قد لا تتصدَّر إنفلونزا الشتاء القديمة والمملة قائمة الأمراض التي ينبغي القلق بشأنها في عصر "سارس- كوف-2"، لا سيَّما في خضم موجة حارة في فصل الصيف، غير أنَّها ينبغي أن تكون كذلك.
لقد اعتادت البشرية مواجهة موجات سنوية من الإنفلونزا، إذ أصبحت نقطة القياس الرئيسية في بداية ظهور "كوفيد"، فاعتقدنا أنَّه ستكون هناك "مجرَّد موجة أخرى من الإنفلونزا". ومن ثمَّ، كانت معدَّلات الإصابة، ودخول المستشفيات، والموت إثر الإصابة بالفيروس، من الأمور المقبولة ضمنياً، بل حتى لا مفرَّ منها.
بالتأكيد، كنت من بين المذنبين بهذا الاعتقاد. وبرغم توفير رب عملي لقاح الإنفلونزا سنوياً، إلا أنَّني في بعض الأحيان لم أهتم بالحصول عليه. أما وقد كشف الوباء ضعف مواقفنا وسياساتنا تجاه الإنفلونزا؛ فقد أصبحت لدينا فرصة لفعل الأمور بشكلٍ مختلف حالياً.
ولا يهدف النقاش هنا إلى تبرير الإغلاقات خوفاً من الإنفلونزا، أو ذعر الوطنيين بشأن أي خلل، وإنَّما لنتمكَّن من بناء دفاعات أفضل ضد الإنفلونزا بتكلفة قليلة نسبياً، وتحقيق مكاسب على مستوى إنقاذ المزيد من الأشخاص من جهة، وزيادة قدرة قطاع الرعاية الصحية من جهة أخرى.
وتمثِّل تكلفة الإنفلونزا على الصعيدين الاقتصادي والإنساني أحد الأسباب الداعية لأخذ الأمور بجدية أكبر، إذ تعدُّ التكاليف السنوية لعلاج مرضى الإنفلونزا (التي تتخطى 10 مليارات دولار في الولايات المتحدة) مرتفعة حتى بالنظر فقط إلى نفقات علاج المرضى الأكثر تضرراً داخل المستشفيات.
تكلفة مرتفعة للإنفلونزا
تصيب أوبئة الإنفلونزا ما بين 5% إلى 15% من السكان في نصف الكرة الأرضية الشمالي كل عام. وفي المتوسط، يصاب حوالي 8% من سكان الولايات المتحدة بالإنفلونزا كل موسم. بالنسبة للكثيرين؛ فإنَّ الإصابات عادة تكون خفيفة، وإن كانت مرهقة، ولكنَّها قد تكون مميتة بالنسبة لبعضهم.
وفي المتوسط، تُقدِّر المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض أنَّ 36 ألف شخص لقوا حتفهم سنوياً بسبب الإنفلونزا على مدار العقد الماضي، فضلاً عن 61 ألف حالة وفاة في موسم 2017-2018. أما في المملكة المتحدة، فيبلغ المتوسط حوالي 17 ألف حالة وفاة سنوياً.
من الواضح أنَّ "كوفيد" له ترتيب مختلف من ناحية الخطورة، لكنَّ التكاليف التي يتحمَّلها نظام الرعاية الصحية لمواجهة الإنفلونزا ليست بسيطة أيضاً.
ويعدُّ كبار السن هم الأكثر عرضة للإصابة بالإنفلونزا، وكذلك النساء الحوامل والأطفال الصغار جداً، وكذلك من يعانون من حالات طبية أخرى، أو ضعف جهاز المناعة.
كما ينتهي الأمر ببعض المتعافين من الإنفلونزا بالمعاناة من أعراض ما بعد الإصابة الفيروسية. وقد أظهر "كوفيد طويل الأمد" إلى أيِّ مدى يمكن أن تكون هذه الأعراض منهكة.
عبء مركب
ماذا يحدث عندما تقترن الإنفلونزا بوباء "كوفيد-19"؟ لا نعرف حقاً، فقد شهد الشتاء الماضي موسماً معتدلاً للإنفلونزا بشكلٍ لا يصدق.
ويرجع ذلك، في الغالب، إلى إجراءات مثل الإغلاق، والتباعد الاجتماعي، وارتداء الأقنعة. لذلك، كانت معدلات الإصابة بالإنفلونزا أقل بنسبة الثلثين مما كانت عليه خلال موسم 2011-2012، الذي كان قد سجَّل معدلات منخفضة قياسية.
ولكن لا يمكننا الاعتماد على تكرار ذلك، لأنَّ الانتشار المحدود للإنفلونزا خلال العام الماضي يجعل من الصعب التنبؤ بالسلالات التي ينبغي تضمينها في لقاح هذا الشتاء.
ربما يحالفنا الحظ مرة أخرى، وربما تسوء الأمور، لأنَّ انخفاض مستويات المناعة الطبيعية في أعقاب بضعة مواسم منخفضة الإصابات بالإنفلونزا قد يسهل ترسُّخ المتغيرات الجديدة.
وفي ظلِّ نظام الرعاية الصحية الوطني المثقل بأكثر من طاقته، وتراكم هذا الكم الهائل من العمليات الجراحية والإجراءات الطبية الأخرى، لن يكون باستطاعة بريطانيا أن تتحمَّل موسماً حادَّاً من الإنفلونزا.
