غالباً ما تُقاس حصيلة الخسائر المدمرة لفيروس كوفيد-19 من خلال عدد المصابين في المستشفيات أو الوفيات، لكن آثار الوباء أعمق وأوسع نطاقاً من ذلك بكثير. ومؤخراً دق بعض المرضى ناقوس الخطر بشأن استمرار ظهور الأعراض عليهم، والتي غالباً تسبب إنهاكاً عاماً للمريض يستمر بضعة أشهر بعد الإصابة بالمرض لأول مرة. وقد تظهر عواقب أخرى، مثل زيادة معدلات الخرف وأمراض القلب، بعد سنوات أو عقود من الآن وفقاً للنتائج المبكرة، مثلها كمثل الأعراض التي تظهر على المدخنين المعرضين لخطر متزايد للإصابة بالسرطان وأمراض القلب في وقت لاحق من حياتهم.
ليس هذا وحسب، حيث امتد التأثير إلى ما هو أبعد من الآثار المباشرة لفيروس كورونا أيضاً، حيث أدت أوامر البقاء في المنزل وغيرها من الإجراءات التي تهدف إلى إبطاء انتشار العدوى إلى تأجيل الرعاية الطبية والاضطراب الاجتماعي والاقتصادي، ما أدى إلى تدهور الصحة البدنية والعقلية بطرق يصعب تحديد مدى انتشارها. وكل هذا يعني أنه رغم أن كوفيد لم يعد حالة طوارئ صحية عامة عالمية، إلا أن تأثيراته ستظل ملموسة لفترة طويلة.
1) ما تأثير كوفيد على الصحة؟
معظم الأشخاص الذين أصيبوا بـ(سارس–كوف–2)، وهو الأصل المسبب لسلالة فيروسات كورونا، تعافوا تماماً بعد ظهور أعراض خفيفة عليهم أو حتى بدون أعراض. مع ذلك، لم تكن الكثير من هذه الفيروسات مثل كوفيد-19 الذي تسبب في حدوث أزمة لم نشهد مثيلاً لها منذ جائحة الإنفلونزا الإسبانية التي ظهرت في عامي 1918-1919.
تُوفي نحو 15 مليون شخص على مستوى العالم في العامين الأولين من الجائحة وحدهما، بما في ذلك بعض الوفيات الناتجة عن الضغوط الملقاة على النظم الصحية المثقلة بأعداد المرضى التي تفوق طاقتها الاستيعابية. وشهدت الولايات المتحدة أكبر انخفاض لها منذ عامين في متوسط العمر المتوقع خلال قرن. أما بالنسبة لأولئك الذين كانوا في حالة حرجة ونجوا بعدها، فإن ما يُقدّر بثلاثة من كل أربعة أشخاص أصيبوا بمتلازمة ما بعد العناية المركزة، والتي تظهر فيها مجموعة من التأثيرات السلبية على الدماغ والرئة ومشكلات جسدية أخرى.
مأساة وفيات كورونا التي كان ممكناً تجنبها
حتى بالنسبة للمرضى الذين لم يدخلوا المستشفى، زاد كوفيد من خطر الإصابة بمرض السكري وأمراض المناعة الذاتية، ومشكلات الإحساس وتلف الأعضاء. وتواجه النساء الحوامل مخاطر إضافية وكذلك الأطفال حديثي الولادة، وخاصة الذكور منهم. ووُصفت المشكلات الصحية المستمرة التي يعاني منها بعض المرضى، والتي غالباً ما يُطلق عليها اسم "كوفيد المطول"، على أنها جائحة بعد الجائحة بسبب الأشخاص المصابين البالغ عددهم 65 مليوناً على الأقل استناداً إلى معدل إصابات متحفظ يُقدّر بنحو 10% من أكثر من 651 مليون حالة مثبة حول العالم.
