بالنسبة لأعداد كبيرة من الحيوانات، شكَّلت الأشهر الأولى من تفشي وباء كورونا، استراحة مريحة من البشر . فمع بقاء الناس في منازلهم، استطاعت الطيور أن تغرِّد بصوت أعلى، وتمكَّنت الحيتان من الاسترخاء في المحيطات الأكثر هدوءاً. كما سبحت الأسماك في الممرات المائية الأكثر نقاءً، وتسكَّعت الأسود في ملاعب الغولف الفارغة.
قيادة أقل.. حيوانات أكثر
الانخفاض العالمي في النشاط البشري، لم يكن دائماً مفيداً للمخلوقات كافةً. فقد ارتفعت خلال عمليات الإغلاق معدلات الصيد الجائر، وأنشطة إزالة الغابات. لكن، في الولايات المتحدة، ساهمت أوامر البقاء في المنزل على الأرجح في إنقاذ أرواح ملايين الحيوانات. وهي خطوة "يمكن أن تشكِّل أحد أكبر إجراءات الحماية التي تمَّ اتخاذها على الإطلاق في الولايات المتحدة، منذ وضع نظام الحدائق الوطنية".
وذلك وفقاً لدراسة حديثة نُشرت في مجلة "بيولوجيكال كونسيرفيشن"، التي وجدت أنَّ أعداد حيوانات الآيل، والموظ، والذئاب البرية، وأسود الجبال، وغيرها من الحيوانات البرية الكبيرة،التي تُقتل يومياً على الطرق السريعة في كاليفورنيا، وأيداهو، ومين، وواشنطن، قد تراجعت وفياتها بنسبة 34% بين منتصف مارس ومنتصف إبريل 2020. وذلك بالتزامن مع انخفاض القيادة بنسبة 71%.
كما انخفضت وفيات أسود الجبال على الطرق السريعة في كاليفورنيا بنسبة 58% . وهذه الانخفاضات غير المسبوقة في معدل وفيات الحيوانات، سرعان ما ارتفعت مرة أخرى، مع عوة حركة مرور السيارات في فصلي الربيع والصيف.
الإغلاق أنقذ ملايين الحيوانات
ولا تحتسب هذه الدراسة سوى أعداد الثدييات الضخمة، التي يُبلَّغ عن وفاتها في حوادث السير للوكالات الحكومية. وتُقدِّر أبحاث سابقة، مقتل نحو مليون حيوان فقاري يومياً على الطرق والطرق السريعة في الولايات المتحدة. مما يعني أنَّ عشرات الملايين من الطيور، والزواحف، والبرمائيات، والثدييات قد تجنَّبت الموت خلال الشهر الأول من الإغلاق، وفقاً لما قاله فريزر شيلينغ، المدير المشارك لمركز إيكولوجيا الطرق في "جامعة كاليفورنيا، ديفيس"، وهو أيضاً الكاتب الرئيسي للورقة البحثية. وبالنسبة له، فإنَّ تراجع أعداد الوفيات يؤكِّد العلاقة المباشرة بين السياسات البشرية، ومصائر الحيوانات.
يوضح شيلينغ: "إذا أردنا حماية الحياة البرية للجيل القادم، فعلينا خفض حركة المرور، أو منح الحيوانات معابر آمنة للمرور عبر الطرقات".
ممرات الهجرة
في الآونة الأخيرة، اكتسبت تصريحات شيلينغ، أو على الأقل الجزء الأخير منها، زخماً في الكونغرس. فقد قدَّم مجلس الشيوخ، ومجلس النواب اقتراحاً ضمن ميزانية الأعوام الخمسة للنقل البري، يتضمَّن إنفاق 350 مليون دولار، و400 مليون دولار، على التوالي، لإنشاء ممرات للحيوانات البرية عبر الطرقات التي تقسِّم مواطنها الطبيعية، وتعيق طرق الهجرة الخاصة بها.
ووفقاً لسوزان هولمز، مديرة السياسة الفيدرالية في "وايلد لاند نيتورك"، وهي مجموعة تختص بحماية البيئة؛ فإنَّ هذه هي المرة الأولى التي تتضمَّن فيها هذا النوع من التشريعات، تمويلاً لهذه المشاريع. وقد حاز التشريع على دعم كلا الحزبين في الولايات المتحدة. ويرجع ذلك إلى حقيقة أنَّ الطرق السريعة والسيارات، تهدد أنواع عديدة من الحيوانات البرية، مثل: الغزلان البريّة، والأيائل، والظبيان الأمريكية، التي تحظى بشعبية بين الصيادين.
حوادث خطيرة ومُكلفة
ومن بين الداعمين للتشريع، كان السيناتور الجمهوري جون باراسو، الذي شارك في مشروع قانون مجلس الشيوخ. وهو ينحدر من ولاية وايومنغ. وعن هذه الولاية، قال ستيف كلاين، وهو كبير مسؤولي السياسات في مجموعة "ثيودور روزفلت" للحفاظ على الطبيعة، المعنية بقضايا الصيد: "إنَّها تحتضن بعضاً من أهم ممرات الهجرة للحيوانات في البلاد". كما أنَّ بعضاً من هذه الحيوانات الكبيرة ذات السمات الجذابة، مثل الفهود، وكبش الجبال الصخرية، تحظى بشعبية كبيرة من المواطنين، كما يعدُّ صدمها بالسيارة أمراً شديد الخطورة.
أضافت هولمز: "الجميع يعرف شخصاً ما، قد سبق واصطدم بحيوان بريٍّ على الطريق. ذلك، إن لم يكن هو نفسه ذلك الشخص".
يذكر أنَّ فرجينيا الغربية تحتل المرتبة الأولى بالنسبة لمعدلات الاصطدام بالحيوانات البرية في الولايات المتحدة، فقد لقى 185 شخصاً حتفهم في عام 2019 جراء ذلك. كما يتعرَّض عشرات الآلاف للإصابات سنوياً. جدير بالذكر أنَّ فرجينيا الغربية هي موطن عضوة مجلس الشيوخ، الجمهورية شيلي مور كابيتو، التي تترأس اللجنة الفرعية للنقل والبنية التحتية.
حلول فعّالة
كذلك، فإنَّ حوادث الاصطدام مع أصناف الحياة البرية، مكلفة من نواحٍ أخرى أيضاً. إذ إنَّ الاصطدام بأحد الغزلان قد يتسبَّب بتلف سيارتك، وقد يكلفك حوالي الـ 6 آلاف دولار.
وفي المقابل، فقد تبيَّن أنَّ معابر الحياة البرية على الطرقات، فعالة بشكل كبير. فقد انخفض عدد اصطدام المركبات بالحيوانات البرية بنسبة 88%، وذلك بعد بناء مجموعة جسور وأنفاق لحيوانات الأيل والموظ على طول طريق 9 السريع بولاية كولورادو. كما انخفض الاصطدام بنسبة 90% بعد افتتاح ممر سفلي لغزل البغل أسفل طريق 97 السريع بولاية أوريغون، وفقاً لـ"أيه.أر.سي سوليوشنز"، وهي منظمة تدعو لنشر مررات الحيوانات.
وتحظى أمريكا الشمالية بعدد قليل من الجسور مقارنة بأوروبا، التي ظهرت فيها الجسور البرية الأولى للحيوانات في الخمسينيات. فهولندا تضمُّ أكثر من 450 جسراً، من بينها واحداً يأتي من أطول جسور العالم، في حين تمتلك ألمانيا العشرات فقط.
مشروع "ليبرتي كانيون"
تضمُّ مقترحات التشريع الأخيرة معبر "ليبرتي كانيون" للحياة البرية، الذي يمر عبر طريق الولايات المتحدة 101 في لوس أنجلوس. ومن شأن هذا المعبر، الذي تبلغ تكلفته 87 مليون دولار، إعادة ربط المواطن المهمة للأسود في جبال سانتا مونيكا، التي باتت على وشك الانقراض. وبعد مضي أعوام على اقتراح المشروع، من المتوقَّع أن يبدأ العمل فيه بحلول نهاية العام، وهو مشروع مشترك بين القطاعين العام والخاص. وبرغم اعتماده على الصناديق الخاصة والخيرية، إلا أنَّ عضو الكونغرس الديمقراطي، تيد ليو، قد خصص 5 ملايين دولار إضافية للمعبر، ضمن مشروع النقل البري في مجلس النواب.
عن ذلك، تقول بيث برات، المديرة التنفيذية الإقليمية للاتحاد الوطني للحياة البرية في ولاية كاليفورنيا: "بالنسبة لنا نحن المدافعون عن هذه الأفكار لفترة طويلة، من المثير الآن أن نراها تتمتَّع بهذا القبول على نطاق واسع".
وأضافت برات، التي تقود المشروع بجانب الوكالات الحكومية والإقليمية: "من منَّا قد لا يرغب بمنع تعرُّض الحيوانات المسكينة للاصطدام والموت من السيارات؟".
حل طارئ لمشكلة قائمة
من نواحٍ كثيرة، يعدُّ بناء الجسور للقطط البرية والأنفاق للحيوانات ذوات الحوافر، حلاً طارئاً. بات ضرورياً مع اكتشاف البشر بأنَّ الطرق الحالية تعدُّ عاملاً مسبِّباً بشكل كبير لحوادث الحيوانات وموتها. وتمَّ التوصُّل أنَّه من خلال دمج احتياجات الحياة البرية في عمليات تخطيط النقل وميزانياته من البداية، فإنَّ عملية إنشاء المعابر تصبح أقل كلفةً، وأسهل في التصميم، ذلك بحسب ما توضِّح برات. وتضيف: "حاول تعديل أحد الطرق السريعة المكونة من 10 مسارات في أحد أكثر مناطق البلاد كثافة سكانية"، وستكتشف صعوبة ذلك.
ويعدُّ النهج الأكثر استباقية لهذا النوع من البنية التحتية هو الرؤية الكامنة خلف "قانون الحفاظ على ممرات الحياة البرية"، الذي تمَّ تقديمه عام 2019، في مجلس النواب بدعم حزبي.
ويقول شيلينغ، من مركز إيكولوجيا الطرق بـ"جامعة كاليفورنيا، ديفيس"، إنَّ معابر الحيوانات ما تزال قليلة ومتباعدة في الولايات المتحدة، والمقترحات الأخيرة لتمويل المزيد منها لا تصل للعدد الفعلي المطلوب. فعلى سبيل المثال، كاليفورنيا فقط، تضمُّ وحدها مئات الأماكن على الطرقات التي تشكِّل نقاط تصادم ساخنة مع الحيوانات.
ووفقاً للورقة البحثية الحديثة لشيلينغ؛ فإنَّ فترة القيادة الأقل، من شأنها إنقاذ حياة الكثير من الحيوانات. لكن ما يحدث هو زيادة مسافات القيادة مرة أخرى، لتعود إلى مستويات ما قبل الوباء في الولايات المتحدة. وقد تتجاوز المستويات السابقة في بعض الولايات، ذلك مع وصول انبعاثات الكربون إلى مستويات تاريخية. كما تعاود أعداد وفيات أسود الجبل على الطرق السريعة، الارتفاع مرة أخرى أيضاً.
ويوضِّح شيلينغ: "الطرق، تعدُّ من أكبر ثلاثة عوامل مساهمة بتراجع الحياة البرية"، في حين يعتبر تغيُّر المناخ والصيد الجائر، من العوامل الإضافية، متابعاً: "بالنسبة لموضوع تجنُّب انقراض أصناف الحياة البرية، نحن لا نقوم بما فيه الكفاية حالياً لمنع الأمر".