خلال السنوات القليلة الماضية، تدفق قادة الأعمال من حول العالم إلى السعودية لحضور مؤتمرات وفتح أعمال والاستثمار والإقامة فيها، مستفيدين من النهضة الاقتصادية التي نتجت عن سياسات تنويع الاقتصاد، وما تبعها من تطور اقتصادي واجتماعي.
لم يكن هذا الأسبوع مختلفاً على الرياض التي شهدت خلال العام الجاري فقط، أكثر من 19 مؤتمراً ومنتدى اقتصادياً، ولكن ما سيختلف فعلياً هو طبيعة الحضور، إذ يغلب عليه الطابع البيئي.
بدأ قادة الدول والمنظمات البيئية بالتوافد إلى المملكة لحضور فعاليات "مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر" (COP16) الذي انطلق أمس ويختتم في 13 ديسمبر الجاري.
وعلى هامش المؤتمر، أعلنت السعودية إطلاق مبادرة "شراكة الرياض العالمية للتصدي للجفاف"، وخصصت تمويلاً لها بلغ 150 مليون دولار على مدى السنوات العشر المقبلة.
تكمن أهمية هذه المبادرة في أنها تحاول المساهمة في معالجة المشكلة قبل وقوعها، عبر "الاستعداد الاستباقي"، ما يعزز من قدرة المجتمعات على التعامل مع هذه التحديات بفعالية أكبر، وفق تصريحات وزير البيئة والمياه والزراعة السعودي عبد الرحمن الفضلي.
"كوب 16" الذي يسعى إلى البحث عن حلول عاجلة للأزمات العالمية الملحة المتمثلة في تدهور الأراضي والجفاف والتصحر، ليس المؤتمر الوحيد المقام في الرياض حالياً، إذ هناك عدة فعاليات رئيسية على هامشه، منها النسخة الرابعة من "منتدى مبادرة السعودية الخضراء"، الذي بدأ اليوم ويستمر حتى الغد، و"قمة المياه الواحدة" التي تنطلق اليوم.
وزير البيئة السعودي قال في كلمته، إن التقارير الدولية تشير إلى تدهور أكثر من 100 مليون هكتار من الأراضي الزراعية والغابات والمراعي سنوياً، ما يؤثر على أكثر من 3 مليارات إنسان حول العالم، كما تقدّر الخسائر السنوية الناجمة عن تدهور الأراضي بأكثر من 6 تريليونات دولار.
مبادرات السعودية
ينبع اهتمام السعودية بهذه المبادرات من إدراكها أنها ليست محصنة تجاه التغيرات المناخية، خصوصاً أنها تقع في واحدة من أكثر المناطق جفافاً في العالم. ومن هذا المنطلق، شرعت في السنوات الماضية في إطلاق المبادرات المحلية والعالمية، ومنح تمويلات ضخمة للمساهمة في مكافحة الاحتباس الحراري.
لا يمكن فصل المبادرات البيئية عن "رؤية 2030"، والتي تخطط لإيصال المملكة إلى الحياد الصفري بحلول عام 2060، عبر تبني نموذج الاقتصاد الدائري للكربون، وتسريع الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر.
وفي هذا الإطار، أطلق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عام 2021، ثلاث مبادرات خاصة بالبيئة والتحول الأخضر، وهي: مبادرة السعودية الخضراء، ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وهما أكبر مشروع تشجير في العالم يهدف إلى زراعة 50 مليار شجرة، من بينها 10 مليارات شجرة في السعودية زرع منها حتى الآن 95 مليون شجرة، بالإضافة إلى قمة الشباب الأخضر.
وبحلول عام 2030، تخطط المملكة لزرع أكثر من 600 مليون شجرة إضافية، وإعادة تأهيل 8 ملايين هكتار من الأراضي المتدهورة، بعدما أعلنت عن إعادة تأهيل 111 ألف هكتار، منذ إطلاق المبادرة.
لم تكن هذه المبادرات بداية التحركات السعودية في مجال البيئة، فخلال العام 2016، وهو العام الذي أعلنت فيه الرؤية، أطلقت المملكة "مبادرة الملك سلمان للطاقة المتجددة"، لتعلن في العامين التاليين إطلاق "البرنامج الوطني للطاقة المتجددة"، و"الاستراتيجية الوطنية للصحة والبيئة".
