فلاديمير بوتين خبير بمراوغة الغرب وبتركه متوثباً وبدفع العلاقات إلى حافة الهاوية قبل الالتفاف دون سابق إنذار. لكن حين يكون مطوقاً وغاضباً، فهو جادٌ لدرجة قاتلة بأن يُسمع حيال أوكرانيا.
يقول مقربون من الكرملين إن الرئيس الروسي لا يرغب ببدء حرب أخرى في أوكرانيا. لكن عليه أن يُظهر أنه مستعد للقتال إن لزم الأمر لإيقاف ما يراه تهديداً أمنياً وجودياً، وهو التوسع الزاحف لمنظمة حلف شمال الأطلسي في بلد كان جزءاً من روسيا لقرون.
همّش بوتين تدريجياً الأصوات الداعية للحد من التوترات في أوساطه المقربة بعد سنوات من زوال الأوهام حيال الغرب، كما أنه معزول بشكل متزايد عن وجهات النظر الأخرى بسبب قيود كوفيد-19، وفقاً لأشخاص مقربين من القيادة. يرى بوتين المحاط بالمتشددين أن روسيا وحكمه الذي استمر لعقدين يتعرضان لهجوم من الولايات المتحدة وحلفائها.
أخطاء بوتين المتتالية.. هل تطيح بعرشه من الكرملين؟
استُبدلت جهود التواصل والتعاون التي بذلها لدى توليه السلطة لأول مرة بالمواجهات والعقوبات والتهديدات. يرى بوتين الآن أن الصد هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الغرب. مع إرسال كلا الجانبين لسفن حربية وطائرات للتعبير عن جديتهما، وسط التحذير من سباق تسلح جديد، مع انتهاء المعاهدات، فإن النهج المتشدد يثير مخاطر تتخطى الجوار الروسي. هزت الخلافات مع أوروبا بشأن إمدادات الغاز الأسواق، بينما تضغط على الكتلة الأوروبية أزمة اللاجئين التي يقول الاتحاد الأوروبي إنها من تدبير أقرب حليف لبوتين في بيلاروسيا، إضافة إلى واقع أن مخاوف اندلاع صراع في أوكرانيا أضعف الروبل.
معارضة شعبية
تقول مصادر مقربة من القيادة إن الكرملين يعلم أن أي محاولة لاحتلال مساحات كبيرة من الأراضي الأوكرانية عسكرياً سيكون مصيرها الفشل، حيث يواجه معارضة شعبية واسعة النطاق على الأرض، وستؤدي هكذا محاولة لفرض عقوبات غربية محتملة تشل روسيا.
لم يشذب سلوك بوتين رغم تحذيرات الولايات المتحدة والمكالمات الهاتفية من قادة فرنسا وألمانيا، حتى بعد سنوات من مقاومة العقوبات والضغوط الأخرى.
قال بوتين للدبلوماسيين الروس في 18 نوفمبر: "لوحظت تحذيراتنا الأخيرة وكان لها تأثير، لقد ظهر توتر معين هناك... نحن بحاجة إلى أن يبقى هذا الوضع لأطول فترة ممكنة، كي لا يفكر أحد بإحداث صراع لسنا بحاجة إليه على حدودنا الغربية".
حشود بوتين العسكرية على حدود أوكرانيا اختبار للغرب.. فكيف سيتصرف؟
أوكرانيا أمر شخصي بالنسبة لبوتين، حيث جادل مراراً بأن قروناً من الروابط التاريخية والثقافية تعني أن الروس والأوكرانيين "شعب واحد"، وهو ادعاء يرفضه كثيرون في أوكرانيا، وكان الرئيس الروسي قد خصص مقالاً من 7000 كلمة للفكرة في يوليو.
يعد ضم شبه جزيرة القرم في 2014 أحد أكثر إنجازاته فخاراً، حيث استردّ الأراضي التي أدعى أنها كانت روسية تاريخياً، ومنع الناتو من التوسع في موانئ البحر الأسود الحيوية لأمن بلاده.
أحدث دفعة له كانت تحديه لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي تركز على احتواء الصين وتجنب الانجرار إلى صراعات عسكرية في مناطق بعيدة. بينما تفتقر روسيا إلى النفوذ الاقتصادي الذي تتمتع به الصين، أظهر بوتين أن بإمكانه إحداث الكثير من المتاعب.
توثب أمريكي
سارعت الولايات المتحدة لقرع ناقوس الخطر مع الحلفاء الأوروبيين بشأن حشده العسكري في أوكرانيا، وجمعت معلومات استخبارية تشير إلى أن الغزو قد يأتي في وقت مبكر من يناير بهدف حشد الدعم لرد منسق لردع بوتين.
