ربما أصبحت قيادة بوريس جونسون مثار سخرية بفضل انتهاكات قوانين الإغلاق في داونينغ ستريت، والتي اشتهرت إعلامياً بفضيحة "بارتي غيت"، لكن هناك دولة أوروبية واحدة تأخذ المملكة المتحدة بجدية أكثر مما فعلت بقية الكتلة الأوروبية على مدى السنوات الأخيرة، ألا وهي أوكرانيا.
في الوقت الحالي، جاء الرد الأكثر وضوحاً على الحملة الدعائية الروسية المغرضة على حلف شمال الأطلسي، "الناتو" (NATO)، والحملة العسكرية على أعتاب أوكرانيا، من قبل بريطانيا. فقد أرسل وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، لأوكرانيا 2000 صاروخ مضاد للدبابات من طراز "إن- لو" (N-LAW)، والذي يعد الأحدث من نوعه- على الرغم من أن لندن اضطرت إلى تجنب المجال الجوي الألماني للقيام بذلك. بل حتى قبل أن ينتبه وزراء غربيون آخرون، شكك والاس بأطروحة فلاديمير بوتين الشهيرة من عام 2021، والمؤلفة من خمسة آلاف كلمة مفادها أن أوكرانيا ليس لها كيان منفصل عن روسيا.
لقد حان الوقت لتستعيد بريطانيا سحرها الدبلوماسي.
اتفاقية بودابست
إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، تعد المملكة المتحدة من الدول الموقعة على اتفاقية بودابست لعام 1994، والتي ضمنت حدود أوكرانيا المستقلة حديثاً مقابل التنازل عن حصتها من الترسانة النووية السوفيتية السابقة المتمركزة على أراضيها. في ذلك الوقت، كانت بريطانيا لا تزال تحتل مكانةً في مصاف الدول، حيث شكلت قوة دولية من الدرجة الثانية لا يستهان بها، والتي كان ثقلها العسكري والنووي والدبلوماسي معترف به عالمياً.
ومع ذلك، عندما هاجمت روسيا أوكرانيا مرتين في عام 2014، أولاً لضم شبه جزيرة القرم ثم لدعم الانفصاليين في اقتسام الأراضي في شرقي البلاد، استخفت المملكة المتحدة بالتزاماتها في بودابست. وِكما فعلت الولايات المتحدة، نقلت بريطانيا مسؤولية رأب الصدع مع موسكو إلى القيادات الحذرة في ألمانيا وفرنسا. وبصفتي محرراً لصحيفة "صنداي تايمز"، ناقشت مع رئيس الوزراء آنذاك، ديفيد كاميرون، أنه يجب تمثيل بريطانيا كمدافع قوي عن أوكرانيا، لكنه كان منشغلاً بالقضايا المحلية.
منع غسيل الأموال الروسية
صحيح أن المملكة المتحدة تتخذ الآن موقفاً أكثر حزماً حيال الأزمة الأوكرانية التي تكررت مؤخراً. ولكن لا يزال بإمكانها، بل وينبغي لها، أن تفعل المزيد لمنع غسيل الأموال الروسية في لندن- خاصة في الوقت الذي يتجلى فيه تفكك حلفائها.
فمن جهة، تحرص حكومة تحالف "إشارة المرور" الألمانية الجديدة بقيادة أولاف شولتس، والمؤلف من الديمقراطيين الاشتراكيين (SPD)، والخضر، والليبراليين، على عدم استفزاز موسكو. وبعد إغلاقها محطات الطاقة النووية، من الطبيعي أن تشعر برلين بالقلق بشأن إمدادات الغاز القادمة من روسيا. أيضاً، ينظر الحزب الاشتراكي الديمقراطي باعتزاز إلى نسخته المعتدلة من سياسة الشرق الجديدة (Ostpolitik) للوفاق مع الاتحاد السوفيتي.
ومن جهةٍ أخرى، لم يثبت شريك شولتس الفرنسي، الرئيس إيمانويل ماكرون، نفسه في هذه الأزمة هو الآخر. في البداية، وجه ماكرون دعوات مثيرة للجدل بشأن إبداء ردة فعل من جانب الاتحاد الأوروبي، والتي كان من شأنها إبعاد الكتلة عن واشنطن، وذلك بعد إعلانه "موت الناتو دماغياً". فيما غابت بروكسل تقريباً عن المشهد طيلة الوقت.
دعم المملكة لكييف
في غضون ذلك، كان بوريس جونسون ووزيرة خارجية المملكة المتحدة، ليز تروس، صريحين بشأن دعم المملكة لكييف. فمن المؤكد أن رئيس الوزراء يرحب بأي إلهاء عن مشاكله المحلية الحالية، لكنه بالأحرى يفعل الشيء الصحيح للأسباب الخاطئة أكثر من غيرها. وفي لحظة نادرة للإجماع، خرج زعيم المعارضة، كير ستارمر، على النهج الناعم لسلفه في حزب العمال تجاه روسيا أيضاً.