وواصلت المملكة هذه المبادرات، إذ أعلنت في العام 2019 تأسيس القوات الخاصة للأمن البيئي، ثم أعلنت عن حملة "لنجعلها خضراء" للحد من التصحر في 2020.
في المجمل، بلغت المبادرات التي أطلقتها المملكة منذ الإعلان عن "مبادرة السعودية الخضراء" في 2021، أكثر من 80 مبادرة، باستثمارات بلغت 188 مليار دولار في الاقتصاد الأخضر.
ولوضع هذه الأرقام في سياق، فإن مجمل تمويل الأنشطة المناخية حول العالم من قبل مجموعة البنك الدولي بكل فروعها، بلغ 97 مليار دولار في السنة المالية 2024، وفق موقعه الرسمي.
مبادرات مرتبطة بالبيئة
لم تقتصر المبادرات السعودية على البيئة، إذ شهد العام 2022 زخماً كبيراً في المبادرات المرتبطة بهذا القطاع، منها تأسيس مركز لاحتجاز الكربون عام 2022، وإطلاق استراتيجية المياه باستثمارات بلغت 20 مليار دولار. كما أطلقت سوق الكربون الوطنية الطوعية للحد من الانبعاثات، وتعمل على بناء مشروع لالتقاط ونقل وتخزين الكربون ستصل سعته التخزينية إلى 9 ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً بحلول 2027.
كما أعلنت المملكة عن استثمارات ضخمة في مجال الهيدروجين الأخضر، فضلاً عن الاستثمارات في الطاقة المتجددة، والتي أوصلت القدرة الإجمالية لمحفظة هذه المشاريع حالياً إلى 44 جيغاواط في مراحل مختلفة من التطوير، وتحاول رفع الطاقة الإجمالية إلى ما بين 100 و130 جيغاواط بحلول 2030. كما تم تشغيل 4 محطات توليد عاملة بالغاز بقدرة إجمالية تبلغ 5.6 جيغاواط.
وانضمت المملكة أيضاً إلى "التعهد العالمي لخفض انبعاثات الميثان عالمياً"، للمساهمة في تحقيق الهدف المتمثل في خفض انبعاثات هذا الغاز بنسبة 30% بحلول 2030، مقارنة مع مستويات 2020.
الانبعاثات وقطاع النفط
لا يمكن الحديث عن المبادرات السعودية من دون التطرق إلى قطاع النفط الذي يعد أحد العوامل المساهمة في الاحتباس الحراري.
تقدر وكالة الطاقة الدولية أن أعمال استخراج النفط والغاز تساهم في نحو 15% من مجمل الانبعاثات المرتبطة بالطاقة على مستوى العالم، وهو ما يعادل 5.1 مليار طن من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
في العام 2023، بلغت حصة السعودية 11% من إنتاج النفط العالمي عبر إنتاجها 11.13 مليون برميل يومياً، وهو ما انخفض أكثر خلال العام الجاري بسبب تخفيضات الإنتاج التي تنفذها بالاتفاق مع حلفائها في "أوبك+".
تدرك المملكة أن إنتاجها النفطي الذي لا يمكن الاستغناء عنه نظراً لمساهمته الضخمة في الاقتصاد وتمويل الإنفاق سواء على تنويع الاقتصاد أو على المبادرات البيئية، يساهم في زيادة الانبعاثات.
ولكن عوضاً عن إنهاء استخراج النفط بشكل كامل، والمعاناة نتيجة غياب الإيرادات، لجأت المملكة إلى استراتيجية أخرى تتمثل في التموضع كدولة رائدة في قيادة الحقبة الخضراء المقبلة، وذلك من خلال التمويل الضخم، ووضع أهداف طموحة تتمثل في خفض الانبعاثات بمقدار 278 مليون طن مكافئ سنوياً بحلول 2030.
ظهر هذا التوجه جلياً حتى قبل إعلان المملكة عن هذه المبادرات، إذ قال ولي العهد في أبريل2021: "بصفتنا منتجاً عالمياً رائداً للنفط، ندرك تماماً نصيبنا من المسؤولية في دفع عجلة مكافحة أزمة المناخ، وإنه كما كان للسعودية دور ريادي في استقرار أسواق الطاقة خلال عصر النفط والغاز، فإننا سنعمل لقيادة الحقبة الخضراء المقبلة".