في الأعوام العادية، تستغرق الاستشارات الخاصة بالأمراض التي تتشابة أعراضها مع الإنفلونزا وقتاً طويلاً من الطبيب العام، وتستنزف قدرة المستشفيات.
وسيشكِّل ارتفاع معدلات الإصابة بالإنفلونزا جنباً إلى جنب مع إصابات "كوفيد" ضغطاً كبيراً، الأمر الذي من شأنه أن يتطلَّب موارد حكومية ضخمة جديدة، ويترك العديد من الأشخاص دون علاج.
لكنَّ العبء الصحي المركب ليس هو فقط ما يجب أن يجعلنا نعيد التفكير بشأن الإنفلونزا. فالحقيقة أنَّنا كنا متقاعسين في مواجهة الإنفلونزا أكثر مما ينبغي لفترة طويلة جداً، في حين يمكن الوقاية من العديد من وفيات الإنفلونزا بالأمصال، وأنواع التعديلات السلوكية التي اعتدنا عليها بسبب "كوفيد".
ولم تقلل إجراءات التباعد الاجتماعي المفروضة أثناء الوباء من انتشار الإنفلونزا وحسب، بل تشير التقديرات أيضاً إلى أنَّها أدت إلى انخفاض إصابات الفيروس المخلوي التنفسي الشائع (RSV) في الولايات المتحدة بنسبة 20%.
في حين يُشكِّل الفيروس ذاته 5% من وفيات الأطفال دون سنِّ الخامسة على مستوى العالم.
من ناحية أخرى، تتمثَّل المشكلة حالياً في تزامن رفع قيود "كوفيد" مؤخراً مع ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس المخلوي التنفسي في الولايات المتحدة في غير موسمها.
التطعيم قد يغير قواعد اللعبة
إلى ذلك، قد يغيّر ارتفاع معدلات التطعيم ضد الإنفلونزا قواعد اللعبة. فقد حقَّقت معدلات تلقي التطعيمات ضد الإنفلونزا في بريطانيا مستويات قياسية في الشتاء الماضي، فقد قامت هيئة الخدمات الصحية الوطنية بتلقيح أكثر من 80% ممن تزيد أعمارهم على 65 عاماً، بارتفاع 10% عن معدلات التلقيح في العام السابق، وبما يتخطى هدف منظمة الصحة العالمية المتمثِّل في تطعيم 75% للمرة الأولى.
لكنَّ معدَّل التطعيم ينخفض بين الشباب، إذ يتمُّ تطعيم أقل من 45% ممن تقل أعمارهم عن 65 عاماً، ويعانون من واحدٍ أو أكثر من عوامل الخطر الكامنة.
وعلى الرغم من تلقيح أكثر من 2.5 مليون طفل من خلال البرامج المدرسية، إلا أنَّ هذا الرقم ما يزال أقل من نصف (47.5%) إجمالي الأطفال.
وتختلف معدلات التطعيم أيضاً باختلاف المجموعات العرقية، إذ تتخلَّف بعض الأقليات في الحصول على اللقاحات. على سبيل المثال، حقَّقت المجتمعات السوداء (حيث تبلغ معدلات التلقيح حوالي 41 %) أعلى معدل دخول إلى المستشفى بسبب الإنفلونزا مقارنةً بأيِّ عرق آخر في الولايات المتحدة.
وحالياً، تسعى دراسة في جامعة بريستول إلى تحديد الآثار الجانبية التي يتعرَّض لها الأشخاص عند إعطائهم لقاح الإنفلونزا الموصى به جنباً إلى جنب مع لقاحات (أوكسفورد- استرازينيكا)، أو (فايزر- بيونتيك). كما أنَّه من شأن تلقي جرعة موحَّدة للقاح مضاد لفيروس "كوفيد-19"، ولقاح الإنفلونزا أن يضمن تغطية أكبر للقاح الإنفلونزا.
شتاء أقل تكلفة
بالطبع، يمكن أن تتباين فعالية لقاحات الإنفلونزا من موسم إلى آخر، ومن شخص لآخر، التي عادة ما تتراوح فعاليتها بين 40% و 60% عندما تتوافق بشكلٍ جيد مع المتحوِّرات المنتشرة.
وسيكون من مصلحتنا تطبيق عادات "كوفيد" التي ألفناها على أمراض مثل الإنفلونزا. مما قد يعني تبني نظام العمل الهجين بصورة أكبر خلال أشهر ذروة الإنفلونزا أو في حالة تفشي المرض. أيضاً، سيكون من المنطقي للغاية ارتداء الأقنعة في أوقات معينة، حتى لو لم يكن ذلك إلزامياً. لو أنَّ "كوفيد-19"، سيكون كارثة موسمية متكررة مثل الأنفلونزا- كما يبدو محتملاً- سنحتاج إلى إدارة الضغط على الأنظمة الصحية بشكلٍ أفضل خلال فصل الشتاء. الأمر الذي يعني الاستعداد لتمويل مستويات أعلى من الرعاية الطبية خلال تلك الأزمات، أو بذل المزيد من الجهد لتقليل الضغط على الأنظمة الصحية.
على الأرجح لن نقضي أبداً على الإنفلونزا والفيروسات الأخرى، ولكن يمكننا أن نجعل الشتاء أقل تكلفة، وأقل بؤساً من خلال تحسين الأداء في مواجهة المرض الذي يعالجه كثير منا بشكلٍ عرضيٍّ للغاية.