2) ماذا عن التأثيرات غير المباشرة؟
عطلت أزمة كوفيد الرفاهية والوظائف والدخل المالي للناس في جميع أنحاء العالم. وتقلص النشاط الاقتصادي في 90% من البلدان وزاد الفقر العالمي لأول مرة منذ جيل، وفقاً لتقرير البنك الدولي لعام 2022. كما توسعت خدمات النظم الصحية إلى أقصى حدودها، ما أدى إلى عرقلة الإجراءات الروتينية الأخرى مثل فحص السرطان وحتى أمراض النساء الولادة. وكشف الوباء عن أوجه الضعف وعدم المساواة في النظام الصحي، وفاقم النقص في المهارات بين العاملين الصحيين. وأدت هذه العوامل إلى تضييق نطاق الكشف الوقائي، ومنع الأمراض الفتاكة مثل شلل الأطفال من الانتشار، وزيادة الوفيات الناجمة عن السل والملاريا. كما ساهم الإجهاد غير المسبوق الناجم عن العزلة الاجتماعية والعمالة غير المستقرة في زيادة انتشار القلق والاكتئاب على مستوى العالم بنسبة 25% في السنة الأولى من الوباء. وشهدت تلك الفترة أيضاً ارتفاعاً في جرائم القتل في المدن الأميركية رغم انخفاض معدل الجريمة الإجمالي.
3) كيف تأثر الأطفال بهذا؟
تشير التقديرات إلى أن إغلاق المدارس أثر على 95% من طلاب العالم، ما يجعلها واحدة من أكبر اضطرابات التعليم في التاريخ. أدى ذلك جنباً إلى جنب مع التعلم عن بعد وزيادة معدلات الإعياء والحجر الصحي إلى فقدان الشباب لأكثر من ثلث قيمة التعلم في العام الدراسي، وفقاً لتحليل شمولي نشرته مجلة "نيتشر هيومان بيهافيور"(Nature Human Behavior) .
إلى أين وصلنا في رحلة البحث عن منشأ فيروس كورونا؟
نتج عن ذلك تخلف الطلاب في مستواهم الدراسي، وصعوبة أكبر في أداء الواجبات المدرسية، والمزيد من حمل المراهقات. كما أدى النشاط البدني الأقل ووقت الجلوس أمام الشاشات لفترة أطول إلى زيادة الوزن أو السمنة لدى الأطفال وزيادة حالات قصر النظر. وأفادت منظمة اليونيسف أن ما يقرب من 67 مليون شخص على مستوى العالم فاتتهم التطعيمات الروتينية. وأعاقت الإجراءات الوقائية التي أبقت الأطفال بعيداً عن بعضهم البعض الطريقة التي تُدرب بها أجهزة المناعة لدى الأطفال. بالتالي، وبمجرد تخفيف القيود المرتبطة بالوباء، تبع ذلك العديد من الأوبئة الفيروسية، بما في ذلك مرض الكبد القاتل الذي يتطلب عملية زرع للبعض. وأدت اضطرابات النوم المرتبطة بالوباء والتوتر والقلق إلى زيادة كبيرة من يحتاجون للعلاج في مستشفيات الصحة العقلية، وزيادة في محاولات الانتحار المشتبه بها والجرعات الزائدة من المخدرات.
4) كيف يبدو الوضع في ظل كوفيد المطول؟
"كوفيد المطول" هو مصطلح جامع وفضفاض يصف المشكلات الصحية الجديدة أو العائدة أو المستمرة ذات الخطورة المتفاوتة، والتي تحدث بعد حالة عدوى بفيروس كوفيد-19 مصحوبة بأعراض أو بدون أعراض. وتشمل بعض الأعراض الشائعة السعال أو الشعور بضيق في التنفس، وفقدان الرائحة أو تغير في الذوق، والحمى، وآلام الجسم، وصعوبة النوم أو التركيز، وتغيرات الحالة المزاجية، ومشكلات في الجهاز الهضمي. مع ذلك لا توجد أي اختبارات تشخيصية أو مؤشرات حيوية لفيروس كوفيد المطول (رغم أن الأطباء قد يبحثون عن تشوهات في اختبارات تدفق الدم الدماغي وبعض الخلايا المناعية ومستويات الفيروس المعاد تنشيطه). وكل شك في الأعراض المتشابهة مع أمراض أخرى بجعل الحالة محيرة، وفي بعض الأحيان موضع شك واستهزاء، وقد أدت ببعض المصابين إلى الشعور بالخوف من التعبير عن مرضهم أمام المجتمع، والاستخفاف بحالاتنهم من الناحية الطبية، مع صعوبة الحصول على إعانات الإعاقات.
