كيف تصمم مدينة ذكية مائياً؟

تصاميم مُدن المستقبل تأخذ باعتبارها الحلول الابتكارية لجمع المياه وإعادة تدويرها - المصدر: بلومبرغ
تصاميم مُدن المستقبل تأخذ باعتبارها الحلول الابتكارية لجمع المياه وإعادة تدويرها - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

على مرِّ التاريخ، بذلت المدن كلَّ ما في وسعها من أجل تأمين المياه. فقد بنى الرومان القنوات المائية، في حين شُيِّدت في حضارة المايا حجيرات تخزين المياه تحت الأرض، وحفر المزارعون في حضارة "الهوهوكام" قنوات تمتد أكثر من 500 ميل (1 ميل = 1.6 كم) تنتشر في المناطق التي باتت تعرف اليوم بجنوب غرب الولايات المتحدة.

في عصرنا الحالي، تعتمد المدن على وسائل تكنولوجية متنوعة للحفاظ على مواردها من المياه، بدءاً من بناء السدود التي يصل ارتفاعها 60 طابقاً، حتى استخدام المواد الكيمياوية، ومضخات الطرد المركزي، واعتماد المراحيض ذات التصاميم الخاصة. وبالرغم من ذلك؛ فإنَّ مدن المستقبل ستجد نفسها مضطرة إلى فعل المزيد.

أزمة مُنتظرة

في هذا السياق، حذَّر تقرير صدر مؤخَّراً عن الأمم المتحدة، من تسبُّب التغيُّر المناخي بتسارع وتيرة موجات الجفاف، وزيادة حدَّتها ومدَّتها، مما يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي، وارتفاع مستويات الفقر، وانعدام المساواة. ينبِّه التقرير إلى أنَّ "الجفاف كان المحفِّز الملموس ذا المفعول الأطول، من ناحية التسبُّب بالتغيُّرات السياسية، على امتداد 5 آلاف عام من التاريخ البشري". ودعا التقرير إلى اتخاذ إجراءات عاجلة، وإحداث تحوُّل على صعيد الحوكمة، من أجل إدارة المخاطر العصرية الناجمة عن الجفاف بفعالية أكبر.

موجات الجفاف والفيضانات والصقيع تضرب الإمدادات الغذائية على مستوى العالم

تنتشر الأمثلة على الجفاف حول العالم. ففي عام 2018، بالكاد استطاعت مدينة كايب تاون، في جنوب إفريقيا تجنُّب "اليوم صفر"، وهو اليوم الذي كانت ستجفُّ فيه صنابير المياه في أنحائها بشكل كامل. في غضون ذلك، تستمر طبقات المياه الجوفية في الهند بالجفاف سريعاً، في حين يعاني نهر كولورادو، -المورد المائي الأساسي للمياه بالنسبة لأربعين مليون شخص- من شحٍّ هائل، ويغرق الغرب الأميركي في أعماق موجة جفاف كبرى.

بحلول عام 2050، يُتوقَّع أن يصل عدد سكان العالم إلى 10 مليارات نسمة، وهو ما سيزيد الطلب على المياه بنسبة 55%، وبحلول ذلك الوقت، سيكون ثلثا سكان العالم يقطنون في المدن.

المصدر: صور غيتي
المصدر: صور غيتي

عن ذلك، يقول إنريكي فيفوني، خبير المياه في "جامعة ولاية أريزونا": "في حين تواصل المدن النموّ، سيزيد الطلب على المياه من عدَّة قطاعات، سواء السكانية، أو الصناعية، أو البيئية. على مخططي المدن التفكير بشكل استباقي، ليس فقط لخمس أو لعشر سنوات مستقبلاً، بل ربما لخمسين أو مئة عام".

وفيما تختلف الاستعدادات لمواجهة هذه التحديات المستقبلية من مكان إلى آخر، إلا أنَّ بعض الجهود التكتيكية تعدُّ قابلة للتطبيق في كلِّ مكان تقريباً، وبالتالي، يمكن جمع هذه الطرق معاً، بهدف وضع خطة موحَّدة لبناء مدن الغد الذكية مائياً.

