بالنسبة إلى بعض الموظفين؛ كان العمل من المنزل خلال جائحة كورونا نعمة لحياتهم المهنية. حصلوا من خلالها على رواتب أفضل، ومناصب وظيفية أفضل، وساعات عمل أفضل. وكل ذلك دون الحاجة لقضاء وقت مع رؤساء العمل بشكل شخصي.
مساحة للتعبير
تصف برينسيس بيير، 35 عاماً، نفسها بأنَّها تملك ميولاً داخلية (introverted)، وبأنَّها لم تشعر بالراحة قط أثناء عملها من المكتب. وخلال فترة عملها من المنزل، كان رأي أخصائية التواصل أنَّ وجود بيير في المنزل سمح لها بالتحدث عن نفسها والتعبير بشكل أفضل عن أفكارها.
تقول بيير، التي تعيش في مدينة فورت لودرديل في ولاية فلوريدا: "ببساطة؛ أصبحت أقوم بعملي بشكل أفضل"، وتابعت: "في مجالي تحديداً؛ من الأسهل أن أكتب في مساحتي الخاصة بالمنزل. أنا أكتب أكثر الآن، أبدأ عملي في الصباح الباكر، وهذا يناسبني".
غيّرت بيير عملها خلال شهر يونيو، وقد أثبتت جهودها من خلال تقديم نتائج ملموسة، مثل عدد البيانات الصحفية التي يمكنها كتابتها، أو الوسائل الإعلامية التي يمكنها تقديم عروض لها. نتيجة لذلك؛ انتقلت بيير في عملها من دورها الخاص بالتنسيق في العلاقات العامة إلى دور متخصص، وحصلت زيادة في راتبها.
مع تفكير عدد متزايد من الأشخاص بالعمل من المنزل كخيار طويل الأمد؛ استفاد بعض العاملون مثل بيير من الأزمات في سوق العمل لتحقيق قفزات على السلم الوظيفي في الشركات، بينما يستمتعون بالحياة دون الحاجة للتنقل اليومي.
تقول أماندا جونز، المحاضرة في "كينغز كوليدج" في المملكة المتحدة: "أجبر الوباء الجميع على البقاء في منازلهم، وكان على المديرين إيجاد طريقة لتقييم عمل الأشخاص دون وجود التفاعل في المكتب"، متابعة: " الآن؛ بات ذلك الوضع الطبيعي".
في هذا الإطار، تقول أليس أركرايت، المتحدثة باسم مجلس اتحاد نقابات العمال في المملكة المتحدة، إنَّ العمل عن بُعد يمكنه رفع مستوى المنافسة بالنسبة للأشخاص الذين لا يحبون أو لا يملكون الوقت الكافي للمجاملات الاجتماعية. وهو يعني أيضاً أنَّ أصحاب العمل أصبحوا أكثر استعداداً لتوظيف الأشخاص الذين لا يمكنهم المشاركة في الرحلات اليومية إلى المكتب سواء لأسباب صحية أو غير ذلك.
السؤال الأبرز للشركات اليوم: هل يستمر العمل عن بعد؟
أضافت أليس: "مكّن العمل من المنزل بعض الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع من ذوي الإعاقة والأمهات من الحصول على وظائف لم يكن بإمكانهم الوصول إليها من قبل، وتقديم أداء جيد فيها أيضاً"، وتابعت: "جعل ذلك أمكنة العمل أكثر تنافسية".
كذلك اتضح أنَّ العديد من الموظفين يحبون بيئة العمل من المنزل، ويعتقدون أنَّهم يؤدون بشكل أفضل فيها؛ وقد وجد 44% من الأمريكيين أنَّ العمل عن بُعد سهّل عليهم إنجاز العمل، والالتزام بالمواعيد النهائية للمهام، وفقاً لدراسة أجراها "مركز بيو للأبحاث" (Pew) في شهر فبراير. كما يبدو أنَّ النساء على وجه التحديد يجدنَ ظروف العمل الجديدة مفيدة بالنسبة لهنَّ، إذ قالت 19% من النساء في الولايات المتحدة إنَّ العمل من المنزل سهّل عليهن التطور في وظائفهن، مقارنة بـ 9% من الرجال، وفقاً لاستطلاع "بيو للأبحاث".