5) ما هي احتمالات التعافي؟
وجد باحثون في باريس أن أكثر من 90% من مرضى كوفيد البالغين تعافوا تدريجياً على مدى عامين، وفقاً لتحليل بيانات 2197 مريضاً نُشر في مايو في المجلة الدولية للأمراض المعدية. ولكن الآثار طويلة المدى لا تزال تتكشف، وقد لا تظهر بالكامل لعقود بسبب ارتباطها بأمراض مثل مرض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية وكذلك مرض الزهايمر ومرض باركنسون. ووجدت دراسة نُشرت في 2022 في مجلة "جاما نيورولوجي" (JAMA Neurology) أن الناجين الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً كانوا أكثر عرضة من نظرائهم غير المصابين لتدهور الذاكرة بعد عام من خروجهم من المستشفى، ما يشير إلى زيادة محتملة ناجمة عن كوفيد في عدد المصابين بالخرف حول العالم. وأفاد المشاركون في الدراسة بأنهم أصيبوا بأعراض كوفيد.
6) ما هي أسباب الإصابة بكوفيد المطول؟
في بعض الحالات، قد يكون هناك العديد من الأسباب، حيث يمكن أن تظهر الإصابات نتيجة التأثير المباشر للفيروس على الأعضاء والأنسجة، مثل ميله إلى التسبب في نزيف وتجلط في الرئتين، أو الضرر الناجم عن مهاجمة الجسم للأنسجة السليمة التي يُنظر إليها عن طريق الخطأ على أنها غريبة. وتضمنت بعض الحالات إعادة تنشيط فيروس إبشتاين-بار وفيروسات عائلة الهربس الأخرى التي تستمر بعد الإصابة. كما تشمل المحفزات المحتملة الأخرى نقص الأكسجين في الدم، وعدم التوازن في الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش في الجهاز الهضمي، أو الآثار الضارة للعلاجات المنقذة للحياة، بما في ذلك استخدام أجهزة التنفس والكورتيكوستيرويدات والمهدئات ومسكنات الألم التي يجري إعطاؤها في العناية المركزة. بينما يسعى الباحثون جاهدين لفهم الحالة، يتم التركيز على التشابه مع الأمراض الأخرى وتقديم نظرة ثاقبة للأسباب والعلاجات.
اقتصاد الصين يتعافى من "ركود كوفيد" مع ارتفاع الإنفاق
يعاني بعض الأشخاص، على سبيل المثال، من تسارع في ضربات القلب ودوخة بعد الوقوف؛ وهي علامات قد تكون لديهم حالة تسمى "بوتس" (POTS)، أو متلازمة تسرع القلب الانتصابي الوضعي. ويمكن أن تحدث هذه الحالة بسبب خلل في الجهاز العصبي اللاإرادي، الذي يتحكم في معدل ضربات القلب ودرجة حرارة الجسم والاستجابات اللاإرادية الأخرى. يشعر الآخرون بإرهاق شديد بعد مجهود بدني أو عقلي (نوع من انهيار الطاقة) يشبه متلازمة التعب المزمن، أو. التهاب الدماغ والنخاع العضلي، الذي يعرف باسم متلازمة التعب المزمن. وغالباً ما يقول الأشخاص الذين يعانون من التعب المزمن إنه بدأ بمرض شبيه بالإنفلونزا، ما دفع الباحثين إلى الاعتقاد بأن العدوى الفيروسية الحادة يمكن أن تكون وراء الإصابة به.
7) من أكثر المعرضين للإصابة بكوفيد المطول؟
ارتبطت العديد من الحالات بشكل كبير بخطر الإصابة بفيروس كوفيد المطول، ووفقاً لتحليل شمولي أجري في 2023 فأن أكثر المعرضين للإصابة به، هم: الإناث، أصحاب الوزن الزائد، والمدخنين، وأصحاب التاريخ المرضي السابق، ومن جرى إيداعهم بالمستشفيات سابقاً، أو في وحدة العناية المركزة. وكان العمر عاملاً مؤثراً كذلك، حيث انخفضت المخاطر بالنسبة للأشخاص الأصغر سناً. ووجدت الدراسات أن نسبة الحالات الجديدة انخفضت مع ارتفاع مستوى التطعيمات والإصابات السابقة بالفيروس نفسه، وكذلك تداول المتغيرات الفرعية المرتبطة بالإصابة بمرض أقل حدة. فيما أشارت أبحاث أخرى إلى أن الخطر يزداد كلما أصيب الفرد بالعدوى. ومن الأكثر عرضة للإصابة بكوفيد المطول كذلك المصابون بالحرمان الاجتماعي والاقتصادي، أو من ينتمون إلى مجموعات عرقية معينة، أو الأشخاص ذوي الميول الجنسية المزدوجة والمتحولين جنسياً.