برغم الأنهار والأمطار.. لماذا تعاني "تشيناي" الهندية من الجفاف؟

إعادة تدوير المياه

يتفق الخبراء على طريقة يمكن من خلالها لجميع سكان الكوكب أن يحافظوا على المياه، وهي تتمثَّل باستخدام المياه لأكثر من مرَّة واحدة. فنحن نعيد تدوير البلاستيك والمعادن، فلماذا لا نعيد تدوير المياه؟

يصف دراغان سافيتش، الرئيس التنفيذي لـ"معهد بحوث المياه" (KWR) في هولندا، إعادة التدوير في المنازل بالفرصة الـ"هائلة"، في حين ترى نيوشا عجمي، مديرة برنامج سياسة المياه في المناطق الحضرية ضمن مبادرة "المياه في الغرب" التي أطلقتها "جامعة ستانفورد"، أنَّ إعادة استخدام المياه في المكان نفسه هي الطريقة المثلى من أجل تحسين الكفاءة المائية.

وتقول عجمي: "إذا نظرنا إلى مدن اليوم، نرى أنَّ النظام المائي يعتمد فيها بشكل عام، على الاستخدام الواحد"، وأضافت: "تأتي المياه، نستخدمها مرة واحدة، ثمَّ تخرج. فالمياه التي تدفقها في المرحاض، تأتي من مصدر المياه المستخدم نفسه للشرب، وإذا ما فكرت في الأمر، ستلاحظ أنَّ هذا الأسلوب لا يحقق الكثير من الكفاءة".

لذلك، تدعو عجمي إلى استخدام المياه في المنازل عدَّة مرات، مشيرة إلى أنَّ نهج الاستخدام المتكرر قابل للتحقق، بما أنَّ العديد من استخدامات المياه، سواء على صعيد تنسيق الحدائق، أو البستنة، أو في المراحيض، لا تتطلَّب مياهاً صالحة للشرب. وبالتالي، يمكن تلبية الكثير من هذه الحاجات بالاعتماد على المياه الرمادية، وهي المياه المعاد تدويرها، والخالية من الفضلات، علماً أنَّ نحو 75% من المياه المنزلية، تعدُّ مياهاً صالحة لإعادة الاستخدام كمياه رمادية.

المصدر: صور غيتي
المصدر: صور غيتي

إذا أخذنا المراحيض على سبيل المثال، نلاحظ أنَّها تسهم في 30% من استهلاك المياه في المنازل. وهنا يمكن بسهولة استخدام المياه المعاد تدويرها، وذلك من خلال تحويل مياه المغاسل، ومياه الاستحمام، وأجهزة تنظيف الصحون، لتستخدم في المراحيض، وهو ما يخفف من الطلب على المياه.

بدأت بعض المدن بالفعل، باتخاذ إجراءات في هذا المجال، انطلاقاً من تلك المعرفة. فقد أنشأت مدينة سيدني الأسترالية، "الساحة الخضراء"، وهو مركز مدني تمَّ تصميمه انطلاقاً من أسس الاستدامة، وإعادة استخدام المياه، بما في ذلك مياه المراحيض. كما أنَّ مكتب "مايكروسوفت" في هرتسليا في إسرائيل، انتقل أيضاً لاستخدام المياه الرمادية في المراحيض.

كذلك، يمكن للمياه الرمادية أن تساعد في سدِّ الحاجة في مجال تنسيق الحدائق، الذي يسهم في نحو ثلث استهلاك المياه في المناطق السكنية بالولايات المتحدة. وقد أشارت وكالة حماية البيئة إلى أنَّ اختيار النباتات بشكل مدروس يمكن أن يوفِّر من 20 إلى 50% من كمية المياه المستخدمة في تنسيق الحدائق. كما يمكن لعمليات الريّ المناسبة أن تساعد على توفير المزيد.

