خلال السنوات الأربع الماضية، أنفق فيتوريو بوريلي، الرئيس التنفيذي لشركة "Fincibec SpA"، نحو 50 مليون يورو (58 مليون دولار أمريكي) لشراء أجهزة ومعدَّات لمعمله المتخصِّص بصناعة السيراميك في شمال إيطاليا، إذ أتاحت الأفران الحديثة العاملة على الغاز تقليص الوقت اللازم لتسخين البورسلين على حرارة تتجاوز ألف درجة مئوية، وهو ما أسهم في توفير الطاقة، والحدِّ من انبعاثات الكربون.
واليوم يشعر بوريلي بالقلق فيما يتعلق بمدى استطاعته الاستمرار في تطبيق هذه الاستراتيجية، عقب إعلان المفوضية الأوروبية عزمها فرض قيود أكثر صرامة على انبعاثات الكربون، مما سيضطره إلى إنفاق مزيد من الأموال في السنوات المقبلة، كي يغطِّي تكلفة التلوُّث الذي يسبِّبه معمله.
وأعرب بوريلي عن قلقه الشديد حيال هذا الإعلان، محذِّراً من أنَّ "هذه الأموال ستحرمنا من القدرة على مزيد من الاستثمارات في الأجهزة الحديثة، التي تحقِّق كفاءة الطاقة".
وفي حين يدرس الساسة الأوروبيون التفاصيل المتعلقة بتطبيق أهدافهم المناخية الطموحة، يبحث الرؤساء التنفيذيون للشركات الأوروبية عن سبل إيجاد الأموال اللازمة لتحقيق هذه الأهداف في ظلِّ التكلفة المرتفعة للتقنيات الحديثة، وارتفاع أسعار تراخيص المَعامل ذات الانبعاثات من الغازات الدفيئة إلى معدلات قياسية، هذا في الوقت الذي يترنَّح فيه الاقتصاد العالمي تحت وطأة جائحة كورونا.
ومع إعلان المفوضية عزمها خفض الانبعاثات بنسبة 55 % مع حلول عام 2030، مقارنة مع الهدف الحالي القاضي بخفضها بنسبة 40% فقط، فمن المتوقَّع أن تشهد المصانع العاملة في هذا النطاق، ارتفاعات أسعار ملحوظة في منتجاتها. وبحسب ماركو مينسينك، المدير العام لمجلس صناعة الكيمياء الأوروبي (Cefic)، فإنَّّ التحدي الذي سيواجه صنَّاع السياسات، يتمثَّل في إيجاد توازن بين طموحاتهم المتعلِّقة بالمناخ وقدرة الشركات على الاستثمار في نفسها لتحقيق هذه الأهداف.
ويشرح مينسينك قائلاً: "سيؤدي ارتفاع تسعير الكربون إلى ضغوط إضافية من أجل تحسين الكفاءة، وكلَّما ارتفعت الأسعار أكثر، سيدفع ذلك إلى الانتقال من النفط إلى موارد أخرى"، ولكنه يحذِّر : "في نهاية المطاف سيؤدي الارتفاع المتواصل في أسعار الكربون إلى التأثير في أرباح الشركات بشكل كبير جدَّاً، مما يجعلها تخفِّض المال الكافي للاستثمار في مزيد من التقنيات الحديثة".
كان قانون تحديد سقف للانبعاثات والتجارة، قد نجح في السابق في الحدِّ من الانبعاثات الناجمة عن قطاع الطاقة، إذ تراجعت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 15 % في العام الماضي، مع استبدال موارد متجددة بالفحم. ويتوقَّع أن تواجه هذه النقلة النوعية نحو بدائل صديقة للبيئة، تحديات أكبر في قطاع الصناعات الثقيلة الذي يتطلب استثمارات كبرى في التقنيات الحديثة بشكل دائم، مع احتياجات واسعة النطاق للطاقة الرخيصة والنظيفة.
ويذكر أنَّ نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في القطاعات الصناعية، تراجعت بنسبة لا تتجاوز 2 %فقط في عام 2019 بالمقارنة مع العام الذي سبقه.
وكان نظام تجارة الانبعاثات، قد أُطلق قبل 15 عاماً بهدف الحدِّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الذي يُسهِم في الاحتباس الحراري بأقلِّ تكلفة ممكنة، وذلك من خلال فرض سقف على كمية التلوُّث الذي تسبِّبه الشركات، وتمكين الشركات التي تخفِّض الانبعاثات بشكل أسرع من غيرها من بيع الكمِّيَّة غير المستخدمة من الانبعاثات المسموح لها بها مقابل تحقيق ربح، على أن تخضع الأسعار لأحكام السوق.
وعلى امتداد معظم العقد الماضي، كانت تكلفة التلوُّث منخفضة، بما أنَّ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، خففت من الناتج الصناعي، وبالتالي وفَّرت كميات هائلة من تصاريح الكربون، وبقي السعر يحوم حول 5 يوروات للطن الواحد.
وفي عام 2017 أُطلقت خطة إصلاحية ترمي إلى الحدِّ من فائض تصاريح الكربون، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار حتى وصلت إلى أعلى معدَّل لها منذ 14 سنة في يوليو الماضي، إذ بلغ السعر 30.8 يورو للطن.