يرى الكرملين على المقلب الآخر أن الغرب مشتت الانتباه ومنقسم، إذ تفتقر أوروبا إلى زعيم قوي يحل محل المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنغيلا ميركل.
فيما يخص روسيا فقد تركت الهدنة الهشة في 2015 التي أوقفت القتال على نطاق واسع بين أوكرانيا والانفصاليين المدعومين من موسكو في شرق البلاد مواضيع مفتوحة. يرى الكرملين الآن أن التهديد يتزايد مع تنامي دعم حلف الناتو العسكري لكييف، ومع تعزيز الدوريات بواسطة السفن الحربية والطائرات على طول الحدود الروسية.
بايدن يفرض عقوبات على روسيا ويقيّد شراء ديون موسكو الجديدة
غذى بوتين في الماضي مخاوف الحرب فقط ليتراجع بمجرد أن يلفت انتباه الغرب، وعلى الأخص في أبريل، حين حشد القوات بالقرب من الحدود الأوكرانية، ثم نزع فتيل الأزمة بمجرد أن اتصل بايدن وعرض عليه عقد اجتماع قمة.
لكن في كل مرة، كان يغادر بوتين دون التأكيدات التي يسعى إليها لإبعاد الناتو عن الحدود الجنوبية لروسيا. انتهاكات وقف إطلاق النار شبه اليومية على خط التماس بين القوات الأوكرانية والانفصاليين المدعومين من روسيا وعشرات الآلاف من القوات والدبابات عبر الحدود تعني أن خطر الحرب ليس مجرد خدعة.
صادق حيال عدم الغزو
يقول المقربون من القيادة إن بوتين صادق، حين يقول إنه لا يخطط لغزو هذه المرة. حيث يمكنه جعل الغرب يدرك مدى جديته فقط عبر حشد القوات وإثبات استعداده لاستخدامها، كما فعل مرتين من قبل مع جيرانه من دول الاتحاد السوفيتي السابق. يقولون إن الكرملين يشعر حتى الآن أن النهج المتشدد يعمل.
تقول أوكسانا أنتونينكو، المديرة لدى "كونترول ريسكس" (Control Risks) التي تتخذ في لندن مقراً لها: "إن زيادة المخاطر بالنسبة لروسيا في هذه اللحظة يمنحها فرصة لإبراز قوتها".
ألمح الكرملين في الوقت نفسه لاحتمال وجود انفراجة، مشيراً إلى أن العمل جارٍ لإجراء مكالمة أو حتى لقاء بين بوتين وبايدن.
هل يتجنب بايدن الفخ الروسي الذي وقع فيه أوباما؟
لكن قد يؤدي سوء التقدير على الأرض في شرق أوكرانيا لاندلاع قتال يخرج عن السيطرة. أصدرت روسيا أكثر من نصف مليون جواز سفر لسكان المناطق الانفصالية، وهي خطوة اعتبرتها كييف حيلة لإضفاء الشرعية على التدخل العسكري.
يقول ألكسندر بورودي، زعيم انفصالي سابق وعضو الآن في البرلمان الروسي: "هذا ليس صراعاً مجمداً... لا يمكن لروسيا تجنب الدفاع عن سكانها". تغذي القناعة بأن الاقتصاد الروسي قد تعافى من ركود كوفيد-19 بشكل أسرع من غيره ثقة الكرملين. يحتفظ البنك المركزي باحتياطيات تزيد عن 600 مليار دولار، وهو رقم قياسي يكفي لتجاوز جميع العقوبات التي يمكن أن يفرضها الغرب باستثناء أشدها.
معارضيه تحت السيطرة
يرى الكرملين أيضاً أن هناك خطراً ضئيلاً من نشوب أي تحدٍ داخلي لبوتين، وسط حملة قمع غير مسبوقة ضد المعارضين وضعت أغلبهم في السجن أو المنفى، ويستعد المسؤولون لفترته الرئاسية الخامسة في 2024.
بينما تلعب الجغرافيا السياسية العدوانية لبوتين دوراً جيداً في الداخل، تظهر استطلاعات الرأي أن أي صراع مع الغرب بشأن أوكرانيا ربما لن يحصل على دفعة هائلة من الدعم الشعبي كالذي حصل عليه في 2014. إن فرض عقوبات شديدة كتلك التي تقطع روسيا عن النظام المالي الغربي أو التي تفرض عقوبات عليها وتضعف الروبل من شأنه إثارة الغضب بين الروس غير الراضين عن مستويات المعيشة الراكدة.
انتعاش أسواق روسيا رغم سياسة بوتين القمعية
كان بوتين حريصاً على الحد من التكلفة رغم كل الصدمات الجيوسياسية التي أطلقتها تدخلاته في أماكن مثل سوريا، مستخدماً اقتصاد حجمه أقل من عُشر حجم اقتصاد الولايات المتحدة لتحدي القوة العظمى البارزة في العالم عندما تحين الفرصة.
