيما كان الأوكرانيون في السابق مؤيدين بشكل كبير لموسكو، تظهر استطلاعات الرأي أن الوضع قد تغير. فالإبقاء على بديل مؤيد لروسيا في السلطة سيكون مستحيلاً إذا لم يكن مدعوماً بالقوة، أي بمعنى آخر باحتلال لا تقدر روسيا على تحمل تكلفته.
موارد روسية محدودة
كانت موسكو تعتمد على ضعف شعبية زيلينسكي، إلا أن الممثل الكوميدي السابق تحوّل إلى زعيم في زمن الحرب، حتى إن معارضيه احتشدوا خلفه. فهو على الرغم من منتقديه الكثيرين وتعثره في العديد من اللحظات الصعبة خلال الأزمة، كان على قدر المسؤولية. فقد ألقى خطابات حماسية من القلب، وتعهد بعدم مغادرة كييف على الرغم من أنه هو وعائلته أهداف رئيسية لموسكو على الأرجح.
في النهاية، هناك المسألة الأهم. سيقاتل الأوكرانيون بقدر ما يتطلبه الأمر، بما أنهم لا يملكون أي خيار آخر. سوف يتلقون أيضاً الدعم المالي والعسكري حتى لو كان الغرب متردداً في إرسال قوات على الأرض. صحيح أن روسيا ليست ضعيفة، ولكن مواردها محدودة، كما إن اقتصادها الذي يعاني أصلاً من الركود يواجه اليوم عقوبات اقتصادية واسعة، فيما الشعب، بغض النظر عن استطلاعات الرأي الرسمية، يستحيل أن يكون مؤيداً للحرب باسمه. أمّا النخبة فتشاهد مواردها تنهار.
قد يستولي بوتين على كييف، وبالتأكيد سوف يزعزع الاستقرار، فقد سبق أن فعل ذلك. لكن، هل يمكنه أن يحوِّل أوكرانيا إلى جار موال وإلى المنطقة العازلة التي يحتاج إليها؟ يبدو ذلك أصعب بكثير.