على النقيض من ذلك، وجدت بعض الدراسات أن من يتناولون الأدوية المضادة للفيروسات مثل: باكسلوفيد، ومولنوبيرافير، أو عقار الميتفورمين المخصص لعلاج مرض السكري والنوبات الحادة من كوفيد تقل فرص إصابتهم بكوفيد المطول.
8) هل سيتعين علينا الاستمرار في التطعيم؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست مؤكدة. فاعتباراً من مارس من هذا العام، أوصت منظمة الصحة العالمية بالتطعيم والبقاء على اطلاع بجرعات التعزيز بشكل عام كطريقة للوقاية من كوفيد وحالات الإصابة غير الحادة. لكن الوكالة تدعم أيضاً إعطاء الأولوية للجرعات للأفراد المعرضين لخطر الإصابة بأمراض خطيرة ومعظمهم من كبار السن وذوي الحالات الكامنة، كما توصي بإعطاء جرعة معززة بعد 6 إلى 12 شهراً بعد آخر جرعة، اعتماداً على العمر وعوامل الخطر الأخرى. وأصدرت المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها إرشاداتها الخاصة في مايو، وأوصت كل شخص يزيد عمره عن 6 سنوات بالحصول على اللقاحات المحدثة من شركة "موديرنا" أو شراكة اللقاح الذي أصدرته "فايزر" بالتعاون مع "بيونتك".
توقعات بقفزة أعداد وفيات كورونا في الصين إلى 36 ألفاً يومياً
قالت منظمة الصحة العالمية إن توصياتها بشأن اللقاحات جاءت استجابة للظروف السائدة، والتي قد تتغير في أي وقت، ولا تعني أنه لم يعد هناك حاجة إلى تلقي جرعات معززة سنوية. في غضون ذلك، ومع نهاية حالة الطوارئ العالمية الخاصة بكوفيد، تقترب نهاية منح الجرعات المعززة المجانية المقدمة من الحكومة للجميع في العديد من الأماكن، مما قد يساهم في تراجع مناعة العديد من الأشخاص.
9) ما هي العواقب الاقتصادية لكوفيد؟
قلص كوفيد بالفعل نسب المشاركة في العمل مع زيادة نسبة الإنفاق الطبي. وقدّرت حكومة الولايات المتحدة في أواخر 2022 أن ما يقرب من مليون شخص باتوا خارج القوة العاملة، ما يكلف الدولة نحو 50 مليار دولار سنوياً في صورة رواتب مفقودة. وقدّر معهد الدراسات المالية في المملكة المتحدة في منتصف 2022 أن 1 من كل 10 أشخاص تقريباً من المصابين بفيروس كوفيد المطول يتوقفون عن العمل، ويذهب المصابون عموماً في إجازة مرضية. كما أن المرض المزمن يترك ما لا يقل عن ربع المصابين طريحي الفراش أو في منازلهم لفترات طويلة، والأشخاص الذين عانوا منه لمدة أربع سنوات على الأقل لديهم فرصة أقل من 4% للشفاء، وفقاً لـمؤسسة "سولف" (Solve) المتخصصة في متابعة مرض متلازمة التعب المزمن، وهي منظمة غير ربحية مقرها لوس أنجلوس بالولايات المتحدة. وقبل الوباء، كان هناك 1.5 مليون أميركي مصابين بالمتلازمة بتكلفة تتراوح بين 36 مليار دولار و51 مليار دولار سنوياً في العلاج وفقدان الإنتاجية، حسبما قدّر باحثون في جامعة ديبول في 2022. وتوقعوا أن كوفيد يمكن أن يرفع معدل الانتشار إلى ما بين 5 ملايين و9 ملايين، مما يؤدي إلى خسائر تصل لـ362 مليار دولار.