لكن هذه القرارات الجريئة، بل المتهورة، أتت بمردود جيد، كما يظهر من الاستيلاء على شبه جزيرة القرم واستعادة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط بعد الحملة السورية. تعلّم الكرملين من حربه القصيرة في 2008 مع جورجيا، وهي دولة أخرى عازمة على عضوية الناتو، أن الغضب الغربي من الاستيلاء على الأراضي قد يتلاشى، بينما قد تبقى القوات الروسية على الأرض.
مواجهة في جميع المجالات
قال ديمتري سوسلوف، الخبير في علاقات روسيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو: "نحن الآن في مواجهة مع الغرب في جميع المجالات... روسيا ترسل رسالة مفادها أنها لن تتسامح مع الأمور بعد الآن".
لا ترى روسيا أي سبب لاتخاذ موقف أكثر ليونة تجاه أوروبا، وفقاً لأشخاص مقربين من القيادة الروسية. بينما يتهم الغرب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي يشعر بالمرارة تجاه تشديد العقوبات الأوروبية على نظامه، بالتحريض على أزمة المهاجرين، كان الكرملين سعيداً باستغلاله الأزمة للضغط على الاتحاد الأوروبي.
لدى ارتفاع أسعار الغاز الأوروبية لأعلى مستوياتها، لم تشحن روسيا، أكبر مورد للقارة سوى القليل من الكميات التي تنص عليها عقودها، ما أثار انتقادات لاستخدام احتياطاتها الهائلة من الطاقة كسلاح.
روسيا لم تعد مورِّد غاز موثوق به في أوروبا
كانت روسيا بطيئة في توفير إمدادات إضافية حتى تحصل على شيء في المقابل من أوروبا وهو الموافقة على خط أنابيب "نورد ستريم 2"، وفقاً لأشخاص مطلعين على الوضع. كان المشروع يمثل أولوية قصوى لبوتين منذ سنوات وعارضته الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. ينتظر خط الأنابيب الذي تم تشييده وهو الآن مملوء جزئياً بالغاز الموافقة التنظيمية الأوروبية.
يقول الكرملين في الوقت الحالي إنه مستعد للصبر حيال مشروع قد لا يوفر الوقود حتى الربيع.
دعم غربي
وجد القادة الغربيون منذ 2014 أن الأرضية المشتركة الضئيلة التي كانت موجودة مع بوتين بشأن أوكرانيا تتلاشى، وفقاً لمسؤولين مطلعين على محادثاتهم.
تزعم موسكو أن الحكومة في كييف تضع خططاً للتحرك ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا، بينما تنفي أوكرانيا ذلك.
ما يزيد مخاوف روسيا هو وجود شكوك بأن العواصم الغربية تدعم كييف فيما تعتبره موسكو رغبة في إعادة صياغة اتفاقيات هدنة منسك في 2015، التي قدمت أيضاً إطاراً لحل الصراع. انتهج الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي كان يُعتبر سابقاً شخص يمكن لروسيا التعامل معه، موقفاً أكثر تشدداً، ما أثار قلق الكرملين.
طفح غضب روسيا الأسبوع الماضي حين انتهكت وزارة الخارجية الروسية الأعراف الدبلوماسية ونشرت رسائل سرية بين الوزراء الروس والأوروبيين حول أزمة أوكرانيا.
الحرب أكثر ما يقلق أوكرانيا مع تشغيل "نورد ستريم 2"
بعد معارضة روسيا الطويلة لفكرة انضمام جارتها إلى الناتو، شدد بوتين أخيراً موقفه، قائلاً إن أي توسيع للبنية التحتية العسكرية للتحالف في أوكرانيا سيتجاوز "الخط الأحمر" الروسي.
يدحض الكرملين تأكيدات الناتو بأن ذلك ليس تهديداً. إذ أوضح المتحدث باسم بوتين، دميتري بيسكوف، عمق عدم الثقة عبر مقارنة الوضع الحالي بأوائل التسعينات بعد الحرب الباردة. ثم قال إن الناتو "خدع" روسيا بتعهده بعدم توسيع الحلف شرقاً.
قال إيفان تيموفيف، مدير البرامج في "نادي فالداي" المدعوم من الكرملين، إنه في حين أن الغرب وروسيا قد يستغلان مخاطر نشوب صراع سعياً لأهدافهم السياسية في أوكرانيا، فإن "كلاهما غير راغب بحرب حقيقية... لكن عرف التاريخ أمثلة عديدة فشلت فيها الحسابات العقلانية بوضع حد للتصعيد".