قياس استخدام المياه

كذلك، من شأن توفير بيانات دقيقة حول استخدام المياه أن يساعد في المحافظة عليها. فمن خلال تحسين قياس كمية المياه، يمكن للسكان أن يفهموا بشكل أفضل استخدامهم للمياه في المنزل، سواء في المساحات الداخلية، أو الخارجية.

وقال سافيتش من (KWR): "يتمُّ قياس المياه، بدرجة أقل من الأنظمة الأخرى، كالنقل مثلاً.. إذا لم تقم بقياس الاستهلاك، فإنَّك لن تتمكَّن من إدارته".

من جهتها، ترى عجمي أنَّه يمكن لجهاز مشابه لمنتجات "نست" الذكية من "غوغل"، أن تكون مصمَّمة خصيصاً لقياس استخدام المياه بحسب الفئة، وهو أمر سيساعد في هذا المجال. مثلاً، يمكن لهذا الجهاز أن "ينبهك إذا أفرطت في استخدام المياه أثناء الاستحمام". كذلك، تدعو عجمي لعملية إصلاح لجهات مرافق أنظمة المياه نفسها، بما أنَّ هذه الشركات تحقق أرباحها من زيادة الاستخدام. إذاً، يتعيَّن فصل هيكلية الرسوم، بشكل يمكِّن هذه المرافق من تعويض التكلفة التي تتكبَّدها، بغضِّ النظر عن كمية المياه التي تبيعها.

وقالت عجمي: "إذا كنت تريد الترويج للمحافظة على المياه، فإنَّ المرافق الحالية غير مجهزة لهذا النمط من الاستهلاك"، متابعة: "فهي تبيعك سلعة".

حلول مبتكرة

من جهة أخرى؛ فإنَّه في ظلِّ شحِّ المياه، عاد بعضهم إلى تقليد حصد مياه الأمطار، الذي طالما مارسه البشر منذ القدم، وفي حال تبني هذه الممارسات على صعيد واسع؛ فإنَّها تساعد بالتخفيف من الضغط على المسطَّحات المائية، والمياه الجوفية.

وتلقى هذه التقنية تشجيعاً من المدن حول العالم. فحتى في المناطق الأكثر جفافاً، وجد السكان طريقة لجمع مياه الأمطار وتخزينها. ففي مدينة تكسون في أريزونا، استطاع أحد السكان المحليين، ويدعى براد لانكاستر، من تأمين 95% من احتياجاته المائية، من خلال حصد الأمطار. كذلك، تقدِّم العديد من المدن الأمريكية، حوافز مالية للأشخاص الذين يقيمون أنظمة لحصد مياه الأمطار، مما يمنح أنظمة المياه المحلية قدرة أكبر على الصمود.

وفي الهند، صدرت قوانين تقضي بإلزامية حصد مياه الأمطار في بعض الولايات والمدن، مثل تاميل نادو، ونيودلهي. تضيف عجمي عن ذلك:

كلّ قطرة مياه نحصدها من مصدر بديل، هي قطرة مياه لا ننتزعها من البيئة بطريقة أخرى.

كذلك؛ فإنَّ المياه الناتجة عن عمل المكيِّفات، تشكِّل مصدراً آخر للمياه، ولكن من المستبعد أن تقدِّم هذه المياه مساهمة كبرى، بالأخص في المدن التي تفتقر للرطوبة. ومع ذلك، فقد بدأت أماكن بالفعل بإعادة تدويرها، مثل مطار سان دييغو، والمكتبة العامة في أوستن، إذ يجمعا مياه المكيِّفات لاستخدامها في أعمال الغسيل بضغط المياه، والبستنة، وحتى لتخمير الجعة.

تقنيات جمع مياه الأمطار تغيِّر مستقبل مدينة توسان الصحراوية

المصدر: صور غيتي
المصدر: صور غيتي

استصلاح مياه الصرف الصحي

في منطقة فينكس العظمى، التي تعدُّ المنطقة السكانية الكبرى، الأسرع نمواً في الولايات المتحدة، تنكبُّ البلدات على إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المستصلحة، وهو ما أسهم في التخفيف من الاعتماد على المياه الجوفية. كذلك، حقَّقت مقاطعة أورانج في كاليفورنيا، معدلات قياسية في إنتاج مياه الصرف الصحي المعاد استصلاحها. وفي مدينة ويندهوك الصحراوية، عاصمة ناميبيا، تشكِّل مياه الصرف الصحي مصدراً حيوياً للمياه منذ خمسين عاماً.