في وقت من الأوقات، كانت بريطانيا تحظى باحترام أكبر من قبل الأصدقاء والأعداء، على حد سواء، لاتساق نهجها تجاه الكرملين. كانت الحدود واضحة، فبينما قاومت العدوان الروسي بقوة، كانت لندن دائماً على استعداد لإبرام صفقات تنطوي على مخاطر مع موسكو لتهدئة التوترات.
من خطاب الستار الحديدي الشهير، الذي ألقاه ونستون تشرشل في عام 1946، إلى هارولد ماكميلان في أواخر الخمسينيات، ثم مارجريت تاتشر في الثمانينيات، كان لقادة بريطانيا مساهمات مميزة في التحالف الغربي، حيث نبذوا حالة الهيستريا المعادية للشيوعية من ناحية، لكنهم كانوا متشككين بشأن المزاعم المبالغ فيها بشدة من قبل الحكومات الألمانية، وأحياناً الأمريكية، بغية إقرار السلام، من ناحية أخرى.
المرأة الحديدية
مع ذلك، ظل تشرشل وماكميلان وتاتشر منفتحين على الاتفاق مع موسكو. كانت المرأة الحديدية هي التي اكتشفت بزوغ النجم السوفييتي الشيوعي ميخائيل جورباتشوف للمرة الأولى، ووصفته لحليفها الأيديولوجي، الرئيس رونالد ريغان، بأنه "رجل يمكنك التعامل معه".
لكن عندما أصبح جواسيس موسكو أكثر وقاحة في ممارساتهم، طردتهم بريطانيا بصورة جماعية، وأحياناً بالمئات. كانت آخر الأوامر البريطانية بإجلاء الجواسيس الروس في عام 2018، عندما أمرت تيريزا ماي بمغادرة بعضهم في أعقاب تسمم المنشق الروسي، سيرغي سكريبال، بسلاح كيماوي. لطالما عمل دبلوماسيو لندن مع واشنطن وحلفاء آخرين في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لاحتواء التهديد الشيوعي. أما عالمياً، فقد كانت القوة البريطانية الناعمة هي التي أقامت حجة القيم الديمقراطية الغربية دونما صراعات.
استنهاض وزارة الخارجية
حالياً، وزارة الخارجية البريطانية بحاجة إلى إعادة استنهاض. من الناحية العملية، تخلت الوزارة عن مسؤوليتها عن العلاقات مع واشنطن وبروكسل منذ فترة طويلة لصالح رئاسة الوزراء- وذلك على الرغم من أن تروس اضطلعت بدور المفاوض بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية مع الاتحاد الأوروبي. غير أن دبلوماسيي الوزارة فشلوا في إعداد "الخطة البديلة" لمغادرة الاتحاد الأوروبي قبل الاستفتاء في عام 2016. كما رفض رئيس الخدمة المدنية، الذي كان لا يزال في منصبه، العودة من العطلة بعد إجلاء القوات البريطانية المشين من كابول في العام الماضي، وقال للجنة مجلس العموم التي كانت في حالة من الصدمة: "لم يكن ذلك ليحدث أي فرق".
على الرغم من تقلصها، إلا أن القوات المسلحة البريطانية تتمتع بحالٍ أفضل، حيث تتكيف القوات البحرية والجوية مع الثورة التي تشهدها الشؤون العسكرية، والتي تتطلب فنيين أكثر من المقاتلين لشن الحروب. وإذا حظيت خطة تحديث الجيش بالاستثمار المناسب- (حالياً، يتوافق إنفاق بريطانيا مع هدف الناتو المتمثل في إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على وزارة الدفاع)- ستكون المملكة المتحدة قادرة على نشر قوات جاهزة للقتال داخل أراضي الدول الأعضاء في حلف الناتو والمتاخمة لروسيا في وقت قصير. لكن ذلك احتمال بعيد.
معارك تفوق قدرتها
إذن تتمتع المملكة المتحدة بالوسائل، لكن هل لازالت تتحلى بالطموح للاضطلاع بدورها على الساحة العالمية؟ تحت حكم تاتشر وتوني بلير، خاضت المملكة المتحدة معارك تفوق قدرتها- مسلحة أحياناً بقوة الإرادة ووضوح الهدف. لكن خلفاءهم، قبل وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كانوا أقل ثقة منهم بكثير. لقد شهد الحلفاء المتشككون في برلين وباريس، والذين ما زالوا متألمين من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تراجع دور المملكة المتحدة، شأنهم شأن الأعداء في موسكو وبكين، على حد سواء.
غير أن جونسون وخلفاءه المفترضين من حزب المحافظين مرتبطون حالياً بسياسة خارجية تطلعية يطلق عليها "بريطانيا العالمية". وعليه، قاموا بنشر قوات البلاد في منطقة المحيط الهادئ الغربي الهندي. تظل الخطابات رنانة، لكن هل لازالت هذه الحكومة تتمتع بالقدرة على الاستمرار لتجعل المملكة المتحدة قوة فاعلة مرة أخرى؟.