الجوانب السلبية
مع ذلك؛ بالنسبة لأولئك الذين يمارسون عملاً جديداً من المنزل؛ قد تكون البداية صعبة عليهم بعض الشيء.
في كارديف بالمملكة المتحدة؛ بدأت آيرا غونزاليس، 22 عاماً، التي تعمل كمسؤولة الاتصالات والتصميم عملها للمرة الأولى خارج الجامعة خلال الوباء في شهر أغسطس 2020. لم تستطع غونزاليس القيام بقدر كبير من التفاعلات الحقيقية مع زملائها، ووجدت صعوبة في فهم الأنماط في مكان عملها الجديد، في حين تعمل بشكل كامل عبر الإنترنت. وكان إجراء المراجعة لأدائها عبر تطبيق "زووم" أمراً مؤلماً بالنسبة لها.
تقول غونزاليس: "من الصعب عليك أن تفهم إشارات رئيسك في العمل إذا لم تكن قد التقيت به وجهاً لوجه سابقاً".
كذلك أفاد العاملون في المملكة المتحدة ممن بدأوا بوظائف جديدة عن بُعد خلال الوباء أنَّهم يواجهون صعوبات لتكوين العلاقات في العمل، وأيضاً بسبب عدم وجود مدير أو فريق "في الغرفة" لطلب المعلومات أو التوجيه عند الحاجة، وكذلك بالنسبة لكسب ثقة الزملاء، أو فهم استيعاب ثقافة الشركة، وفقاً لاستطلاع أجرته "يوغوف" (YouGov) في المملكة المتحدة في شهر أكتوبر الماضي.
من المشكلات الأخرى أيضاً، الفكرة السائدة بأنَّ الموظفين في المكاتب يعملون أكثر من أولئك الموجودين في المنازل، وهو أمر قد يقدّم نظرة خاطئة عن إنتاجية العاملين.
يقول نيكولاس بلوم، الباحث الإداري في كلية الدراسات العليا للأعمال في "جامعة ستانفورد": "التحيز نحو الوجود في المكاتب معروف بشكل كبير، وفعلياً تشير كل شركة أتحدث إليها إلى هذه النقطة باعتبارها أحد الأمور المقلقة".
إحداث تغيير
الحقيقة غير المعلنة، تتمثل في الأمر الذي يخشاه الكثير من المديرين؛ وهو أنَّ الأشخاص لا يشعرون بالضرورة بالولاء تجاه الشركة التي يعملون بها، في حال لم يقابلوا الأصدقاء والزملاء في المكاتب الموجودة بناطحات السحاب وسط المدينة أو في المناسبات الشخصية. وهذا ما يُسهّل أن يشارك هؤلاء فيما يسمى بموجة "الاستقالة الكبرى"، أو الانتقال إلى شركة أخرى، والحصول على زيادة في الأجر نتيجة لذلك.
وبالفعل؛ هذا ما قام به لاري فولتون. فقد كان عمله الأول بعد التخرج في "جامعة ييل" في عام 2019، كمحلل أعمال في شركة "ماكينزي أند كو". ووجد من تجربته أنَّه لم يكن يشعر بالولاء الكبير لشركة لديه فيها عدد قليل من التفاعلات الشخصية.
قال الشاب البالغ من العمر 24 عاماً: "في كل مرة كنت أجتمع مع زملائي عبر الإنترنت، كنا نناقش البحث عن وظائف في مكان آخر"، وأضاف: "بدت التجربة كلها ناقصة. لا يذهب أحد إلى الحانة بعد العمل لشرب شيء ما. أصبح من الأكثر سهولة التحدث بانفتاح عن الخطوات التالية".
وبعد العمل لأقل من عامين في شركة الاستشارات؛ انضم لاري إلى شركة استثمار في مجال "بلوكتشين"، وهي "أدفانسد بلوكتشين" (Advanced Blockchain)، إذ شغل منصب رئيس مشروع، وانتقل من نيويورك إلى أتلانتا. كما أنَّ الشركة تتبنى نظام العمل عن بعد بشكل كامل، ولا تمتلك المكاتب.