وبموجب خطَّة المفوضية الأوروبية التي تُعدُّ الذراع التنفيذية للتكتل المؤلَّف من 27 دولة، ويتوقع أن يتقلص عدد تصاريح انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل أسرع، كما يتوقَّع أن تتضاعف أسعار الكربون خلال العقد المقبل، مما يثير قلق كبرى الشركات المستهلكة للطاقة حيال ميزانياتها، وقدرتها على المنافسة في ظلِّ أسوأ حالة ركود اقتصاديٍّ يعيشها العالم منذ عقود.
من جهته، أقرَّ نائب الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية فرانس تيمرمانس، في 17 سبتمبر، أنَّ هذه الخطوة "تشكِّل عبئاً كبيراً على بعض القطاعات الصناعية"، معرباً عن استعداده لمناقشة بعض التفاصيل المحددة مع المسؤولين في القطاع.
وتسعى المفوضية الأوروبية لجعل "الصفقة الخضراء" محركاً للتعافي الاقتصادي من خلال تخصيص 225 مليار يورو لمشاريع تهدف إلى مكافحة التغير المناخي.
ولحماية المنتجات الأوروبية من المنافسة، تخطط المفوضية لفرض ضريبة مناخية على المنتجات التي تدخل السوق الأوروبية، إذ ستغرِّم التسوية الضريبية عند الحدود استيراد المنتجات المستهلكة لكميات كبيرة من الطاقة، مثل الفولاذ والأسمنت، في حين يُتوقَّع أن تبدأ المفوضية العام المقبل بدراسة التفاصيل المتعلِّقة بمنح إعفاءات محتملة للدول الأكثر فقراً، إلا أنَّ مثل هذا القرار، قد يتسبَّب في نزاعات مع الشركاء التجاريين للاتحاد الأوروبي، وقد يجبر التكتل على إلغاء بعض قوانين حماية الصناعة المحلِّية، مثل تراخيص الانبعاثات المجانية التي تُمنح لبعض الشركات، في وقت يعارض فيه الصناعيُّون أيَّ تغيير في النظام الحالي لتوزيع التصاريح.
في غضون ذلك، حذَّرت مجموعة مراقبة سوق الكربون (Carbon Market Watch) من أن الرُّخَص المجانية التي تحمي الصناعات الثقيلة من ارتفاع أسعار الكربون، قد تكون السبب في تباطؤ إزالة الكربون من البيئة.
وعلَّقت أغنيس روغييرو، مسؤولة السياسات في المنظمة البيئية التي تتخذ من بروكسيل مقراً لها، قائلة: "القدرة على إجبار العاملين الأكثر تلويثاً للبيئة على اعتماد أساليب نظيفة، ستشكِّل النقطة الحاسمة التي تحدِّد مدى نجاح الصفقة الخضراء الأوروبية"، وأضافت: "نحن بحاجة إلى التصميم والإرادة السياسية من أجل تحقيق التحوُّل النظيف".
ويُتوقَّع أن يتراجع عدد تصاريح انبعاثات الكربون المجانية المتوفرة بشكل ملحوظ في العام المقبل، مما سيؤدي إلى ارتفاع أكثر في الأسعار، بما أنَّ حصة كلِّ شركة سترتبط بمعايير كفاءة الكربون التي ستصبح أكثر صرامة نتيجة التحسينات التكنولوجية.
وفي هذا السياق، فإنَّ أوتمار هوبشير، الرئيس التنفيذي لشركة "Secil" لصناعة الأسمنت البرتغالية التابعة لمجموعة "Semapa-Sociedade de Investimento e Gestao SGPS SA" قد حذَّر من أنَّه "كلَّما انخفض عدد التصاريح المجانية سترتفع الأسعار، وبالتالي ستزيد الحوافز التي تشجِّع على نقل الإنتاج إلى الخارج".
وكان هوبشير قد حصل على فائض من تصاريح الكربون هذا العام، وقرر بيع بعض منها مع اقتراب السوق من الذروة. وبحسب أرقام "بلومبرغ"، حصلت شركة هوبشير على أكثر من 9 ملايين تصريح مجانيٍّ في السنوات الماضية، إلا أنه يتوقع أن تتراجع التصاريح المجانية إلى حدٍّ كبير مستقبلاً، لدرجة قد تضطرُّ معها شركة "Secil"، كغيرها من الشركات المنافِسة، إلى الدفع مقابل تصاريح الانبعاثات بعد عام 2025.
وكان نظام تجارة انبعاثات الكربون قد صُمِّم، ليتيح خفض الأسعار في حال تباطؤ الإنتاج الصناعي، ولكن في هذه المرَّة، جاء تراجع الأسعار في بداية الأزمة الناجمة عن جائحة كورونا، وانقلب بسرعة، إذ تضاعف السعر بعد انخفاضه إلى نحو 14 يورو في 23 مارس الماضي في بورصة إنتركونتيننتال الأوروبية للعقود الآجلة.
وفي ظلِّ التوقُّعات بتشديد السياسات بموجب "الصفقة الخضراء"، تسعى بعض الشركات الصناعية إلى تخزين تصاريح الكربون، كما جذبت سوق الكربون مزيداً من المستثمرين على المدى القصير، ومنهم المستثمرون في صناديق التحوط.
وقد قال محلل "BNEF" جاهن أولسن، في لندن: "قطاع الصناعة لم يواجه مثل هذه الحالة من عدم الاستقرار في ما يخصُّ الكربون من قبل، ويأتي ذلك في خضمِّ وباء سبق أن وجَّه ضربة كبرى إلى القطاع"، موضحاً أنَّ الأكيد هو أنَّ "أسعار الكربون ستنتقل من كونها مسألة متعلقة بالامتثال للقوانين، إلى مخاطرة استراتيجية".