كما تطرح تقنية تحلية مياه البحر، حلاً آخر لتأمين المياه. فتحويل المياه المالحة إلى عذبة أثبت أنَّه مصدر مهم للمياه، حتى في المدن التي تتمتَّع بكميات عالية من الأمطار، مثل لندن.

في هذا الإطار، تنتج أكبر منشأة تحلية مياه في أمريكا الشمالية، التي تقع في سان دييغو، عشرات ملايين الغالونات من المياه العذبة يومياً. إلا أنَّ هذه العمليات تستهلك الكثير من الطاقة، وغالباً ما يستخدم فيها الوقود الأحفوري (حتى الآن)، مما يجعل المدن تضطر للموازنة ما بين التكلفة، وانبعاثات الكربون، في حين تسعى لتلبية حاجتها للمياه.

كذلك، تبرز أيضاً بعض التقنيات الأخرى لتأمين المياه، إلا أنَّها تطبَّق على نطاق ضيق، ومنها آلات حجز الضباب، في ليما بالبيرو. حتى أنَّ محطة الفضاء الدولية تعالج تعرُّق روَّاد الفضاء، وبولهم، والرطوبة الناتجة عن تنفُّسهم، من أجل إعادة استخدام هذه المياه.

معالجة شحّ المياه

صحيح أنَّ المدن لجأت إلى مجموعة متنوعة من الحلول من أجل معالجة شحِّ المياه، إلا أنَّ التغيُّر المناخي يظلُّ السبب الجذري الذي يكمن خلف الكثير من مشاكل المياه التي تلوح في الأفق، إذ يتسبَّب في شحِّ الموارد، بما أنَّه يؤدي إلى خفض مستوى مياه الأنهار، وزيادة معدلات التبخر، وتغيير أنماط تساقط الأمطار. وبحسب خبراء المياه؛ فإنَّه في حال تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة، يمكن التخفيف من مشاكل امدادات المياه، إلا أنَّ الطلب سيستمر بالارتفاع مع ازدياد عدد السكان.

لقد بات الاحترار العالمي واقعاً لا مهرب منه، ولا بدَّ للمدن أن تصبح أكثر كفاءة على صعيد استخدام المياه، وأن تستثمر في التثقيف على هذا الصعيد، كما في تحديث أنابيب المياه القديمة، والبنية التحتية المائية. يشدِّد دراغان سافيتش، الرئيس التنفيذي لـ"معهد بحوث المياه" (KWR) في هولندا أيضاً على ضرورة تزويد أنظمة المياه بالأمن السيبراني.

سياسات ضرورية

هذا وتبرز مجموعة واسعة من التغييرات التي يمكن القيام بها على صعيد السياسات، بما فيها إلزام المباني بإعادة استخدام المياه، والتشجيع على إقامة أنظمة المياه الرمادية، واللجوء إلى وسائل تمويل مبتكرة، مثل رسوم البنية التحتية الخضراء لمياه الأمطار، الذي تفرضه مدينة تكسون، الذي يؤول ريعه لتمويل أنظمة حجز مياه الأمطار، وتطوير المساحات الخضراء.

تقول عجمي عن ذلك: "نحن نبني مدن المستقبل اليوم.. وأي تطوير جديد يتمُّ إنشاؤه سيبقى قائماً لعشرين، أو أربعين، أو مئة عام في المستقبل".

وعند التساؤل، عن الوقت الملائم لبناء مدن المستقبل الذكية مائياً؛ فإنَّ الجواب يكون في عالم مثالي: "كان يجب علينا فعل ذلك قبل عشرين، أو أربعين، أو مئة عام من اليوم. ولكن في عالمنا الحالي، فإنَّه علينا أن نبدأ بذلك الآن".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك