النقاشات غير المنتهية والتغيير ات الهامشية التي تجري على امتداد سنوات، ربما هي وسائل تناسب العمل على بعض القضايا العالمية، لكن ليس هذا هو الحال مع تغيُّر المناخ.
هذه كانت الرسالة الأساسية التي حملها تقرير "الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050" الصادر عن وكالة الطاقة الدولية. وقالت الوكالة، التي تتّسم قراراتها تاريخياً بالحكمة، إن تحول الطاقة يمكن أن يُعبَّر عنه بالأزمة التي تتطلب عملاً جماعياً لحلّها، والتي "تتوقف على إيلاء اهتمام راسخ وفريد من نوعه من جميع الحكومات للعمل المشترك من جهة، ومع الشركات والمستثمرين والمواطنين من جهة أخرى".
دعوة إلى العمل
تقرير الوكالة الدولية جاء مدعوماً بالأرقام، إذ يتطلب الوصولُ إلى صافي انبعاثات صفرية، وفقاً لنموذج وكالة الطاقة الدولية المقترح، إنفاق 820 مليار دولار على شبكات الكهرباء سنوياً، بحلول عام 2030. وزيادة عدد نقاط شحن السيارات الكهربائية إلى 40 مليون نقطة خلال العقد القادم، ارتفاعاً من مليون نقطة عالمياً في الوقت الحالي، إضافةً إلى بناء 20 مصنعاً عملاقاً لإنتاج بطاريات "الليثيوم أيون" سنوياً على مدى العقد المقبل، وغير ذلك.
ولفهم الآثار الكاملة المترتبة على تقرير وكالة الطاقة الدولية، يجدر التركيز على المفردات المستخدمة. ديف جونز، المحلل في مركز أبحاث الطاقة النظيفة في شركة "إمبر" يقول: "هذه ليست فقط نتائج نموذجية، إنها دعوة للعمل".
وإذا تعمقنا في هذه الجملة في التقرير حول التداعيات الأمنية الخطيرة لأولئك الذين يعتمدون حالياً على إنتاج الوقود الأحفوري: "لا حاجة إلى حقول نفط وغاز طبيعي جديدة في مسارنا، كما ستتركز إمدادات النفط والغاز الطبيعي بشكل متزايد، لدى عدد محدود من المنتجين منخفضي التكلفة"، فإن عبارة "في مسارنا" تحمل كثيراً من التأييد لمعتقدات بعينها، في إشارة إلى المسار المصمَّم ليتوافق مع ما يعتبره العلماء، استناداً إلى عقود من الأدلّة، إجراءات ضرورية لتجنُّب وقوع الكوارث على نطاق الحضارة الإنسانية. يأتي ذلك بالتزامن مع محاولتنا تجنُّب ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية. وهو أيضاً مسار مصمَّم لضمان "إمدادات طاقة آمنة بأسعار معقولة لتعزيز النمو الاقتصادي"، وفقاً للوكالة.
وتُعتبر نتائج وكالة الطاقة الدولية بمثابة تغيير مذهل عن محاولاتها الأخيرة التي فشلت في تصوُّر عالم خالٍ من الانبعاثات، وكذا عن مهمتها التي استمرت نصف قرن للحفاظ على الاستقرار في أسواق الطاقة المستمدة من الوقود الأحفوري.
وقالت لورا كوزي، كبيرة مسؤولي نماذج الطاقة في وكالة الطاقة الدولية: "حسبما نرى هذا السيناريو، فإن الحل يكمن في هذا المسار الضيق للغاية، لكنه مع ذلك لا يزال ممكناً".
تجنب المخاطر الناجمة عن تحوُّل الطاقة
من جهة أخرى، يجب أن يتوازن هذا المسار مع الخطر الاقتصادي على الدول والشركات المنتجة للنفط والغاز جرَّاء وقف إنتاج واستخدام الوقود الأحفوري، إذ يمكن أن تختفي وظائف وتنخفض الإيرادات الضريبية للدول، فعلى الرغم من كل شيء، ساهم العرض والطلب على الطاقة في تشكيل النظام السياسي في القرن العشرين.
أيضاً تتمثل خطورة في كون الرهان على تقنيات معينة من شأنه أن يخلق مشكلات أخرى. على سبيل المثال، قد يتنافس الطلب على الطاقة الحيوية مع إنتاج الغذاء، ومن بين عديد من القيود على الانبعاثات التي اختارتها وكالة الطاقة الدولية لنموذجها، فقد تجاهلت الاعتماد على تعويض الكربون من خلال التشجير، وهو حل مثير للجدل.
ربما كان تحقيق صافي انبعاثات صفرية سيصبح أسهل بكثير لو أن الأمر ببساطة الضغط على زر لحل المشكلات، وهو أمر غير موجود. إذ إن الحد من الانبعاثات ليس قضية طرح أو اقتطاع يُقضى عبرها بشكل منتظم على كثير من التلوث سنوياً.
ولا يعني ذلك أيضاً الانتشار السريع للموارد النظيفة للطاقة وحسب، مثل مصادر الطاقة المتجددة والبطاريات، ولكن أيضاً تطوير التقنيات ذات التأثير المحدود أو التي تفتقر إلى التأثير حالياً، بما في ذلك تقنيات احتجاز الكربون، والهيدروجين الأخضر وتخزين الطاقة طويل الأمد.
سرعة التغيير
من جهة أخرى، يتعلق الحد من الانبعاثات أيضاً بتحسين سرعة التغيير والحفاظ على الاستقرار حيثما أمكن. وكان تغيُّر المناخ أصبح بالفعل أكثر تأثيراً في ظل موجاته الحارة والعواصف والفيضانات الشديدة التي يسبّبها، مما جعل وكالة الطاقة الدولية تدعو إلى أن يصبح تحويل نظام الطاقة نصب الأعين في كل منطقة، ودولة، ومدينة، وشركة، ومنزل، ليصبح الأمر حاجة أساسية مثل حماية المواطنين، ودفع رواتب الموظفين، وإطعام الأطفال. وهذا الأمر يدعو أيضاً إلى استبدال نظام الطاقة الموجود حالياً بالفعل.
لكن الوصول إلى هذه النقطة ليس سهلاً، فقد دأبت الجماعات البيئية ونشطاء المناخ على مطالبة الوكالة الدولية للطاقة، على مدى سنوات، برسم مسار شامل للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050. وباعتبارها وكالة لا تستجيب إلا لوزراء الدول الغنية، كان عليها الانتظار حتى يلتزم غالبية أعضائها بتحقيق هذا الهدف، بخاصة مع انضمام الولايات المتحدة، أكبر ممول لوكالة الطاقة الدولية، إلى قائمة الدول التي تلتزم الهدف المناخي، خلال الشهر الماضي.
وعلى الرغم من وجود عدد من نماذج الطاقة التي توضح كيفية وصول العالم إلى الأهداف المناخية، إلا أن قليلاً منها يحظى بانتشار وتأثير، مقارنة بالنماذج المقدمة من وكالة الطاقة الدولية. فتلك النماذج تساهم في تشكيل القرارات التي تتخذها الحكومات من نيودلهي إلى واشنطن، كما توفّر المعلومات للمستثمرين في لندن وكيب تاون. ومن المتوقع أن يكون سيناريو صافي الانبعاثات الصفرية جزءاً من جميع التقارير الرئيسية التي تنشرها وكالة الطاقة الدولية في المستقبل، مما يعني أننا سنستمر في رؤية الفجوة المذهلة بين ما حققه العالم بالفعل، والأهداف التي يجب أن يصل إليها.
ومن الأهمية، حسب جونز، الإشارة إلى أن تقرير وكالة الطاقة الدولية ليس مجرد "تدريب لنموذج صندوق أسود" تتضح مدخلاته ومخرجاته دون معرفة طريقة عمله الداخلية، بل إنه نموذج ينطوي على مئات المراحل الرئيسية في الطريق إلى تحقيق الحياد الكربوني، مثل: إلغاء محطات لتوليد الطاقة بالفحم بعد عام 2021، ووقف مبيعات السيارات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي بدايةً من عام 2035، وكذلك القضاء على الانبعاثات الناتجة عن قطاع الكهرباء قبل عام 2040، وما إلى ذلك من خطوات.
وستشهد الخطوة التالية ترجمة المحللين التحليل العالمي لوكالة الطاقة الدولية إلى أهداف على مستوى الدول والشركات. وقال جونز: "كم من هذه الأهداف يُعَدّ مستحيلاً؟ لست متأكداً حقاً. ومع ذلك، من الواضح أننا بعيدون جدّاً عن المسار الصحيح، ونحتاج إلى جرعة عمل مكثفة".